قميص عبد الناصر

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

تأثرت للغاية لوفاة أحد الصحفيين الناصريين فجأة ؛ وهو يناقش شخصا آخر حول مذابح بشار الأسد للشعب السوري الأسير، على شاشة إحدى الفضائيات العربية . كان الراحل منحازا للطاغية في حربه الآثمة ضد شعبه البائس ، بحجة الانتصار لما يسمى المقاومة والممانعة ، واستهداف سورية من قبل أشرار العالم لتقسيمها ، وإخراجها من المعادلة السياسية المرتبطة بمشكلة فلسطين .. إلى آخر ما يتردد بهذا الشأن !

حزنت لوفاة الرجل ، وكنت  أتمنى أن يعالج الأمر هو وأقرانه من زاوية الانتصار لكرامة الإنسان – أي إنسان - أولا قبل أي اعتبار آخر، كما فعل بعض الناصريين الذين انحازوا إلى ضمائرهم قبل انحيازهم إلى جماعتهم ، فرفضوا ما يفعله الطاغية السفاح من قتل وتطهير عرقي تعتمده طائفته في إخلاء مناطق بعينها وتطهيرها من سكانها الذين يمثلون الأغلبية ، مع إطلاق المدفعية والدبابات والمروحيات للقضاء على النساء والعجائز والأطفال ، وتدمير المساكن والمساجد في مشاهد لا تقل وحشية وهمجية عما كان يفعله صرب البوسنة بالمسلمين هناك في ظل حماية دولية أوربية !

بعض من يرتدي قميص عبد الناصر كان في انحيازه لأنظمة القمع والطغيان سافرا لا يتغطى ولو بورقة توت اعتقادا أن ذلك سيحمي القومية العربية ، ويقوي أواصر الوحدة بين شعوب العرب ، كيف يتحقق ذلك والطغاة يسحقون البشر ، ويصفونهم بالجرذان والجراثيم والقمل والمخدرين ؟ 

كان موقف الناصريين في اليمن أفضل من نظرائهم في بقية الدول العربية حين انحازوا للثورة مباشرة ، كما كان موقفهم أفضل من موقف الشيوعيين في دول الربيع العربي جميعا ، فقد التفوا حول القضية الكبرى وهي تحرير الوطن من الحكم الفاسد والتعاون مع غيرهم لبناء نظام حر ديمقراطي دستوري ..

معظم الشيوعيين في مصر على سبيل المثال انحازوا إلى النظام الفاسد ، الذي منحهم بعض الفتات ، ولعبوا دورا قبيحا في الهجوم على الإسلام والمسلمين ، وروجوا للطائفية ، وركزوا على قضايا جزئية متناسين قضية الوطن الكبرى وهي الحرية ، وحين أخرجتهم الانتخابات التشريعية والرئاسية صفر اليدين اتهموا الشعب بالجهل والأمية ، وازدادوا سعارا في مهاجمة الإسلام والمسلمين .

صحيح أن الناصريين لم يحصدوا مقاعد ذات بال في الانتخابات التشريعية ، ولكن بعضهم انحاز إلى الثورة والثوار ، ولم يمنعه الاختلاف الأيديولوجي والفكري من البحث عن نقاط اتفاق والتقاء مع الأغلبية من أجل الوطن ، وهو موقف مقدر ومعتبر ، ولكن بعض من يرتدون قميص عبد الناصر آثر أن يعمل لنفسه مثلما كان يعمل بوجهين في عهد المخلوع ، وكان غريبا أن تكون هناك تحالفات ناصرية مع  مرشح النظام الفاسد الذي أعلن بصراحة أنه تلميذٌ نجيبٌ للمخلوع ، ويرى فيه المثل لأعلى !

ثم كان الأغرب والأدهى أن يعلن بعضهم عن علاقة سرية مع المجلس العسكري ، وأنه نصح العسكريين بعدم تسليم السلطة إلى المدنيين ، وأنه من شارك في وضع الإعلان الدستوري المكمل المكبل !

