هناك في البحر... خوف وحلم وثورة

هناك في البحر... خوف وحلم وثورة

د. سماح هدايا

في لحظة يتلاشى الفرق بين الحياة والموت، وتتكسر الفواصل...ولا يبقى سوى شعرة واهية تفصل بين الحياة والموت. وتأتي المقاومة الذاتية، ودافعية الأمل، لترجح كفة الحياة على كفة الموت؛ فمازال في العمر بقيّة، ومازال في الجسد روح تصر على الحياة والكفاح والبقاء. ومازال هناك أمل بالأمان ونحن من يحمل المشعل.

 طول عمري وأنا أرتبط بالبحر بعلاقة وثيقة؛ فالبحر عالمي الذي أقاوم فيه وبه خساراتي وانكساراتي. والبحر يجذبني بقوّة إلى اللعب بالموج وتحدي عجزي عن مواجهة أمواجه وخوفي من ضرباته. يستفزني البحر بشدّة، لكي أسبح فيه بقوة التحدّي ورغبة الانعتاق من ضآلتي البشريّة، وأحيانا أبتعد لأبرهن في نفسي ولذاتي أني أحمل من القوّة مايكفيني للحياة، وليس لدي رهاب الماء البعيد. ولا أضعف أمام مجهول الرؤية حين تتصل زرقة السماء بزرفة البحر. وأحيانا أغوص في البحر قليلا لأراقب سطح الماء من تحت الماء في موقع بين عالمين اثنين. لأتأمل الفاصل بين: ماتحت البحر وفيه، ومافوق البحر وخارجه. وكثيرا ماراقبت في الأحواض البحرية الكبيرة كيف تسبح المخلوقات البحرية تحت الماء، وأدهشني ماتملك من رشاقة مذهلة، مقارنة بحجمها الكبير، واستفزتني قوة اندفاعها وخفتها في الماء، فاعمل على تقليدها تحت الماء...

 بالطبع ما كنت أجهل بأن الخطر من الماء أكيد ويجب الانتباه له، وبأنّ الحرص على الحياة ازيد في الماء. لكنني أصبحت مع تقدم العمر أتّقي خطره بالحذر والتعقّل وعدم التهوّر...إلى أن وقع ما فاجأني وأربكني وشل قدرتي مؤقتا على التصرّف:

 "كنت أسبح في شاطيء محمي بعيد، مفتوح على بحر واسع، ولم يكن في البحر أو على الشاطىء عدد كبير من الناس. فعلى البحر قريبا من الشاطىء، يتناثر خمسة أشخاص. وعلى الشاطيء الرملي حيث محميات بيض السلاحف، يتوزع بعض المستلقين تحت الشمس. مجموعة صغيرة من المصطافين الأجانب ربّما لا يتجاوز عدد أفرادها السبعة. وكان البحر هائجا وموجاته عريضة... ونزلت البحر مع ولديّ الاثنين لكي نستمتع بالموج. وكان من الصعب، في البداية، تخطي المسافة القريبة من الشاطىء...لكن سرعان ما اندمجنا نحن الثلاثة في الموج. وشدنا الموج واللهو به واللعب إلى منطقة بعيدة عن الشاطىء وازداد فجأة عصف الموج. واكتشفنا أنا ابتعدنا كثيرا في هذا الجو العاصف. واستشعرنا الخطر، فحاولنا العودة، لكنّ الموج كان أشد من سباحتنا؛ فأصابنا نوع من الفزع، وتطوّر الفزع لدي، أنا، بشكل مفاجىء، وراحت تهاجمني صور مخيفة، وأفكار خطيرة بأتي أغرق، وأني لن أتمكن من الوصول إلى الشاطىء، وأنّ نهايتي الآن حتمية، وأنّي أضعف من الماء، وأن الماء سيغلبني، وسيطر الفزع علي، وأخذت أخبط الماء خبطا عشوائيا، وأسبح من دون أن أدرك كيف أسبح، وتلاشت مهاراتي وقدرتي، وصرت كمبتدىء مرعوب من الماء. وصار نوع من الخدر يصيب ذراعي. والموج يقوى علي ويضغط أعصابي، وتملّكني الدوار وضيق النفس والرغبة في التقيؤ, وكدت أفقد السيطرة على وعيي؛ لكنّ ابني الذي كان ورائي، صرخ بي بقوة لأسبح وأهدأ؛ وأحسست أنّي سأغرق وأنا أبلع الماء وراء الماء بسبب الموج وثقل جسمي الخائف في مواجهة الموج...وانهمر ضعفي دموعا، وبكيت خائفة...وصرت كأني لست أنا. لكنّ شيئا كان يهزني لأصمد. إرادة الحياة وصوت ابني الغاضب، كانا يحثاني على المضي في السباحة ومقاومة الخوف والعجز. ولعلّ رؤيتي لابني الأصغر، وهو يصل الشاطىء بأمان، شجّعني لفكرة النجاة، ورحت أقوّي قدرتي في مقاومة مدّ الماء وجزره. وتابعت السباحة بشيء من عزم أشد، وحاولت ان أتنفس بشيء من التهدئة، أجرب بين حركة وحركة أن أطأ الأرض بقدي، لأتأكد من وصولي بر الأمان؛ لكنّ البحر بدا لي وكأنّ المياه ابتلعت قاعه، وكاد اليأس يعاودني؛ لكنني بادرته بأن جمعت آخر قواي وتابعت السباحة بعنف وقسوة، ولما بدأت قدماي تلامسان الأرض، كان الموج العنيف يضربني ويرفعني ويرجعني، ثم أدخلتي تيار الموج في منطقة طحالب مقرفة، أخذت أدور فيها، للانفلات من لزوجتها؛ فازداد اضطرابي، وأخّرني عن الوصول، وصرت بين اليائس العاجز، والمصمم على النجاة؛ لكنّني انتفضت بي الحياة، واخذت أصمد في السباحة وسط الخوف والاضطراب حتى استطعت أخيرا وأنا ألفظ ما تبقّى من انفاس المقاومة أن ألمس قاع البحر، فوقفت بسرعة قبل أن تداهمني موجة على الأرض، وأسرعت في الخطو على الأرض، وسط الماء الكثيف، وأصابتني سكينة النسيان ودهشة الخلاص؛ فنسيت الموت، لوهلة، ونسيت الهلع، وما همني أت يضرب الموج رأسي وأنا أسير، كنت أتشبث بقوة في الأرض وأحاول الثبات والسير بثبات. ضربني الموج عدة مرات وأوقعني على حافة الشاطىء، وأنا أتعثر بالدوار. وماعاد يهمني السقوط؛ فأنا قد وصلت إلى الشاطيء. وصلت إلى السلامة. ورميت بكلي المنهوك على الشاطىء. وكأني أستغيث بحضن أمي وألوذ بدفء حنانه. وجاء ابني مسرعا، ليطمئنّ علي. واستلقيت في الرمل خائرة القوى أجاهد الغثيان والتقيؤ والدوار والسعال, لكنني شكرت ربي أنه جعلني أنجو... وشكرت الحياة أنها منحتني فرصة جديدة للعيش. وسرعان ماداهمتني الأفكار المكبّتة غاضبة معاتبة مؤنبة، وبدأت ألوم نفسي على ارتباكي وانهياري وضعفي الشديد وسوء تصرفي مع الأزمة واضطرابي الغبي. وسرقت مني لسويعات هدأة النصر والخلاص.".

