تحت ظلال شناشيل البصرة

أبو عبد الله النجدي

بصمات نجدية في ربوع العراق

أبو عبد الله النجدي

اختار النجديون مدينة الزبير ملاذا ومستقرا لهم, وعاشوا هناك في مجتمع متجانس تسوده الألفة والمحبة والوئام والانسجام, فعلى الرغم من الثراء الفاحش لبعض الأسر النجدية المستقرة في الزبير, لن تجد ذلك التفاوت الطبقي في طراز البيوت وأشكالها, ولن تعثر على الفوارق الهندسية في التكوينات الخارجية لواجهات المنازل, وتكاد تكون وحدة التصاميم هي القاسم المشترك الأعظم للإحياء السكنية النجدية, لا فرق هناك بين منازل الأثرياء, ومنازل الفقراء, فكلها من نمط واحد, ومن طراز واحد, ومن حجم واحد, وهذه ميزة لا تتوفر إلا في (المدينة الفاضلة), فالترابط النسيجي الاجتماعي يعبر عن حسن الجوار, ويترك آثاره واضحة على الملامح المعمارية. .

اما الدواوين أو الديوانيات فتجدها ممتلئة بالضيوف من مختلف المكونات المهنية, من التجار والمزارعين والحرفيين, يجتمعون في مجالسهم الشعبية وكأنهم أسرة واحدة, يتبادلون الأحاديث, ويستعرضون المستجدات اليومية, ويناقشون الأوضاع العامة. .

لم يحدث أن نام جارٌ جائعا, أو بات مهموما حزينا, أذكر انه في تلك الأيام الزاخرة بالتلاحم والتفاهم, كان النجديون من ملاك بساتين النخيل, يحرصون على تهذيب حقولهم, فيمنحون أشجار النخيل أقصى اهتماماتهم الزراعية والإروائية, فيهذبونها ويشذبونها, ويزيلوا عنها الكرب المتراكم, والسعف اليابس, والألياف الحائلة, فيجمعون من تلك المخلفات النباتية كميات كبيرة من الحطب, ينقلونها إلى مدينة الزبير على ظهور الإبل والخيول المتيسرة وقتذاك, فتكون للجار حصته, وللفقير حصته, وللفلاح الحصة الأكبر, ويتصرف المالك بالمتبقي من الحطب كوقود لمواقد الطبخ. .

اما في موسم التمور, حين يُكبس محصول الحلاوي, والخضراوي في الخصاصيف, أو النصيفيات وهي أوعية مصنوعة من خوص النخيل, يخصفها الفلاح بنفسه, ويملأها بأشهى التمور وأعذبها, ثم تتولى الجمال والعربات التي تجرها الخيول والبغال نقل الآلاف منها إلى أحياء الزبير, ليوزع المحصول هناك على الجيران والفقراء والمعوزين, وبالكميات التي تسد حاجتهم المنزلية, من دون منة عليهم من أحد, فالتواصل الاجتماعي والتكافل المعيشي, وبساطة الطباع, والالتزام بخصال التواضع, هي الملامح التي رسمت المشاهد الحميمة الجميلة, وجسدت مكارم الأخلاق العربية الأصيلة. .

كانت علاقات أصحاب البساتين في أبي الخصيب مع بعضهم البعض, تنتجها الروابط المتينة المعززة بالثقة المتبادلة, ويؤطرها التشاور والرغبة المشتركة في مواجهة التحديات بقلب واحد وروح واحدة. .

البصرة في طفولتنا أجمل بكثير من المنتجعات الأوربية الوارفة الظلال, كنا عندما يقرر أجدادنا أو آبائنا اصطحابنا معهم في اليوم التالي إلى البصرة, نكاد نطير من الفرح, فيغلب علينا الحماس, نصحوا باكرين لنرتدي ثيابنا النظيفة, وحالما تنطلق بنا السيارة صوب البصرة, تنطلق معها أرواحنا لتحلق في فضاءاتها النقية, كانت المسافة بين الزبير والبصرة تتخللها البرك المتبقية من الفيضانات الموسمية لدجلة والفرات, وما أن نصل إلى منتصف الطريق, حتى تظهر في الأفق البعيد الواجهات الخضراء لبندقية الشرق, ثم تتمايل بنا السيارة على ضفاف نهر العشار, فنتأمل قصورها الشاهقة, وشناشيلها المصنوعة من خشب الصاج والأبنوس, وزوارقها العشارية (الأبلام) وهي تتهادى بخفة ودلال على وجه المياه العذبة, لكنها فقدت رونقها وبهائها الآن, واختفت بمرور الزمن وتعاقب الحروب والكوارث. .    

