مشكلة الدستور في بلدان الربيع العربي
عبد الكريم رضا بن يخلف
تأخر إصدار الدستور في بلدان الربيع العربي، يعطي طعما ناقصا لكل الانتصارات المحققة، و يقلل من شأن ثورات استطاعت أن تزيل أنظمة، كانت بالأمس القريب من المستحيلات السبع إزالتها، و تؤكد المقولات الشائعة، أن البناء ليس مثل الهدم، و ليست النائحة كالثكلى، و انتقلنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
لماذا تأخر صدور دساتير إلى يومنا هذا، في تونس، و ليبيا، و مصر، رغم مرور أكثر من سنة على الربيع هناك ؟ لماذا تباطأت عمليات بناء مؤسسات الدولة هناك ؟ لماذا كل هذا الفراغ القانوني الرهيب ؟ هل الثوار عرفوا كيف يسقطوا الدولة، و لم يعرفوا كيف يقيمونها ؟ هل الوحدة التي كانت أثناء الثورة، تبددت في أجواء الانتصار ؟ هل علت بعد نشوة الانتصار النعرات الإيديولوجية، و الاختلافات السياسية، و التباينات الثقافية ؟ هل حقا يصلح الثوار لميادين الوغى و النضال ؟ و لا يصلحون لميادين التسيير، و التخطيط، و الإنجاز ؟ هل معوقات خارجية تريد أن تفرض أجندتها هي السبب في التراخي الملحوظ ؟ أم هي معوقات جهات داخلية، ذات مصالح كبيرة، لا زالت تتحكم في دواليب الحكم ؟
إذا كانت تونس أقل هذه البلدان سوءا من حيث الانتقال السلس من حال الثورة إلى حال بناء المؤسسات، الواضح أن ليبيا الحرة الجديدة تمثل أسوأ نموذج لذلك، مع انتشار السلاح، و تكاثر الجماعات المسلحة، و الفوضى العارمة، و غياب المؤسسة الأمنية الرسمية الضابطة للأمور، بينما تبقى مصر مراوحة مكانها بينهما، فرغم سقوط مبارك، ما زال نظامه متوغل في المؤسسة العسكرية و المؤسسة القضائية و الإعلامية بقوة، و الثوار صاروا مختلفين في الأهداف و الوسائل، بعدما كانوا متوحدين قبل ذلك.
إذا كان التونسيون قد تجاوزوا مسألة إيجاد التأسيسية، و بانت فيها أغلبية إسلامية، استطاع الليبيون أن ينتخبوا المجلس التأسيسي، إلا أن ضبابية تعتريه مع كثرة المستقلين الذين لا يعرف لهم تموقع دقيق، و المصريون، ما زالوا في معركة إيجاد التأسيسية، في جدال قضائي لا يكاد ينتهي، و عراك سياسي لا تعرف له نهاية، و المهم أنه تترامى إلى أذهاننا أسباب رئيسية، و معوقات بارزة، تفسر هذا التأخر و التخبط و مراوحة المكان، نجملها في ما يلي :
1) خطأ الثوار في محاولة إزالة مؤسسات الدولة : كل البلدان التي شهدت هذا المنحى، عرفت تطورات دراماتيكية، على المستوى الأمني و السياسي، لما يستيقظ الشعب بلا جيش، و لا قوات الشرطة، ستحل محلهما فوضى المجتمع، و اضطرابات في البلد، مثل ما حدث في ليبيا، لذلك أراد الخارج أن لا يعيد أخطاء ليبيا في سوريا حين صرح وزير دفاع الولايات المتحدة، و ألح على "الإبقاء على القوات الحكومية السورية متماسكة عند ما يطاح بالرئيس بشار الأسد".
إن عدم الاستقرار لن يهيئ أجواء إيجابية لأي بناء سياسي، أو تأسيس الدولة.
2) ضغط الخارج : لم تكن "المساعدات الخارجية"، و "المساندات الإعلامية"، و "الاستضافات المجانية"، لبلدان عدة، كبيرة و صغيرة، أن تمر و أن تبقى بدون مقابل سياسي، مما أوقع الحكام الجدد في ورطة، بين متطلبات خارج "ثقيل"، و بين ضغوط شعبية أيضا "ثقيلة"، تواقة إلى الاستقلالية و الحرية، و التجاوب مع تطلعات الأمة.
3) طبيعة نظام الحكم : خوفا من عودة الديكتاتورية في ثوب جديد، و الاستبداد من الباب الواسع، لم يستقر في بال الأنظمة المنبتقة من أحداث الربيع العربي، صورة واحدة من صور الممارسة الديمقراطية للحكم، هل هو النظام الرئاسي، و مخاطر الاستبداد بالرأي ؟ أم النظام نصف الرئاسي، و تعقيداته التنسيقية، و مشكلة الصلاحيات ؟ أم النظام البرلماني، و البلبلة السياسية و حالة عدم الاستقرار للتحالفات السياسية ؟ هل سيختار نظام فيدرالي مع كل المخاطر الاستقلالية و التوجسات الانقسامية ؟ أم نظام مركزي مع ما تواكب هذا النوع من النظام من تفريقات جهوية، و ظلم للمناطق ؟
4) موقع الدين و مشكلة العلمانية : ما يزال موقع الإسلام من التشريع و ضبط الاجتهادات السياسية، محل اختلافات حامية بين مختلف شرائح الطبقة السياسية الجديدة، بين قائلين بعلمانية الدولة، و إسلاميتها، ينبتق تيار يحاول أن وسطيا مؤكدا على إسلامية الدولة، و براغماتيتها، و إبراز دور الاجتهاد في صيرورة الدولة في متطلبات العلاقات الخارجية، و ملابسات الداخل الملغوم.
5) طريقة الانتخاب : هل طريقة الانتخاب، و ما يمثله التعبير الشعبي السيد الحر من إيجابيات، هي أفضل طريقة لاختيار الأشخاص الذين يكتبون الدستور ؟ أم طريقة التعيين، المراعية لتركيبة المجتمع و مكوناته، و ما تمثله من إشراك الجميع في إعداد الوثيقة التي ستؤسس لطبيعة عيشهم المشترك ؟ ثم من بعد ذلك هل النسبية هي أفضل طريقة للتمثيل السياسي في البرلمان المشرع، أم الفردي المباشر و مخاطر استحواذ جهة واحدة على القرار السياسي ؟ أم نصف هكذا و نصف هكذا، في محاولة "لقطع التفاحة بين اثنين" ؟
لا شك أن مسألة إعداد الدستور مسألة جد هامة في طريق تأسيس الدولة، و أي تأخر في ذلك ستكون له انعكاسات سلبية على المجتمع، و سيفتح الباب أمام الفوضى الاجتماعية و السياسية، التي لن يرتاح المواطن فيها، إما أن يستكمل الثوار ثورتهم و يبلغوا بها إلى شاطئ الأمان، أو ستسرق منهم و تضيع دماء الشهداء، و نضالات الشعب هباء، إما أن يسرع البناءون في تأسيس الدولة، أو يبادر الفوضويون في إزالتها، فالحياة لا تقبل الفراغ، و لا تتحمل المماطلة.