التغير الاجتماعي بين الإصلاح والثورة

د. محمد أحمد الزعبي

الحالة السورية نموذجاً

د. محمد أحمد الزعبي

في تحديد معنى ومضمون مفهومي : الإصلاح Reform والثورة Revolution  لابد من الإشارة إلى الطابع النسبي للمفاهيم عموماً ، وللمفاهيم الاجتماعية على وجه الخصوص ، والتي يأخذ مضمونها عادة طابعاً خاصّاً ، سواء من حيث البعد الزماني ، أو الأيديولوجي . فما كان يعتبر قبل ألف عام " ثورة " ، قد لايعني اليوم أكثر من مجرد إصلاح عادي ، وما تعتبره فئة اجتماعية أو سياسية ما "إصلاحاً " ،  يمكن أن تعتبره فئة أخرى معارضة لها   " ثورة " . إن مثل هذا التداخل والتشابك والتناقض بين المفاهيم ولا سيما الاجتماعية منها ، لايعفي المعنيين  والمختصّين ، من محاولة فك الإشتباك والتداخل بين هذه المفاهيم (الاجتماعية خاصة) ومحاولة تحديد مضامينها . فالكلمات ( اللغة ) لابد وأن تكون مشحونة ومسكونة بالمعاني ،   سواء اليوم أو غداً أو قبل ألف عام  .

1.

يعني مفهوم " الإصلاح " لغوياً : رتق وترميم ماهو موجود بالفعل ، بغية تصحيحه ، أو تحسينه ، أو منع انهياره . إنه مجرد تعديل في التفاصيل ، أو قضاء على خطأ ، أو تحسين في الأداء ، أي أنه تعديل غير جذري في شكل الحكم ، أو العلاقات الإجتماعية . وإذا ماستخدمنا مصطلحات المنهج الجدلي ،للتفريق بين مفهومي الإصلاح والثورة ، فإن " الإصلاحي " هو الشخص الذي يرى ، أنه يمكن الوصول إلى السعادة والرفاه الاقتصادي والاجتماعي ، عن طريق تراكم الاصلاحات الجزئية ، أي عن طريق  " التدرج الكمّي" ، ودون أن تكون هناك حاجة إلى قطع هذا التدرج ، وبالتالي إلى " الطفرة الثورية " . إن الإصلاحي بهذا المعنى ، يقبل بنصف  قانون تحول التراكمات الكمية إلى حالة نوعية جديدة (التراكمات الكمّة )، ويرفض نصفه الآخر( تحول هذه التراكمات إلى شيء جديد نوعيّاً ) . هذا مع العلم أن الحس الشعبي العام ، عادة مايعبر عن مضمون هذا القانون بالقول" لقد طفح الكيل" و" القشة التي قصمت ظهر البعير " و " الصبر له حدود " ...الخ ، أي أن التراكمات الكمية ، وفق هذه الأقوال الشعبية ، لم تعد تجدي نفعاً ، ولابد من التغيير النوعي أي عمليّاً " الثورة " .

أما  مفهوم" الثورة " فيعني لغويّاً :  " الاندفاع الناجم عن تجمع أو اختزان الطاقة / القوة ، حيث يقال : ثار البركان ، وثار الرجل  و  ثارت الجماهير  ، كما ويقال في حالة العواصف والفيضانات و والتسونامي إنه    " غضب / ثورة الطبيعة ". أما المعنى السوسيولوجي لمفهوم الثورة ، فإنه يشير إلى التغيير الشامل والكامل ، المتمثل في  رفض جذري وتام للأشكال والصورالاجتماعية الشائخة والمتعفنة والمتيبسة القائمة ، أي إزالتها بالفعل الثوري ، بدلاً من إضاعة الوقت في محاولة غيرمجدية لترميمها وإصلاحها وتقويم اعوجاجها ،أي ينبغي ــ تطبيقياً ـ تبديل النظام المهترئ القائم  ، بنظام جديد ، يختلف عنه شكلاَ ومضموناً ، وهو مايعني إحداث تبدلات  ثورية عميقة وجذرية في حياة المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية .

هذا مع العلم ، إ نه لايجوز " اللعب بالثورة وبالانتفاضة المسلحة أو استعجالهما ... ذلك أن الثورة مستحيلة بدون أزمة قومية عامة ، تلف جميع طبقات الشعب ، وتوقع الارتباك واليأس والهلع في صفوف الطبقة  المستغلًة ( بكسر الغين ) ، وتؤذن بدنو ساعة الإنفجار " ( أنظر : محمد الزعبي ، التغير الاجتماعي بين علم الاجتماع البرجوازي وعلم الاجتماع الاشتراكي ، الطبعة الرابعة ، بيروت 1991 ، ص 123 ــ 136 ) .

