تطبيق الشريعة: بين الأزهر والتأسيسية وحزب النور

تطبيق الشريعة:

بين الأزهر والتأسيسية وحزب النور

د. صفاء رفعت

[email protected]

أغضبني حقا كم المغالطات وهشاشة الحجة وليِّ الأدلة وإنزالها في غير محلها في حوارين على قناة الجزيرة أحدهما ببرنامج الشريعة والحياة حول التدرج في تطبيق أحكام الشريعة وحوار آخر مع نائب سلفي بمجلس الشورى تنم ردوده وآراؤه كلها عن قصور في رؤية وفهم التصور الإسلامي عموما

هناك مصيبة فكرية في تأصيل مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية وإسقاطها على واقع الناس المعاش اليوم، ومصيبة كبرى تسبقها في موقع المجتمعات في البلدان الإسلامية اليوم من الإسلام كنظام شامل لحياة الفرد والمجتمع!

والمتأمل لما آل إليه حال اليهود والنصارى اليوم وكيف اتسعت الفجوة بينهم وبين شرائعهم السماوية التي نعرف أنها جاءت متوافقة ومتكاملة مع الدين الحنيف، كلها من منبع واحد ومرجعها لله الواحد، لكن حرفت وانحرف بتحريفها أهلها عن دين الفطرة والملة الحنيفية السمحاء..

وبلغ التحريف منها مبلغا لدرجة أن تبدلت دعوة الديانات التي جاءت بالتوراة والإنجيل لتحقيق توحيد الله تعالى ودلالة الخلق عليه وإنزال شرائعه على خلقه، تبدلت ليصبح الشرك بالله سبحانه أول أقانيمها وفاتحة صلواتها، حين نتأمل كيف انحرف أهل الكتاب حتى أقاموا نواقض دينهم مقام المقدس المتعبد به، وجعلوا ضد الدين محل أصله، فنفوا أصله ثم أنكروه واستنكروه حين عرضه الإسلام عليهم وقاوموا الإقرار به، ولم تعد تعرف ما بقي من الحق في كتابهم مما اختلط به من الباطل...

      وحين نراجع حقيقة أن الله عز وجل قد حفظ لهذا الدين قرءانه العظيم من التحريف والتبديل، وقدّر له أنه ينسخ ما قبله، ويقوم به أهل الحق في الأرض حتى يوم الدين، فلما كان كتاب المسلمين محفوظا من التحريف، ولما كانت السنة في مجملها موثقة ومحفوظة ومصونة من عبث الظن والكذب، ولمَّا صار حال الناس من أهل هذا الدين لِما صار له حال من قبلهم، وحبسوا رغم ذلك عن تحريف النصوص، أعمل كل صاحب هوى وزيغ، أو جور وسلطان، أو ضعف وضعة، وانهزام وخذلان، أعملوا جهدهم في تأويل النصوص وتدليس الأدلة وتبديل الأحكام والزعم بأن الزمن يتطلب ذلك والواقع بعيد عن قبول شرع الله والناس في بلاء وعناء و و و... هداهم الله وصرفهم عما يفعلون!

   نعم لقد صار حال كثير من المسلمين اليوم كحال أهل الكتاب، تركوا الإسلام في حياتهم وأفكارهم وتخلوا عنه في همهم وعزيمتهم وشغل حياتهم، واستلسموا لكن ناعق وزاعق، فعلا رين كسب السوء على قلوبهم وانطمست بصائرهم، فأنكروا من الحق ما لا يستقيم إيمان عبد بالشك فيه، وانساقوا وراء أباطيل تبطل عمل الساعي وتنكث غزله..  

هل مشكلة المجتمعات اليوم أنها تركت تطبيق الحدود؟ 

وحسب؟!

هل تعتني هذه المجتمعات عموما بالإسلام وبالتصور الإسلامي للحياة جملة وتفصيلا وتقف عند الحدود فقط؟

هل لو طبقت الحدود ستحصل على وسام الالتزام بالشريعة وتدخل في حرمها الآمن المبارك؟

هل يعي من ينظِّرون حول تطبيق الشريعة عمق الفجوة بين الواقع والإسلام الحنيف بكل مقوماته العقائدية والعملية والعلمية والحكمية والثقافية والسياسية والتشريعية والإنسانية سواءً بسواء؟

هل يفهمون ما يقولون؟

هل اخترع أو جرؤ أحد في تاريخ الأمة أن يقول ببدعة التدرج في تطبيق الشريعة؟

هل الشريعة غير ملائمة لحياة الناس اليوم؟!