كانت الزبير ضاحية صحراوية تنعم بالهدوء والسكينة, تحيط بها بعض المزارع المتناثرة, بينما كانت مدينة العشار من المراكز التجارية الصاخبة, تعج بالضجيج, وتتفجر بالأنشطة البشرية التسويقية والصناعية, كنا نندهش كثيرا من هول الزحام, فنختار الجلوس على السلالم المؤدية إلى المكاتب التجارية لآبائنا, فنراقب الحشد الكبير للناس بعيون شرهة, نحدق بالشاحنات والعربات التي تجرها الخيول وهي محملة بالبضائع, أذكر ان مهمات المناولة الثقيلة للبضائع منوطة في تلك الأيام بالشباب الكرد الفيليين, كانت راوئح السوق الكبير تعبق بعطور الشاي والهيل والقهوة والليمون الممزوجة بغبار التوابل الهندية, كنا نتساءل ببراءة أين تذهب هذه البضائع المتدفقة من أسواق العشار, والى أي المدن تنتقل داخل العراق وخارجه, نتساءل أحيانا عن سر القوة البدنية التي يتمتع بها الكرد الفيليين, وكيف يحملون أكياس السكر الثقيلة بخفة ورشاقة ؟, ترتسم أمامي دائما مشاهد العلامات التجارية السائدة وقتذاك, كالسكر (الفرموزا), وصناديق الشاي ماركة الزنجي, وأبو السهم, والسمن النباتي ماركة (الراعي). لقد عشقنا البصرة وأحببناها على الرغم من ضجيجها وزحمتها وكثرة محلاتها, وحينما نعود إلى الزبير نقص على رفاقنا تفاصيل رحلتنا السعيدة إلى ضفاف شط العرب, ونستمتع كثيرا بالحديث عن جمال بساتينها, وأشجارها السامقة وهي تعانق سواري السفن الهندية الراسية على مرافئها المكتظة بالمراكب. .

كانت مدينة الزبير بمنأى عن المشاكل, ولا تحب الضجيج, فعلى الرغم من وجود القاعدة الحربية البريطانية في الشعيبة, لم يحتك بهم الناس, ولم يلتقوا بهم, كنا نشاهد الضباط الانجليز, والجنود الهنود من طائفة السيخ بعمائمهم, وهم يقودون الدراجات النارية, ومعهم بعض الجنود من جزر الملايو بسحنتهم الصفراء الداكنة, وقاماتهم الضئيلة, كنا نسميهم الكركة, وكنا نردد أغنية شعبية في تلك الأيام, تقول كلماتها:

طبوا وطنا طبوا وطنا

الكركة والهندوس طبوا وطنا

غازي تعال وشوف طبوا وطنا

كانت نظرتي, وأنا طفل لا يتجاوز السابعة, نظرة مشوبة بالحذر, خصوصا عندما أشاهد ضباطا من الانجليز يمرون بسياراتهم العسكرية في شوارعنا الترابية, مخلفين ورائهم زوبعة كثيفة من الغبار الأصفر, لم تكن تعجبني غطرستهم وهم يتأبطون عصيا خشبية, فكنت أتأفف من منظرهم كلما شاهدتهم, لا لشيء إلا لأني سمعت جدي يقول: هؤلاء كفار جاءوا ليحتلوا أرضنا, لكننا ومن دون معرفة مسبقة للطرف الآخر في الحرب العالمية, وهم الألمان, نسمع أجدادنا يشيدون بهم, ويثنون على بسالتهم في الحرب, ويتحيزون لهم ضد الانجليز, أغلب الظن إن أجدادنا يميلون للألمان لأنهم لا يشاهدونهم يمرون أمامهم بوجوههم الوردية ومشيتهم المتغطرسة. .

كنا أطفالا صغارا, نتمتع بالنشاط والحيوية, وكانت تغلب علينا طباع البداوة, نشتري الحملان الصغيرة ونسرح بها بحثا عن العشب, نصطحبها في جولاتنا في شعاب بر الزبير, نواصل السير حتى نقترب من معسكر الشعيبة, كانت الخراف الصغيرة تطيعنا طاعة عمياء, وتتبعنا حيثما نذهب, نعاملها بمنتهى الحنان, نزين أعناقها بالأجراس, نلون صوفها بالحناء, نلهو معها ونمرح, فنقترب رويدا رويدا من ثكنات الانجليز في الشعيبة, يدفعنا الفضول لمشاهدة غرائب الغزاة وعاداتهم وطقوسهم العجيبة, ولطالما وقفنا مشدوهين أمام منظر الجنود الهندوس وهم يحرقون جثث قتلاهم, ويضعون عليهم الحطب, يسكبون عليهم النفط, يشعلون النار فيهم, ثم يجمعون رمادهم, ويذرونه في الريح, مناظر غير مألوفة لنا, دفعتنا للبحث عن الأجوبة عند شيوخنا, قلنا لهم لماذا لا يكرمون الميت بدفنه, فقالوا لنا: هؤلاء بانيان سيخ وكفار, لم أدرك ما الذي يقصدونه بعبارة (بانيان) حتى يومنا هذا. .

