دينُنا لا يعرف الإسلامَ السياسي

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

لم يغادر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دنيانا إلا بعد أن بلغ دعوته، وأدى رسالته، وترك للبشرية دينًا كاملاً واضح القواعد، بين السمات والمعالم، يحقق مصلحة البشر في الدنيا والآخرة، وأعلن ـ على رءوس الأشهاد قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة: 3).

فهو الدين الخاتم الكامل الخالد الحق (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران: 22). لذلك كان الصّدعنة، أو الانسلاخ منه مروقًا من الفطرة النقية، ومحاربة وعدوانًا على الحق، وظلمًا للنفس (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85).

وكمال هذا الدين الخاتم يعني تكامل قواعده، وسمو أصوله، ووضوح منهجه وشموليته في كل جوانب الحياة ومناحيها الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، والأسية، والتربوية في حاليْ السلم والحرب، والشدة والرخاء، فهو يمثل "كلاّ مستقلاً" متكامل القواعد، متماسك الأجزاء. ومن محاسن هذا الدين أنه يأمر المسلم دائمًا بتقوى الله، وأخذ نفسه بالقيم الخلقية العليا حتى في كل نشاط مادي بحت. والارتباط بالهل في هذا المجال يرفع من قيمة هذا "النشاط المادي" من ناحية، ويدفع المسلم إلى أدائه على وجهه الأكمل من ناحية أخرى، وذلك انطلاقًا من قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162). فلا عجب أن تتكرر (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) في آيتي المداينة، وكتابة الدين (البقرة: 282 ـ 283) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى ... وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) بل إن هذا الطابع الخلقي الروحي يمتد إلى مزاولة الجنس الحلال بين الزوجين، كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم "وفي بُضْع أحدم صدقة"وكل أولئك يجعل الفصل بين وحدات القيم والأنشطة الإسلامية مستحيلاً.

أقول هذا لأن عتاة العلمانيين خرجوا علينا بمصطلح "الإسلام السياسي" ويقصدون به الدعوة إلى الحكم بكتاب الله، والسنة النبوية. ومن أشهر من روج هذا المصطلح سعيد العشماوي بكتابه "الإسلام السياسي"، وهو كتاب غاص بالأخطاء والخطايا كتبه رجل لا يعرف الفرق بين "الفطر والفطائر" أو الفرق بين "الزكاة والصدقة"، وتوالت كتبه وكتب غيره من العلمانيين ينكرون فيها أن يكون في الإسلام سياسة ونظام حكم ... إلخ.

ولكن المؤسف حقًّا أن نرى بعض الكتاب الإسلاميين ـ بحسن نية ـ يبتلعون هذا "الطُّعم" العلماني، ويستخدمون هذه التسمية التي اشتهرت وصارت مصطلحًا.

وواقع ديننا في صورته الصحيحة ـ كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعرف ولا يعترف بهذه "الإسلامات" المدعاة "إسلام سياسي ـ إسلام روحاني ـ إسلام اقتصادي ... إلخ" لأنه دين واحد شامل فيه العبادة والروحانيات، والسياسة، والاقتصاد، والجندية، والقيادة، والعلم، والتعليم، والتربية، لذا كان الأصح أن نقول: القواعد السياسية في الإسلام "هو الأصل" الذي ينسب إليه، لا "المنسوب" الملحق بغيره، فنقول: السياسة الإسلامية لا الإسلام السياسي، ومن ثم لا تصح عقيدة مسلم يزعم أنه يؤمن "بالإسلام الروحي" عبادة وشعائر، ويكفر بما عدا ذلك من سياسة وتربية وسلوك.

فليراجع الإسلاميون الذين انزلقوا ـ بحسن نية ـ إلى استخدام مصطلح "الإسلام السياسي ـ موقفهم ، وليعلموا أن البديل الصحيح هو: الجانب السياسي في الإسلام، أو نظام الحكم والسياسة في الإسلام، أو المصطلح الذي استخدمه أسلافنا وأساتذتنا من الفقهاء، وهو "السياسة الشرعية".

وهذا الانزلاق يذكرني "بانبهار" بعض مفكرينا في الخمسينيات بمصطلح "الاشتراكية" فألفوا كتبًا في "اشتراكية الإسلام"، وأجهدوا أنفسهم في بيان سبق الإسلام إلى قواعد الاشتراكية، وبعضهم وصف الإسلام بأنه "ثورة"، ووصف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه "الثائر الأول" وأبا ذر الغفاري بأنه "الاشتراكي الزاهد" وعبد الرحمن بن عوف بأنه كان يمثل "الرأسمالية الوطنية.

فلما سقطت الاشتراكيات كتب بعضهم أن الإسلام دين "ليبرالي" وأنه يأخذ في الاقتصاد "بالمذهب الحر" الذي يعتمد على قاعدة: دعه يعمل، دعه يمر" وأخشى أن يأتي من يزعم أن "الهيبزية" من الإسلام؛ لأنها ـ كما يزعم أصحابها ـ تمثل دعوة إلى دعوة الإنسان إلى بساطته الأولى، وتجنب التصنع والتكلف.

وأخشى أن يظهر من يدعو إلى "الإسلام الوجودي"؛ لأن الوجودية ـ كما يزعم أصحابها ـ تقدس حرية الفرد، وتؤمن بكيانه وقيمته، وحقه في إثبات وجوده. وبذلك تذوَّب شخصية الإسلام بالتدريج، وتنْقّض عُراه عروة عروة، بعد توزيعه على "أطباق" المذاهب والفلسفات المعاصرة. وينسى ـ أو يتناسى هؤلاء أن الإسلام يتمتع بأصالتين:

الأولى: أصالة قاعدية: وهي تعني: سمو أصوله، وعظمتها وصلاحها للبشرية جمعاء.

والثانية: أصالة زمانية: تتمثل في سبق الإسلام ـ زمنيًا ـ كل المذاهب والأيديولوجيات الوضعية.

فحقيقة الإسلام تتلخص في أنه "إسلام" وما نطالب به، وندعو إليه ليكون منهجنا الشامل في كل جوانب حياتنا هو "الإسلام الإسلامي".