الموصل درة بهية..

الموصل درة بهية..

في كف غطاس الشاعر احمد علي السالم

نايف عبوش

تتسم الموصل كما هو معروف للجميع، بطابعها المحافظ في الثقافة، والفن، والتراث، والمعمار، والعادات، والتقاليد. ولكنها مع تلك المحافظة الشديدة، ظلت مدينة منفتحة على ما يتدفق اليها من الاطراف، وما ينفذ اليها بالعصرنة، والحداثة. لذلك احتضنت جميع ابنائها بالترحاب، وتفاعلت معهم بايجابية عالية، مكنتها من ان تنجح في صهرهم في بودقة مجتمعها الموصلي العريق، ذي النكهة الخاصة، بحيث يحس الموصلي انه دوما بين أهله، وبين ناسه، ولا يشعر في ذلك بأي اختلاف في توجهات الثقافة الاجتماعية.وبذلك ظلت الموصل على الدوام حاضرة في اذهان من عاشوا تفاصيل بيئتها بتذوق تام، بحضور كل هذا التراث الثري، الذي يزخربالعلم، والأدب، والفقه، واللغة، والشعر، والفلسفة، امامهم فتغنوا بأمجادها.

كما كان لتموضعها المكاني على ضفاف دجلة الخالد، قبالة ربوة البوسيف بالتواءاتها المتهدجة، في توأمية عجيبة مع شطان النهر الساحرة، أثرا بالغا في تثوير إبداعات، وشحن مشاعر ابنائها من الشعراء والأدباء، بإرهاصات الرقة، والإبداع، وانثيالات فيوضات انتمائهم للمكان، والبيئة، والإنسان معا.

على أن غابات الغرب، وأحراش الطرفا، وأسراب النوارس، شكلت هي الاخرى بامتدادها الطبيعي على ضفتي النهر الازلي، المنساب من جوانح الموصل حتى اطراف ديرة جنوب الموصل، بتماثل يرتقي الى درجة التطابق، اصرة تواصل مكاني وجداني، فكانت مصدر إيحاء غني لمشاعر الشعراء الجياشة، التي تفاعلت مع هذا الفضاء المفتوح بتناسل صور جميلة من الغزل العذري بتلك الميساء الممشوقة.

لذلك كانت الطاقة الإبداعية المتدفقة عند الشاعر المبدع احمد علي السالم المعروف في وسطه الاجتماعي والثقافي بكنيته الشهيرة ابوكوثر، كعنصر حي من عناصر كائنات تلك البيئة ببعدها الريفي المتعاشق عضويا مع بعدها الحضري، قد تفاعلت ابداعيا مع حركة ذلك الحال، ما جعل عشقه للموصل الحدباء ايقونة حب استقرت في صلب عملية التشكل الشعري لتجلياته الوجدانية، ومن ثم تجسدت في حبك قصيدته الجذابة(الحدباء)، لتعكس اندماجه مع كائنات بيئته الموحية له ريفا ومدينة، وبقدرعال من التماهي العاطفي، والتوازي الروحي مع مجسمات المكان، بحيث يشعر معه متلقي النص بصدق انتماء الشاعر لموصله الحبيبة عندما يقول:

وفي عيوني ترى الحدباء شاخصـة ام الرمــاح وعهــدي ناسـها ناســي

حورية الجيد في سـيمائها حــــدب  كأنـــها مــلك يـرنــو لـجــلاســــي

غفت على النهر واهتزت جوانبها  بالورد والكرم والصفصاف والاس

ام الربيعين مــا ابهــى مــرابعــها  ومــــا ارق هـــواها والـهوى قاسي

ولعل إطلالة الشاعر الحسية على فضاء الموصل من على ربوة البوسيف، المقابلة لغابات الصفصاف، على ضفاف دجلة المنساب من احضان حبيبته الحدباء، وما تزقزق به عصافيرها، ونوارسها، من ترنيمة اخاذة، هي التي الهبت جذوة عاطفة شاعرنا، فألهمته ترنيماته الوجدانية في رواحه وغدوه اليها، يوم اقامته فيها طالبا للدراسة في اعدادياتها ، حيث يقول:

اذا وقفت على البوسيف تنظرها  ترى سناء لها يسمو ونبراس

ويبدو انه عندما اراد استحضار الماضي كنوع من الحنين الى مرموزاته الموصلية، فذلك لأنه لا يريد لماضيه أن يغادر عالم حاضره، لاسيما وان ماضيه الجميل قد سكن الذاكرة، واستطاب الاقامة الدائمة في دهاليزها العميقة، فاستحال عليه الافلات منها، حتى مع حقيقة يقينه بان الماضي بهيئته التي يحن اليها لن يعود، فهو مثل ماء نهر دجلتها المنساب مع مجراه الازلي، لا يرجع اليها بعد ان غادر الى اطرافها باتجاه المصب الى حيث لا رجعة، بعد ان تزاحمت خيالاته بالخواطر الموجعة:

وهمت واحتشد الماضي بـذاكرتــي  وزاحمـتني خيالاتـي وأحـداسـي

وعاد بي خاطري والقلب يوجعنـي  الى عهود الصبا والراح والكاس

ولا جرم ان استغراق شاعرنا احمد علي السالم، في الماضي بهذه الارتجاعية التلقائية، يضمر رغبته الصريحة لتعويض حاضره المقفر بانزياحه المكاني بمرور الزمن عن فضاء لوحة المدينة الجميلة، والتشبث بالماضي كحلم وردي يتطلع اليه، حتى ولو جاء بصيغة استذكارعاطفي، مع يقينه بصعوبة الوصول اليه.لكن حبه للموصل الحدباء يظل متلبسا ذاته الوجدانية، بغض النظر عن الية التفسير، كما يثبت لنا هذه الحقيقة بقوله:

يميل قلبي لها والروح تعشقها  ممشوقة القد مثل الغصن مياس

اميرة كالزلال العذب صافية  كأنـها درة في كــف غطـــاس

انها الفة عجيبة بين الشاعر احمد علي السالم، ومحبوبته الموصل الحدباء، التي يميل اليها دوما قلبه، وتعشقها ابدا روحه، فلا ينفك يتغنى ببهائها في مجالس الدواوين، وفي المقابسات الشعرية التي تجري عادة في المناسبات العامة في ربوع الديرة.ولعلها ظاهرة اجتماعية ثقافية، تستحق التأمل، وتسليط الضوء عليها من قبل المهتمين بالأدب والثقافة والتراث.