 نعم هذه القصة شخصيّة وذاتيّة وفرديّة... لكن، قد يحصل شبيهها مع الناس جميعا في أوقات الضعف وعند فقدان الثقة بالذات، وفي أوقات غير متوقعة تطرأ على مسير حياتهم. وتقرعها بمطرقة لحظات صعبة تقوى على إدراكهم الواعي. ولعل قصتي أمر أتفه من أن أتحدث به في شأن عام، لكنّ لها رمزيتها الإنسانيّة و الجماعيّة والمجتمعيّة. فهي قد تكون بمثابة إشارة معنويّة لموكب ثورتنا. ونقطة صغيرة في مداد خضمها الذي تتلاطم به معارك شعبنا السوري القاسية، وما تفرشه على واقعه الإنساني من أبعاد نفسيّة شديدة الخطورة نتيجة الحصار اليومي للمعاناة الدموية في قلب الأعاصير العاتية؛ حيث الاضطهاد والقمع والإجرام وتآمر العالم وتخاذل الأقربين، وحيث الخوف والرعب. ويصبح اليأس واردا، والهزيمة ممكنة والنقد لاذعا. وأسئلة كثيرة في جدوى ما نفعل وأهميته وصلاحه ونزاهته. فمشاهد البؤس والفجائع والانكسارات، وتفاوت القوى تجرنا إلى هاوية الإحباط والاستسلام. ونكاد نخسر حتى الدعاء.

 إيماننا بأن ثورتنا حق، هو برّ أماننا النفسي. وإذا مسّنا الخوف فالواجب أنّ يقين العقل وثقة النفس وإيمان القلب يحمينا من السقوط والانهيار والتشكيك الأسود والمبالغات الكاذبة. إنّ التراجع الآن هو موت. والاستمرار في النقد السلبي وتهويل الأخطاء هو تغليب للنقص والعجز واللاجدوى، وخطوة نحو اليأس. والنظر بسوداوية الانسداد هو الحكم على ما أنجزناه من بطولات بالهباء وعلى حلمنا التّحرّري بالهزيمة. والاحتيال على الثورة وسرقتها باب في تهلكة السارق وليس الثورة. لذلك لا مفرّ من العمل الدؤوب من اجل تحقيق النصر. ولابدّ من توحيد الإرادات وتقويتها ورص الصفوف في حزمة عمل وطني معقود بأهداف الثورة، والتزود بالأمل.

 ثورتنا هي الحياة. والذين قدموا حياتهم للثورة، قدموها لكي يصنعوا الحياة من أجل الحياة، لا من أجل الخراب والدمار. سبحوا عكس التيار لأنّ أعماق الحرية تستحق المجازفة. وليس في يقينهم الانسحاب والعودة مخذلوين معرضين لأن يطوح التيار بهم.