ثقافتنا والمستقبل

ثقافتنا والمستقبل

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

تنطلق كل أمة في عملها وسلوكها من ثقافتها التي تشمل معتقداتها ولغتها وتراثها المضيء وعاداتها وتقاليدها التي تحدد أواصر الترابط والتفاعل بين الأفراد والجماعات ، وتفتح خطوط التواصل والتثاقف مع الآخرين من الأمم الأخرى ، والأمم التي تنشأ بلا ثقافة ولا تاريخ تسعى لإنشاء هذا التاريخ وتلك الثقافة ، بوصف ذلك أساس التمايز ، وربما التفوق على غيرها من الناس ، وفي الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني خير مثال .

من فضل الله على أمتنا أن كانت الثقافة الإسلامية نموذجا رحبا ورائعا للثقافة الإنسانية بمعناها الشامل الذي يتسع لمطلق الإنسان وفق قيم العدل والكرامة والأخوة البشرية بما يتجاوز المعنى العقلي إلى المعنى الخلقي كما ذهب المفكر نظمي لوقا في كتابه العظيم " محمد الرسالة والرسول ".

وكانت تطبيقات الثقافة الإسلامية في استيعاب الأجناس والثقافات المختلفة في حركة هاضمة تصب في السياق الإنساني العام بما يجعلها تتحول إلى سلوك خلقي يميز المسلم في معاملاته وفكره وتصوراته وانفتاحه على غيره من البشر تفاعلا إيجابيا واستجابة مثمرة ، وكانت جلسات الخليفة المأمون في العصر العباسي نموذجا لتجمع ذوي الثقافات المختلفة والمعتقدات المتباينة في حوار ثقافي خلاق .

وقد شهد النصف الأول من القرن العشرين صورة قريبة من عصر الازدهار الإسلامي في الرحابة والتسامح والحوار القائم على المنطق والاحترام ، بل  إن الحوارات الحادة أو ما سمي بالمعارك الثقافية ؛ كانت تقدم الحد الأدنى من المعرفة والاستجابة الثقافية التي ترتكز في كل الأحوال على ثقافة الأمة ومعطياتها من خلال المفاهيم الإسلامية العليا .

للأسف جاءت فترة الاستبداد السياسي الذي ظل ستين عاما منذ أوائل الخمسينيات في القرن العشرين حتى ثورة يناير ، نموذجا للإقصاء والتهميش بل الاستئصال ، وتصدر المشهد تيار التغريب الرافض للثقافة الإسلامية ومعطياتها ، وهو تيار يتباين فيه الرفض ، ويصل أحيانا بالشطط والغلو إلى رفض الإسلام نفسه بوصفه عائقا يحول دون التقدم الحضاري الإنساني ، وراح بعضهم يسميه بالرجعية والأصولية والظلامية ، ووصل الأمر إلى وصفه بالإظلام ، وكانت أحداث العنف والعنف المضاد التي جرت بين النظام المستبد الفاشي والجماعات الإسلامية في الثمانينيات والتسعينيات تحت ستار الحرب على الإرهاب فرصة لمثقفي النظام لشن الحملات الضارية على الثقافة الإسلامية وتشويهها نظير ما ألقي إليهم من بعض الامتيازات والمكاسب .

في فترة الستينيات كانت الحرب تحت غطاء النظام الاشتراكي بشعة وقبيحة ، وتم إغلاق خمس مجلات ثقافية ( الرسالة والثقافة والشعر والقصة والفكر المعاصر ) بجرة قلم ، بعد أن كتب أحد الكتاب الموالين للنظام مقالين طويلين ، ربط بين هذه المجلات وبين الرجعية أو الإخوان المسلمين معلنا شماتته في سيد قطب وآخرين علقوا على مشنقة الطغيان ، ووصف ذلك فيما بعد بإزالة الغمة !

في عهد السادات انشغل الناس بمواجهة العدو الصهيوني الرابض على القناة ، وأتيح للثقافة الإسلامية أن تجد فرصة محدودة للتعبير ، ولكنها لم تستمر طويلا ، فقد انتهت مع توقيع كامب ديفيد ، وتم تطبيق خطة ميتشيل لما يسمى تجفيف منابع الثقافة الإسلامية ، فأغلقت المجلات لإسلامية والأدبية وتم اعتقال صفوة الأمة في أحداث سبتمبر 81 التي راح ضحيتها السادات .

