في جامعة قطر مع حافظ الأسد!!

مخلص برزق

[email protected]

لم أتعمد صياغة عنوان المقال ليتشابه مع سابقه (في المصعد مع عبد الله بن المبارك). ولعل ذلك من الموافقات غير المقصودة.. وهو ما جعله يبدو للعيان نسخة عكسية للعنوان السابق، أو ما تسمى باللغة الدارجة (نيجاتيف) الصورة أو بلهجة أحبابنا المصريين (العفريتة) وهو ما أميل إليه فاسم المشؤوم أعلاه يستحضر الكثير من الصفات المشتركة مع مردة الشياطين (المتعفرتين).. 

كان ذلك في الفترة بين العام 1979 والعام 1983 عندما خطوت أولى خطواتي في محرابها وحرمها الصغير الذي كان مبنى مؤقتاً يشبه مدرسة ابتدائية، غير أنه كان كخلية النحل بأساتذته الكبار أمثال الشيخ الدكتور العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله والشيخ حسن عيسى عبد الظاهر والدكتور عبد العظيم الديب رحمهما الله..

خلية نحل بأساتذتها وطلابها وإدارييها.. ومع ما وجدته من احتضان ورعاية وتوجيه من شيخنا الغالي الحبيب غازي أبو سماحة – رحمه الله - الذي أدخلني بوابة الخير والبركات لأمضي نحو ربي في هذه الحياة مع ثلة جعلت رضا الله غايتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها وزعيمها وقدوتها، والقرآن العظيم كتابها ودستورها، والجهاد سبيلها وطريقها لإعزاز دين الله، كل ذلك فتح أمامي أبواباً للخير فنهلت من ينابيع العلم والثقافة وتجارب الحياة الثمينة ما غيّر مجرى حياتي بالكلية..

كان لحافظ الأسد دور كبير في صقل تلك المرحلة الحساسة من حياتي فقد كان الجو مفعماً بالعواطف الجياشة التي رافقت مجازر حماة وسجن تدمر وحمص وإدلب.. وقد كان لوجود مجموعة من الإخوان السوريين هناك واحتكاكنا بهم دور كبير في الالتصاق بالمشروع الإسلامي بأبعاده المختلفة خاصة مع تزامن ما جرى في سورية بما جرى في لبنان للمخيمات الفلسطينية وصولاً إلى مذبحة صبرا وشاتيلا.. وما جرى في أفغانستان من انقلابات عسكرية واحتلال مباشر من الاتحاد السوفييتي..

أتاح لي ذلك الهالك فرصاً عظيمة ما كنت أحلم بها لولا بغيه ودمويته وإجرامه الذي  لم يكن ينافسه فيها إلا ابن عمه رفعت قائد عصابة سرايا الدفاع ولم يتفوق عليهما وبكل جدارة سوى مجرم العصر بشار الأسد..

لم تكن حادثة اغتيال الشهيدة بنان الطنطاوي في ألمانيا على أيدي خفافيش الظلام التي أرسلها حافظ الأسد رئيس العصابة المجرمة التي حكمت سورية بالحديد والنار في تلك الآونة لتمر عليّ دون أن تترك ندوباً كثيرة، فقد رأيت أستاذي الفاضل الدكتور أحمد العسال – رحمه الله- الذي كنت أدرس عنده مادة "أحكام الجهاد" كمادة اختيارية يبكي بحرقة بسبب بشاعة تلك الجريمة ولعلاقته الطيبة مع والدها الشيخ على الطنطاوي –رحمه الله –وزوجها عصام العطار، وقد كنت شغوفاً ببرنامج "على مائدة الإفطار" وتألمت لألم الشيخ الرقيق علي الطنطاوي وحزنت لحزنه وغضبت لغضبه وازداد في نفسي منسوب الحنق والبغض والكراهية لذلك الطاغوت..

كانت إحدى أهم محطات حياتي ذلك اللقاء المبارك مع الشيخ سعيد العبد الله شيخ مقارئ حماة – رحمه الله- وهو الذي ما كان يفكر في ترك بلدته المباركة حماة أبداً لولا هول ما وقع من إجرام على أهلها من ذلك المجرم الهالك حافظ وعصابته، لملم الشيخ الضرير كتبه وكراساته وترك حماة خلفه تئن نواعيرها على فراق أهلها وأحبابها. كانت هبة عظيمة من الله وهبني إياها فالتصقت بالشيخ كظله وأخذت عنه القراءة ليضعني ضمن حلقة وسلسلة كريمة ممن تلقوا كتاب الله مشافهة بسند يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك فضل عظيم من الله تعالى لا يمكن أن نوفي حق شكره عليه..

لم تكن إدلب بعيدة عني فقد زاحمت بركبي إخوة أعزاء من آل المبيض أثناء سعينا المبكر إلى شيخنا الغالي سعيد العبد الهب - رحمه الها - فكان الذي جمعنا هو القرآن، تآخت عليه أرواحنا وارتشفنا سوياً من عذب معينه ومعه أحببت إدلب أهلها وأرضها وسماءها وزيتونها وتينها وكل ما فيها.. وأحببت حلب الشهباء من خلال أخوين كريمين من آل الكردي شاركونا تلك الدروس النورانية.