هل الشريعة قاسية جدا على المخلوق البشري الضعيف بشكل يتعذر معه إلزام الناس بها اليوم؟ 

هل يعلم من ينظرون لهذا وهم ينتحلون سيما علماء الدين أنهم بذلك يكفرون بالله اللطيف الخبير؟

ألا يعلم الله تعالى من خلق وما يصلحهم وما يقيم أمورهم في كل حين؟!!

وهل يجوز أن نعود في كل مرة لنتعرقل في شَرَكِ قطع اليد والقصاص، والجلد والرجم، ونغفل ونهمش ونموِّه ونتخطى حقيقة أصلية كبرى بأن الإسلام ليس هو حدود القطع والرجم والقصاص والجلد؟! بل البداية تكون بالاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.. وهذه الأبجدية الأولى من حقيقة الإسلام تلزمك بأن تعرف من هو الله الواحد، الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى، فتتعرف عليه بها لتؤمن بيقين قلبك أنه صاحب الكمال وأهل الحمد، قوله الحق الذي لا بطلان فيه، وحكمه العدل الذي لا ظلم فيه، وشرعه الصراط المستقيم الذي لا ميل فيه..

وكمثل اتقان خلق السماوات والأفلاك والأرضين، كمثل اتقان وانضباط شريعة الله تعالى الماضية بأمره في العالمين إلى يوم الدين، فلا يسع مؤمناً به أن يخرج عن هذا اليقين ويبقى في زمرة أهل هذا الدين، بل هو الضلال البينّ، الذي عدّه أهل زمان الغربة هينا وهو عند الله عظيم.

فلو عرفت الله تعالى واستسلمت له نبدأ الكلام ونعرف تفاصيل الإسلام، نعرفها لنتبعها ليس لننظر حولها ونفصلها على المقاس الذي نريد ليوافق فهم كل قاصر ويرضي ذوق كل عنيد..

لا يمكنك أن تطوع الإسلام ليرضي الأمم المتحدة ويوافق دساتير دول العالم المتحضر وما اعتاد عليه أهلنا في زمن الظلمات والتقهقر ويظل هو -بعد كل ذلك - هو الإسلام الحنيف، وتظل أنت مسلم مطيع! لا يا أخي، عفا الله عنك، لو كان ودك وهواك هناك فلا تكذب علينا هنا! كن صادق الإرادة ولا تزعم أن هذا هو الدين.. 

ومرة أخرى الإسلام ليس هو حدود الأحكام، وليت المنتمين لتيارات الدعوة الإسلامية السياسية يكفوا عن هذا الزعم ويتوقفوا عن نشر هذه المزاعم التي تفرغ الدين من روحه ومحتواه ومفهومه، ولا تثمر في كل مرة إلا حوارات سمجة هي العجب العجاب، ونقاشات تصيب العاقل بالاختناق.. خلل في تقدير الأمور وفي ردها لأصولها وتدليس في الاستدلال وتضخيم الفروع والإلقاء بأصل المسألة خلف الظهور وما يتبع ذلك من بلبة فهم الناس للدين فليتهم ثم ليتهم سكتوا فأراحوا واستراحوا...

يقول رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ؛ "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان"

فانظر كيف جعل التوحيد أعلى شعب الإيمان! فالعقيدة حاكمة على الفرد ابتداءً من إيمانه الذي يحدد هويته وكينونته العليا ومساره في هذه الحياة وتاريخه وعنوانه، ثم جعل أخلاقه التي تعكس سلامة قلبه وشرفه وخيريتيه ورقيه الإنساني واستواء نفسه وحسه المتمثل في خلق الحياء شعبة من إيمانه، والحياء في الحقيقة خلق إنساني راق جدا، بمعنى أنه يتضمن للوصول إليه العبور بمنظومة خلقية جميلة من حب الخير والطهر والأنفة من الصغائر والمعائب والدنايا والترفع عن التطلع لما لا يليق، ثم أدخل في شعب الإيمان شيئا من سلوك العبد اليومي العابر الذي قد يبدو للعابر المتعجل بغير مغزى، لكن هذا الدين يضعه في مكانه الحقيق به، فمن سيميط الأذى عن طريق الناس إلا مؤمن مشفق؟! يحب الخير للخليقة ويكره أن ينالها الأذى، فيأبى أن يمر به حتى يزيله بيديه، ومثله لن يؤذي الناس ابتداءً..

