الصهيونيّة: أفول الأفراد أم سقوط المشروع؟

الصهيونيّة: أفول الأفراد أم سقوط المشروع؟

محمود صالح عودة

قبل تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخيّة كان يملأ قلوب أبناء الحركة الصهيونيّة الإيمان بحقّهم المزعوم في "أرض الميعاد"، ونجحت الحركة الصهيونيّة إلى حدّ بعيد في إقناع أبناء الجاليات اليهوديّة في العالم للهجرة إلى فلسطين بحجّة الأمن والاستقرار، وأقنعتهم بمستقبل أفضل اقتصاديًا ومعيشيًا.

كان الصهيونيّون القدامى مقتنعون بأعمالهم الإرهابيّة والإجراميّة بحقّ الفلسطينيّين ومؤمنون بوجوب طرد الأخيرين من أرضهم، وما زال الحال كذلك لدى القطاع الأكبر منهم، إلاّ أنّه بعد حرب لبنان وغزّة الأخيرتين تغيّر منظور بعضهم، إثر الفشل الذريع في حرب لبنان وانعدام الأهداف في حرب غزّة، واستمرار صعود المقاومة في كليهما وحصولها على الظهير الشعبيّ، الذي قد يتحوّل إلى الحكوميّ في بعض الدول العربيّة بعد الثورة.

بدأت تثور التساؤلات في أذهان الدروز الذين تُفرض عليهم الخدمة العسكريّة، وبدأ جزءًا منهم يتحدّث عن الرجوع إلى الجذور الأصليّة، أي الفلسطينيّة. من ناحية ثانية، تراجع عدد البدو الذين يؤدّون الخدمة في جيش الاحتلال إثر الصّحوة الإسلاميّة من ناحية وتزايد الوعي بشكل عام من ناحية أخرى، بعد أن كان جزءًا من البدو في الداخل المحتلّ عام 1948 يخدمون في الجيش تقليديًا. كلّ ذلك تمّ بعد نجاح الحركة الصهيونيّة في تفتيت العرب والمسلمين في الدّاخل وشقّ صفوفهم بعد تأسيس الدولة، حيث كانت المهمّة سهلة نتيجة الجهل العام آنذاك.

من ناحية ثالثة، لم تعد تقتنع طائفة من اليهود بسياسة دولتهم. صحيح أنّ الخلاف صهيوني - صهيوني لدى البعض، ولكنّه في حالات أخرى وإن كانت قليلة صهيوني - غير صهيوني، حيث يأخذ "غير الصهيوني" أشكال مختلفة؛ فمنهم اليهوديّ المتديّن ومنهم العلمانيّ ومنهم غير ذلك، وهذه الجهة المعارضة تقف في مواجهة المشروع الصهيوني أصلاً.

ما سبق وأن كان للدولة الصهيونيّة مشكلة في تجنيد أبنائها لجيش الاحتلال بالرغم من وجود قطاع يهوديّ متديّن يرفض الخدمة ويحصل على خدمات من الدولة، وبالرغم من تهرّب البعض من الخدمة لأسباب مبدئيّة وغير مبدئيّة، وبالرغم من عدم فرض التجنيد على العرب.

إنّ القرار الإسرائيليّ بفرض التّجنيد والخدمة المدنيّة على العرب واليهود الحاريديم يشير إلى مأزق في جيش الاحتلال بشكل محدّد وفي الدّولة الصهيونيّة بشكل عام، بالرغم من عدم الوصول إلى اتفاق حتى الآن نتيجة الرفض الفلسطينيّ في الداخل ولعُقد القضيّة من أساسها.

اللافت للنظر أنّ هذا التطوّر يأتي بعد الثورات في العالم العربيّ الإسلاميّ التي بدأت تبشّر البعض وتنذر البعض الآخر من تغييرات جذريّة في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وكون إسرائيل أكبر المتضرّرين من صعود الإرادة الشعبيّة في العالم العربيّ والإسلاميّ فإنّها مضطرّة لمتابعة ما يحصل بدقّة وتفصيل، إذ تجدر الإشارة إلى الخبر الذي نشره موقع يديعوت أحرونوت بالعبريّة يوم 12/7 الجاري بأنّ عدد الضباط العاملين بجهاز المخابرات العسكريّة زاد هذا العام بنسبة 25%، وفي تعليق الجهاز (أمان) على ذلك قال إنّ السبب الأوّل "التغيّرات الاستراتيجيّة" في الشرق الأوسط إضافة إلى "ميادين استخباراتيّة جديدة" في تركيا والسعوديّة وسيناء. ناهيك عن زيادة الطلب في الأجهزة الاستخباراتيّة الأخرى التي من شأنها أن تحدث فراغًا في جيش الاحتلال، وهو ما يوضّح جزءًا من المشهد الإسرائيليّ الحالي، وتكمل المشهد الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة المتدنّية في إسرائيل.

إنّ بعض اليهود الحاريديم الذين تنوي إسرائيل تجنيدهم لجيشها يحملون عداءً علنيًا للمشروع الصهيونيّ من أساسه ولوجود إسرائيل أصلاً. وإن كان بعض اليهود يحملون هذا العداء للمشروع الصهيونيّ فلك أن تتخيّل ما يحمله الفلسطينيّون في الدّاخل لهذا المشروع وأهله - وهم ضحاياهم - وأترك لك المجال لتتخيّل ما يمكننا فعله لو أجبرنا فعلاً للخدمة في جيش الاحتلال الصهيونيّ.

إنّ مجرّد تفكير قادة إسرائيل بفرض الخدمة العسكريّة على الفلسطينيّين في الدّاخل يعدّ جنونًا، واستمرارهم في تحويل جنونهم إلى قرار إلزاميّ لا يعني أفولهم ولا سقوط مشروعهم، ولكن الاثنان معًا.