2.

وبالانتقال إلى الحراك الشعبي والجماهيري الذي يجري في سورية منذ منتصف آذار2011 وحتى هذه اللحظة ( 26.08.2012) ، فإنه ، سواء أطلقنا عليه إسم  ثورة  (Revolution) أو انتفاضة  (Aufstand) أو حتى  تمرداً  ( Rebillion) ، وسواء أكان هذا الحراك مسلّحاً أم سلميّاً  ، فإنما يدخل في إطارموقف الشعب السوري المشروع ، من نظام حافظ الأسد ، الشمولي ـ الدكتاتوري ، المتواطئ مع العدو المحتل لكل من فلسطين وهضبة الجولان السورية  ، والذي ( نظام الأب ) ورّثه بعجره وبجره لولده بشار، الديكتاتور

الحالي الذي يقود هو وأخيه ماهر وأسرتهما حرب الإبادة ، والتطهيرالطائفي والعرقي في سورية منذ سبعة

عشر شهراً!!. هذا وتتمثل الأسباب البعيدة والعميقة والمشروعة ، لرفض الشعب السوري لنظام عائلة الأسد ، بصورة أساسية ، من وجهة نظرنا ،  بـ :   

ــ هيمنة حافظ الأسد ، وبغطاء أيديولوجي من بعض المرتزقة والمنتفعين والشبيحة ، من عسكريين ومدنيين ، يساريين ويمينيين ،عام 1970على كل من " مثّلث " الجيش والحزب والحكم في سورية ، وإقامته نظاماً شمولياً ديكتاتورياً عسكرياً ( بالتعاون والتفاهم مع بعض القوى والدول العربية والأجنبية) ، وهوــ أي النظام الشمولي الدكتاتوري ــ ما ورثه عام 2000 لولده بشار، الذي تابع طريق ( ٍ ( Streetوطريقة ( Method ) أبيه في استمرارهيمنة هذه العائلة ، على مثلث الجيش والحزب والحكم ، وهو مالمسناه ونلمسه في وطننا الحبيب  سورية ، ومنذ انفجرت ثورة آذار المجيدة  في منتصف شهر آذار 2011 ، لمس اليد .

 ــ انقلاب بشار الأسد على ربيع دمشق ،بعد حوالي ستة أشهر من خطاب القسم بتاريخ 17.7.2000 وزجه لعدد من رواد هذا الربيع من الذين صدقوا ماورد في هذا الخطاب من " إن الفكر الديموقراطي يستند إلى قبول الرأي "  ، في غياهب السجن . وهكذا تكشف ( الرئيس الشاب وطبيب العيون !!) ، عن دكتاتورأعمى مصاب بمرض العظمة ، يجمع في شخصيته المريضة ،  بين  نيرون وهولاكو وأودولف هتلر وأبيه حافظ الأسد في آن واحد ، تلك الشخصية التي كانت ، وما زالت ، و بسبب هذه الحالة المرضية ، تطرب لتصفيق المرتزقة والتافهين الذين وظفتهم أجهزته الأمنية أعضاءً في  مجلسي الدمى ( السابق والحالي ) ، وتطلق تلك الضحكة المميزة المعروفة ، تدليلا عن رضى  وقبول" سيادته " لهذا التصفيق !!.

نعم لقد تحول ربيع دمشق إلى شتاء بارد وجاف على يدي بشار الأسد ، وذلك قبل أن يجف حبر خطاب القسم ، وذهبت أدراج الرياح كافة المحاولات المخلصة ( بيان ال99 ، بيان الألف ، بيان المحامين السوريين  ،بيان ال 185 لمثقفي الخارج تأييداً لبيانات الداخل ، بيان المثقفين اللبنانيين تأييداً لبياني ال99 ،أدبيات المعارضة المختلفة في الداخل والخارج ، ... الخ ) ، والتي كانت تدور جميعها حول مطلب أساسي واحد ، يتمثل في رفع حالة الطوارئ ، وبالتالي ،  إطلاق الحريات العامة ، والإفراج عن المعتقلين السياسيين ، الذين كان عددهم مايزال في إطار الألوف ، وليس مئات الألوف كما هي الحال اليوم .