الشاهد أن فهم روح الإسلام تخلص بك لمعرفة أنه كل لا يتجزأ، ونسيج لا ينقض، وعقد لا ينفرط، يبدأ بعقيدة التوحيد، ويمتد ليشمل عبادات الناس ومعاملاتها، وأخلاقها وسلوكها اليومي، وموالاتها وانتماءها وتوجهها وخياراتها في الحياة كلها.

ولذلك لا يستقيم تصحيح الانتماء للإسلام إن لم يمر بكل ذلك، ولا يستقيم تطببيق الإسلام بإقامة حد السرقة وحد الحرابة وحد الردة في مجموع من الناس ويحسب صاحب الظن وقتها أنه قد أقام دولة الإسلام في الأرض من جديد بظنه.. لا، بل الأمر أعمق وأكبر وأوسع بكثير من هذا وهو أولى بالتجرد لفهمه وتطبيقه..

أين الإسلام في مناهجنا التعليمية التي تمسخ أطفالنا لا هم غرب ولا هم شرق ولا لهم هوية؟

بل أين الإسلام في البنية التعليمية نفسها التي تزرع في وجدان الصغار تهميش قيمة درس الدين في الحياة إجمالا؟  

أين الإسلام في حياتنا الثقافية التي تجاهر بالفجور والعري والزور، وتسخر من مفردات الدين دون رادع، وتشن حملات منظمة ومدروسة لتسفيه الثوابت وتدليس الحقائق، حتى صار عامة الناس كارهين لسمت التدين ورافضين لحدود الله تعالى، لأنهم تربوا في حجر إعلام يصورها لهم صبح مساء على أنها قيود رجعية من زمان الجاهلية!

أين الإسلام في اقتصادنا المنكود، وفي معاملاتنا واتفاقياتنا الدولية المجحفة، واصرارنا على اتباع نظام الغرب المالي قذة بقذة، حتى محقت منا البركة؟ بل نظل نتمسك بما لفظوه هم بعد أن تبين لهم عواره وذاقوا وبال بواره!

أين الإسلام مما نشيده ونعليه، وبعضه لدى إخواننا وصل من الترف والبذخ لحد الترف الذي نشفق أن يكون إيذانا بإمهال المسرفين في الأرض، مع مافيه من تمثل بسمت بعيد عنا وصل لتمثيل معابد بوذية ورموز ماسونية مع مافيه من العهر والخنا المدلس بأبهة المكان وأبهى الثياب حتى ليخفى على ضعاف النفوس شرح حقيقة حالة!! 

أين الإسلام في أجهزة أمننا، التي انقلبت في أعجب سبق في التاريخ من مؤسسات لحماية الأوطان وحفظ الأمان لمؤسسات قمع واعتقال وتعذيب وقوى تعسفية تمارس العنف ولا تحفظ حقا لإنسان، تأخذ الناس بالشبهة دون تهمة، وتقضي على أعمارهم دون اكتراث، والجريمة الحقيقية لديها أن تكون حرا تفكر باستقلال، أو تحلق خارج سرب العبيد، ومجرد ولاؤك للإسلام ولإقامة ثوابت بناء دولة الإسلام في واقع بلدك كان مبررا كافيا لتصفيتك!؟

أين الإسلام في توجهنا السياسي الذي كان يوالي أعداء المسلمين ويغض الطرف عن مجازر تراق فيها الدماء البريئة، بل ويستنكر رد المقاومة التي تناضل لرفع الظلم ورد القمع! بل ويرفع صوته بتعزية من عاثوا في بلاد المسلمين فسادا وخرابا لو أخطأ جنده يوما فهلكوا! بل يقف مكتوف اليدين أبكم الشفتين مشلول الإرادة عن نصرة الحق في أي مكان على وجه البسيطة ولو استغاث به جاره القريب! بل ويرسل كتائبه حين يأمرون حيث يأمرون! بل حتى لا ينتزع كرامته ببيان! وإن كنا نأمل أن نرى غير ذلك في قادم الأيام برحمة من الله وفضله لا نفقد الأمل ولا نثبط الهمم، لكن، لابد من استواء الرؤية حتى يستوي الصراط..