وكان خليفة السادات حريصا على استمرار سياسته القاضية بتجفيف منابع الثقافة الإسلامية ، وشهدت فترة حكمه أعجب وزارة للثقافة في التاريخ حاربت هوية الأمة واحتفلت بالمحتل الفرنسي الغازي تحت مسمى العلاقات الثقافية ، وروجت للابتذال والانحطاط ، وأقصت كل من ينتمون إلى التصور الإسلامي ، وأدخلت من أسمتهم بالمثقفين "حظيرة الثقافة " كما سماها وزير الثقافة الذي استمر قرابة ربع قرن ، لتضم هذه الحظيرة فريقا بعينه يرفض ثقافة الأمة ويعاديها لدرجة أن أعلن أحد مسئوليها بعد ثورة يناير : لن أسمح بأسلمة الأدب ولا تديين الفن .

تحولت الحظيرة الثقافية إلى تكية لاغتراف أموال الدولة في شكل تفرغ ومحاضرات وجوائز وسفريات ومؤتمرات ومجلات وصحف فاشلة وغير ذلك ، لدرجة أن أحدهم وكان رئيسا لأحد المؤتمرات منح نفسه جائزة الموتمر الضخمة ماديا ولم يستح من الجمهور ولم يخجل من نفسه أمام الحاضرين من بلاد عربية عديدة !

المفارقة أن أهل الحظيرة بعد ثورة يناير ظلوا في أماكنهم يمنحون بعضهم الجوائز والغنائم المستباحة ،ويملأون الدنيا ضجيجا  لأن الإخوان سيحرّمون الفنون والآداب ، وسيقفون ضد الثقافة والمعرفة ، وسيعيدون مصر إلى عهد ما قبل التاريخ ، وصاروا يتداولون مصطلح الأخونة لبث الرعب في نفوس الناس بتصوير الثقافة الإسلامية معادية للإنسان والبهجة والأمل ، وأظنهم في ذلك يكذبون على أنفسهم قبل أن يكذبوا على الناس ، ويكفي أن حركة الإخوان المسلمين منذ نشأتها قادت معركة ناجحة ضد الجهل والأنانية والظلام ، على الأقل فيما يتعلق بكوادرها التي تضم أفضل العناصر تعليما ومعرفة وثقافة ووعيا بالتاريخ والجغرافيا ، وكانت لهم جهود كبيرة في مجالات الأدب والفن ، فكان منهم الأدباء والشعراء الحقيقيون الذين لا يبيعون كلمتهم في سبيل عرض الدنيا الزائل ، وكان منهم الروائيون العظام والنقاد الكبار ، ومع ما فرضه النظام البوليسي الفاشي من حرب على الإسلام و تعتيم على الثقافة الإسلامية ورموزها ، فقد كان هناك من أبناء هذه الثقافة من أثروا الفنون في السينما والمسرح بقصصهم ورواياتهم ؛ ويذكر القراء أعظم الأعمال السينمائية التي قدمها عبد الحميد جودة السحار وعلى أحمد باكثير ، بل إن نجيب محفوظ نفسه مع ما روج له التيار الحظائري من غيوم ، هو ابن الثقافة الإسلامية والقرآن الكريم الذي جعل أسلوبه في غاية الرقي والشاعرية .

إن الثقافة الإسلامية الأصيلة المتفاعلة مع ما يجري حولها على امتداد العالم ، هي أمل الأمة في استعادة هويتها وذاتها التي حاول اختطافها الإنجليز الحمر وأخفقوا ، ويحاول الإنجليز السمر اختطافها ولكنهم لن ينجحوا ..

كان من المفارقات التي نقدمها لأعداء الثقافة الإسلامية أن ينشئ عبد الرحمن البنا - شقيق مؤسس الإخوان - في الثلاثينات فرقة مسرحية كان من أبرز أعضائها عبد المنعم مدبولي ، ثم إن أنور وجدي قابل الإمام الشهيد ليسمع منه : أن الفن الجيد يخدم الإسلام ، بل إن المفارقة الأوضح تكمن في أن فرقة الإخوان المسلمين ، هي التي تفوقت على باقي الفرق المسرحية الخاصة بعد ثورة يناير ، واستطاعت بإمكاناتها المحدودة أن تبهج الناس بمسرح فني راق شهد له النقاد الذين تابعوه.

ثقافتنا الإسلامية هي أمل الأمة في قدرتها على نشر المعرفة وتقديم فنون أدبية وسمعية وبصرية على مستوى عال بعيد عن التسطيح والابتذال والغاية التجارية.