ــ رفضه تلبية المطالب المشروعة للشارع السوري ، والتي جسدها شعار الحراك السلمي في كافة المحافظات السورية ، ألا وهو شعار : الحرية والكرامة ، والذي كان يعني تطبيقياً ، المطالبة بالتغيير الجذري والجوهري  في بنية وفي ممارسات النظام ، على طريق الانتقال من الحكم الديكتاتوري العسكري الشمولي الأمني ، إلى حكم  ديموقراطي مدني تعددي وتداولي ، قائم على مبدأ " المواطنة  المتساوية " في الحقوق والواجبات المحددة بالدستوروالقانون ، ومنبثق من صندوق الاقتراع النزيه والشفاف . إن تفسيرنا لموقف النظام السلبي من مطالب ثورة آذارالمشروعة هو ــ من وجهة نظرنا ــ  الآتي :

بما أنه قد وصل إلى السلطة وراثة عن أبيه  ، وبما أن أباه قد استولى على السلطة بالمدفع والدبابة والطائرة ، وليس عن طريق صندوق الاقتراع ، وبما أن ماأخذ بالقوة لايمكن المحافظة عليه إلاّ القوة ، فقد رفض بشار المطالب المشروعة  (باعترافه) التي كتبها بداية بعض أطفال درعا على جدران مدرستهم الابتدائية ، ثم تبناها  آباء وأمهات هؤلاء الطفال ، وأصبحت لاحقاً شعاراً عاماً لثورة آذار السورية في كل مكان ،  والتي تتلخص بالحرية والكرامة ، ذلك أن المضمون الحقيقي لهذين المطلبين البسيطين ، إنما يتماهى ــ حسب عائلة الأسد ــ مع شعار ميدان التحرير بمصر : " الشعب يريد إسقاط النظام " ، وهو مايرعب هذه العائلة ويخيفها !!.

نعم لقد كان أمام بشار الأسد إمكانية احتواء غضب المواطنين السوريين المشروع ، ومعالجته " سياسياً "  ولكنه بدلاً من ذلك ، سارع  إلى خيار" الحل الأمني " الذي بدأه يوم 18 آذار 2011 ، حين اطلق شبيحته الرصاص الحي  على المتظاهرين السلميين في مدينة درعا ، وقتلوا خمسة منهم ( أيهم الحريري ، حسام عياش ، رائد الكرد ، مؤمن المسالمة ، محمود قطيش الجوابرة ) وكان هذا بداية معركة الحرية والكرامة التي انتقل أوارها من محافظة درعا إلى كافة المحافظات السورية ،  حيث كان الجميع يئنون تحت كابوس نظام عائلة الأسد الذي تجاوزت ديكتاتوريته كل الحدود ، وبات تغييره ، لا بل إسقاطه ، بما هو نظام طائفي وفاشي وديكتاتوري ،إنما يمثل الممرالإجباري الوحيد للوصول إلى نظام مدني وطني ديموقراطي تعددي وتداولي ، يحقق للشعب السوري ، وللمواطن السوري ، وبالتالي لأطفال ونساء سورية ، الحرية والكرامة والأمان .

 ــ يدعي بشار الأسد اليوم ، ويطبل مرتزقته وشبيحته لهذا الإدعاء ، أنه قد قام بتنفيذ كل ماطالبت به المعارضة السورية في الماضي والحاضر!! . بخٍ بخٍ ياسيادة الوريث ، إن الإدعاء بتنفيذ مطالب المعارضة ، لاينسجم مع تدمير حرسكم الجمهوري ، وفرقة أخيكم الرابعة ، وفرق أبناء عمومتكم الأخرى ، لكافة المدن والقرى السورية ، ولا مع قتلكم بالرصاص الحي ، وذبحكم بالسكاكين والسيوف لعشرات الألوف من رجال ونساء وأطفال هذه المعارضة ، ولا على إجبار صواريخك ، وطائراتك بكل أنواعها ، الملايين من عوائل هذه المعارضة ، على النجاة بأرواحهم وأرواح أطفالهم ، ولجوئهم إلى البلدان المجاورة ، التي تستطيع حمايتهم من الموت بالرصاص الحي ، ولكنها لاتستطيع أن تؤمن لهم مافقدوه في وطنهم وفي مدنهم وقراهم وبيوتهم 

3.

لقد قارب عمر ثورة آذار 2011 العام ونصف العام ، وبلغ عدد ضحياها على يد نظام بشار الأسد وحماة نظامه من عسكريين ومدنيين ( والمعروفين لدى الثوار جيداً ) مئات الألوف من الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين  ، وعدة ملايين من المهجرين داخلياً وخارجياً ، وما يزال المرء لايلمح أي مؤشر حقيقي لنهاية هذه المأساة الإنسانية المؤلمة ، ولهذه المجازروالمذابح المرعبة ،التي يراها العالم صباح مساء ، دون أن يقول قائلهم لسفاح دمشق و بصوت عال وجاد أن " توقف عن قتل الأطفال فوراً وإلاّ ..." .