كنت اشعر بالاشمئزاز والقرف من دوريات الجنود السيخ, لا بدوافع دينية, ولا بنوازع عرقية, لكنني وعلى الرغم من صغر سني, لم اقتنع بعملهم كمرتزقة لا قيمة لهم في خدمة الجيش البريطاني, فالحرب ليست حربهم, والمعركة ليست معركتهم, فما الذي يدفعهم للانسياق وراء الأطماع الغربية, كنت اشعر إنهم يمثلون طبقة دونية من طبقات الذل والعبودية, أشاهدهم يمرون علينا كل يوم بدراجاتهم النارية, فيحييهم الصغار بعلامات النصر, اما أنا فكنت ألوح لهم بعلامات الهزيمة والانكسار, فيعبسون بوجهي ويرددون كلمات غير مفهومة, ويمضون في طريقهم بعيونهم الممتلئة بالشر. .

تركت تلك الحقبة بصماتها في ذاكرتي حين كان الهدوء هو السمة الغالبة على أجواء مدينة الزبير, لم نكن نسمع ضجيج السيارات, ولا صخب الزحام البشري, كانت وقائع الحياة تمضي ببساطة وسلاسة رغم خشونة العيش ورتابته, كانت أوراق أشجار السدر هي الشامبو الطبيعي للنساء والرجال, وكانت مياه الآبار هي الينابيع التي نغتسل بها ونشرب منها, وكان الطين الصلصال هو الصابون الذي يكسب جلودنا النعومة والرقة, ويحمينا من الأمراض الجلدية, كنا أصحاء أقوياء, لا نعرف الطريق إلى العيادة, وليس في قريتنا طبيب اختصاصي, نعالج مرضانا عند حكيم (الديرة), فيصرف لنا الدواء من الأعشاب البرية الموجودة في بيئتنا الزاخرة بالنباتات البرية. .

نتساءل أحيانا: لماذا لا يربطون مدينة الزبير بنهر العشار, كان نهر العشار بالنسبة لنا هو الشريان النابض بالحياة, وهو الوعاء الذي يحمل المياه العذبة, ويوزعها على الجداول والسواقي في المد والجزر. .

شاءت الأقدار أن ننتقل من مدينة الزبير إلى قلب البصرة على ضفاف شط العرب, لم تكن انتقالتنا اعتيادية بالصيغة المألوفة, كانت أشبه باقتلاع الجذور من بيئة هادئة وادعة, وإعادة غرسها في بيئة صاخبة متفجرة بالنشاط. .

كان وجهاء البصرة يرتدون ملابس الأفندية, والثياب الغربية الحديثة, وكنا نرتدي الدشاديش البيض, والثياب الفضفاضة, لم أكن أتصور نفسي مرتديا البنطرون والقميص, أو متأنقا برباط العنق, أو مسرحا شعري بالطريقة الشائعة وقتذاك, كنت اشعر وكأنني مختلفا عن الناس حين ارتدي ملابس الأفندية. .

استقر بنا المقام وسط العشار, المركز التجاري للبصرة وللعراق, وللخليج كله, حيث البيوت المؤلفة من طابقين وثلاثة طوابق, والواجهات المزدانة بزخارف الشناشيل والأبنوس والصندل, والأبواب المنقوشة بمسامير النحاس, والنوافذ المضللة بالزجاج الملون, والسواقي القريبة من البيوت, والأشجار الكثيفة المورقة, كانت البصرة هي الواجهة الحضارية التي نطل من خلالها على بحار الله الواسعة, حيث الموانئ والمرافئ والأرصفة المكتظة بالسفن البخارية والمراكب الشراعية وهي تنقل السلع والبضائع من الهند والسند, ومن أوربا والصين وجزر المالاوي. .

التحقت بالمدرسة الابتدائية, وكنت الطالب الوحيد, الذي يرتدي الدشداشة البيضاء, فاستدعاني مدير المدرسة, وتحدث معي بحنان الأب المربي, طلب مني استبدال الدشداشة بالبنطرون, ثم أعطاني خطابا مكتوبا لوالدي, ففصل لي والدي ثيابا حديثة على الطراز الغربي, بيد ان البنطرون لم يكن فوق الركبة مثل بقية التلاميذ, بل تحتها بكثير, فضحك مدير المدرسة, وقال لي: أنت يا بني أشبه برجال الشرطة وسط هذا الجمع الغفير من التلاميذ, ولا ينقصك سوى السدارة والبسطال. .

وسنكمل حديثنا عن البصرة في الحلقات القادمة إن شاء الله. . .