 ثم كان الغريب الأسوأ ، وهو أن يتجرأ بعض الناصريين وقد هيمنوا على كثير من وسائط الإعلام بالهجوم على شخص الرئيس، فيعلن أنه لولا عبد الناصر ما تعلم الدكتور مرسي ، وكأن عبد الناصر كان ينفق من جيبه على تعليم المصريين ، وتصل هذه الجرأة إلى تشبيهه بالولد العبيط الذي كان يهتف في مدرسة المشاغبين " المرسي الزناتي اتحرق يا رجاله " ! ترى لو أن الرئيس مرسي وجه هذه الإهانة إلى الصحفي الناصري المؤدب كان سيقبلها ؟ وهل كان سيسكت ؟

لقد انطفأت الناصرية منذ هزيمة 67، ولم يبق من أنصارها إلا بعض من استفادوا بالمهمات غير الطيبة التي أسندت إليهم في تنظيمات وسياقات لا تشرّف مواطنا حرا كريما ، مثل التنظيم الطليعي ، ومنظمات الشباب، وخدمة الأمن والمخابرات ضد الشعب ، والعمل في بعض المؤسسات ذات الحيثية ، وبالطبع هناك من انحاز إلى الناصرية بوصف ذلك نوعا من الشهامة في مرحلة انقلب فيها المنافقون من مؤيدين لعبد الناصر ومسبحين بحمده إلى تأييد السادات والهتاف له .

بعض أعوان عبد الناصر الكبار صرحوا أنه لا يوجد شيء اسمه الناصرية ، وقد تحمل الوطن في العهد الناصري ثلاث معارك حربية رئيسية قصمت ظهر الوطن والجيش جميعا . الحرب الأولى في عام 56 وانتهت بتجريد سيناء من السلاح وعرف الجيش لأول مرة انسحابا فوضويا مخزيا سمح  للدولة اللقيطة أن تمر في مياه خليج العقبة ، وتصنع من القرية المصرية أم الرشراش المحتلة مدينة بحرية لها اسم عبري ( إيلات ) تغص بالسكان الغزاة من شتى أرجاء العالم ، والحرب الثانية بدأت فعليا في عام  62 في اليمن السعيد واستمرت خمس سنوات تم فيها القضاء على رصيد الخزينة المصرية حيث كان الإنفاق اليومي ما لا يقل عن مليون جنيه استرليني بسعر تلك الأيام ، وانهار الجيش ولم يعرف حتى اليوم عدد القتلى في هذه الحرب العبثية ، ولم يعد منها مصاب واحد فقد تواترت الأنباء أن المصابين وخاصة من بترت أطرافهم كان يلقى بهم في البحر الأحمر العميق كي لا يهيج الشعب !

ثم جاءت الحرب الثالثة ليعلن الزعيم الملهم ، خالد الذكر والهزائم ؛ أنه ليس " خِرِعًا " مثل مستر إيدن ؛ فتم تدمير سلاح الطيران وذبح الجيش بلا رحمة في صحراء سيناء عام 67، ووصل الغزاة ثانية إلى قناة السويس ، وبعد أن كان الشعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر صار إزالة آثار العدوان التي لم تزل حتى اليوم !

من حق الناصريين أن يكون لهم وجود سياسي حقيقي في الشارع وأن يعملوا من أجل ذلك وأن يختلفوا مع الحركة الإسلامية من إخوان وسلفيين وجهاديين وغيرهم ، ولكن ليس من حقهم أن يشتبكوا مع الإسلام والتركيز على بعض ممارسات المسلمين والنفخ فيها ؛ لأنه دين الأغلبية الساحقة التي لن تتخلى عنه أبدا.

لقد انتصر الشعب يوم أقيمت الصلاة في القصر الجمهوري بالقبة بعد أن ظل هذا القصر ستين عاما يقاوم الإسلام ويحاربه ويبطش بعلمائه وأنصاره ولم يحقق انتصارات تذكر للوطن ! هل يراجع بعض الناصريين مواقفهم الموالية للطغاة والمجلس العسكري من أجل الوطن ؟ آمل ..!