أما حمص العدية فقد عرفتها وتعلق قلبي بها وأنا أنهل من معين الشيخ الحمصي الثائر محمد علي مشعل – رحمه الله- الذي أتحفنا بدروسه عن الفقه الشافعي.. كان فيها أباً حنوناً ومربياً ربانياً ومجاهداً لا يأذن للقنوط واليأس أن يتسلل إلى نفسه رغم جبال اليأس التي جثمت فوق صدر الشعب السوري الحبيب.

سورية بأسرها كانت حاضرة بقوة في تلك الحقبة ففي عام 1981 شاركت جامعة قطر عدة جامعات من دول مجلس التعاون الخليجي بمجموعة من طلابها وكنت واحداً منهم، ممّن تفضل الهس عليهم برحلة حج مشتركة لطلاب الجامعات، رافقنا فيها الشيخ محمد علي الصابوني وكانت له معنا صولات وجولات على جبل عرفات ولحظة اغتيال السادات يوم التروية في ذلك العام..

كان حظنا موفوراً كشباب متوثب لا يكاد يشبع نهمه إلا ارتشاف رحيق العلم من أكابر العلماء فالتقينا بالشيخ الدمشقي محمد لطفي الصباغ والشيخ محمد أديب الصالح والشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله وغيرهم ممن شردهم الطاغية عن أرضهم المباركة.

لم تغب عنا سورية أبداً وبقينا ننزف مع نزف جراحها ونحن نرقب صدور نشرة "النذير" بقلوب تخفق وجعاً وألماً على مسار الأحداث، بقينا نتوجع ونحن نتابع كل ما يصدر من أشرطة للشيخ أحمد القطان التي سلطت الضوء على أبعاد المأساة التي كان أبرزها رسالة الحرائر المعتقلات في سجون الهالك حافظ أسد.

كانت أناشيد "أبومازن" و"أبو الجود" و"أبو دجانة" و"أبوراتب" و"أبو عبيدة" تبكينا تارة وتبث فينا معاني الثبات والإصرار على مواصلة الطريق تارة أخرى فننشد في رحلاتنا مقاطع من ملحمة الدعوة لأبي مازن:

يا واحة الأمان أقفري... قد استبيحت الحرم... وسيقت النساء والأطفال للحمم... ليطعموا لوحشة الظلم... ليطفئوا ابتسامة الصغير... ليهتكوا قداسة الحرم

ونردد مع أبي دجانة:

قد تملك سَوطاً يكويني *** وتحز القلب بسكينٍ

قد تجعل غلك في عنقي *** وتحاول قطع شراييني

وتصادرُ شعراً أكتبه *** بشمالي إن عزّ يميني

ونتغنى بنشيد أبي الجود :

لك الكون يا رباه والنهي والأمـر *** فكيف أخاف الجَور إن أزبد الجَور

ولي إخوة يسقي الضياء وجوههم *** أقـلـهــمُ نــوراً أوان الدجـى بــــدر

وتثور حناجرنا مع أبي عبيدة مرددين:

يا تدمر الحمراء في حلل الدم *** مهلاً فلا عشنا إذا لم ننقم

هي ذاتها الأناشيد التي نسمعها اليوم ويحفظها أبناؤنا بكلمات مشابهة يحل فيها بشار مكان والده لتنصب عليه اللعنات ودعوات الويل والثبور.. مع فارق أن الأبناء يرددونها بحرارة أشد فما تنقله الفضائيات من مشاهد –وعلى الهواء مباشرة من مواقع الأحداث- يطغى عليها لون الدم، وما تنشره مواقع الإنترنت يفيض أسى وفظائع وفجائع لا تقوى على تحملها القلوب..

قد تسعفك محركات البحث في العثور على الكثير من تلك الأناشيد غير أني عجزت تماماً في العثور على ذلك النشيد الذي دأبت على ترديده وأنا في جامعة قطر لأخ كريم من شعراء قطر المبدعين زاملته حيناً ولا أدري ما فعل الله به.. ويا لها من أقدار ساقتني بعد أكثر من عشرين عاماً.. حططت رحالي في دمشق حيث حطّ قلبي فيها من قبل، وعندما عبرت بوابة المطار وجدتني أتمتم تلقائياً بذلك النشيد وأنا أغالب ضحكة أخفيها ساخراً فيها من جموع الشبيحة والأمن من حولي..

ولما تجولت في حماة الجريحة صرخت بالنشيد وأنا واثق بأن صوت نواعيرها وخرير ماء العاصي سيعقدان المسألة على أي "شبيح" يتنصت على الذي أقوله.. ومن عجب أن أحد الإخوة الذين التقيتهم في حماة أرسل إليَ برسالة قبل أيام هذا نصها الحرفي:

(السلام عليكم أبوعمر كيف الصحة؟ كيف الأهل والأولاد؟ إن شاء الله كلكم بخير.

أبوعمر أنا أتذكر أنك مرة أنشدت: لا لن نبالي لا لن نبالي؟ هل تذكرها؟ هل هي من تأليف الوالد رحمة الله عليه؟ جزاك الله خيرا. السلام عليكم)

تساءلت لحظتها: أتراني أنشدتها بصوت عالٍ قرب حي الكيلانية فسمعها مني؟ أم أن نواعير حماة حفظتها وباتت تردد بعد أن تركتها:

لا لن نبالي لا لن نبالي 

يا حافظ الكفر لا لن نبالي

إنا غداَ نلتقي في الجنان

طوبى لنا يا شهادة تعالي

تشهد دمشق لنا والروابي

تشهد حلب وحماة بالشباب

رفعت أسد إننا لن نحيد

إنا على الحق لا لن نحابي