ينقسم الموقف العالمي ( العربي والإقليمي والدولي ) حيال الثورة الشعبية السورية إلى قسمين ، بل إلى معسكرين ، واحد يدعم النظام ( روسيا ، الصين ، إيران و حزب الله ، بصورة أساسية )  وآخر يدعم شكلياً الثورة  ( فرنسا وأوروبا عامة ،الولايات المتحدة الأمريكية ، تركيا وبعض الدول العربية، بصورة أساسية).

واقع الحال ، فإن هذا الانقسام العالمي حول مايجري في سورية ، إنما يتحدد بأمرين اثنين ، الأول هو مصالح هذه الدول ، ولا سيما الاقتصادية منها ، والثاني هو دعم إسرائيل وحمايتها من مفاجآت دول الربيع العربي المحيطة بإسرائيل جغرافياً ، ولا سيما مصر وسورية ، والذي يبدو في بعض جوانبه ( أي الربيع العربي ) خارجاً عن سيطرة الدول الكبرى بشقيها الموالي والمعادي للثورة السورية .

 وإذا كانت الدول الصناعية الكبرى، مختلفة ــ على مايبدوــ حول الأمر الأول ( المصالح الاقتصادية ) ، وهو مايسمح بالكلام عن موقفين متعارضين من الثورة السورية ، فإنها  ــ أي الدول الصناعية الكبرى ــ  متفقة حول الأمر الثاني ، أي حماية إسرائيل من مفاجآت الربيع العربي ، ومنها ربيع دمشق ، ولهذا السبب ، فإن المراقب السياسي الفطن ، لايلاحظ انزعاجا حقيقياً للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا من استخدام روسيا حق الفيتو في مجلس الأمن ثلاث مرات متوالية ، لصالح نظام بشار الأسد !! ، ولعل هذا الموقف الضبابي الملتبس لأمركا وأوروبا ،هو الذي يقف وراء هتافات شباب ثورة آذار " مالنا غيرك ياألله " ، معبرين بذلك ، عن خيبة أملهم بالنظام العالمي الجديد  ، وعن معرفتهم بخلفيات وأبعاد اللعبة الدولية ، لعبة إعطاء المهل والفرص للنظام السوري ، لمتابعة مذابحه ومجازره فى كافة المدن السورية ، ابتداء من درعا وانتهاء بدير الزور ، الأمر الذي ستسقط معه شرعية الجيش السوري في وعي وفي ذهن المواطن السوري ، ويحول مهمته التقليدية المعروفة ، من حماية الوطن ، إلى حماية الوثن ، ومن تحرير الجولان إلى تحرير الحراك وعتمان !!. وبهذا يكون النظام العالمي الجديد ، قد حقق أهدافه الاستراتيجية الكبرى ، المتمثلة من جهة ، في اقتسام الكعكة السورية ، بل والمنطقة كلها ، اقتصادياً ، ومن جهة أخرى في دعم وحماية الكيان الصهيوني سياسياً وعسكرياً ، وذلك  على غرار ماحصل بعد الحرب العالمية الثانية ،  ولكن هذه المرة ، على حساب الشعب السوري ، والدم السوري ، والطفل السوري ، والمرأة السورية ، الأمر الذي معه  لم يبق أمام  ثورة الحرية والكرامة ، سوى متابعة النضال مهما بلغت التضحيات ، ولو تحت شعار " مالنا غيرك يالله " .

4. أمّا بعد ،

فإن كل من رأى ويرى ، من المسؤولين السوريين ، المدنيين والعسكريين ، مجازر ومذابح الأسر والأطفال ، التي نفذتها وتنفذها بصورة يومية  قوات بشارالأسد وشبيحته في كافة المدن والقرى السورية ، ولا سيما  مذابح الحولة ، القبير ، تريمسة ، الحراك ، داعل ، جبل الزاوية ، إعزاز ، وداريا ، الخ ...الخ ولم ينشق  بعد عن هذا النظام القاتل والمجرم ، فإننا ننصحه ، بأن يذهب إلى أقرب  مرآة ، وينظرفيها إلى وجهه  بدقّة ، ثم يعود ليخبرنا عمّا رآه في هذه المرآة ، ونحن نعده بأننا لن نبوح لأحد  بما سنسمعه منه  ، وإنما سنكتفي بأن نقول له ولأمثاله من المدنيين والعسكريين ، سواء أكانوا موالين أو صامتين أو متفرجين أو عاجزين ، " ياحيف !!! " مع الاعتذار لسميح شقير .

ــــ انتهى ــــ