الحرب!

د. أحمد محمد كنعان

د. أحمد محمد كنعان

لقد كانت الحرب أولَ فعلٍ يرتكبه الإنسانُ ضد أخيه الإنسان منذ أيامه الأولى فوق هذا الكوكب التائه في فضاء الله الواسع ، وتلك هي قصة وَلَدَيْ آدم التي رواها القرآن الكريم : (( واتْلُ عليهِم نبأَ ابْنَيْ آدَمَ بالحقِّ إذ قَرَّبا قُرباناً فتُقبِّل منْ أحدِهما ولمْ يُتَقَبَّلْ من الآخر قالَ لأقتلنَّكَ ، قالَ إنَّما يتقبَّلُ اللهُ منَ المتَّقين 0 لئنْ بَسَطْتَ يَدَكَ إلَيَّ لتقتلَني ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقْتُلَك ، إنِّي أخَافُ اللهَ ربَّ العالمين 0 إنَّي أريدُ أن تَبُوءَ بإثْمي وإثْمِكَ فتكونَ مِنَ أصْحابِ النَّارِ ، وذلِكَ جزاءُ الظالمين 0 فَطَوَّعَتْ لَهُ نفسُهُ قَتْلَ أخيهِ فَقَتَلَهُ فأصبحَ منَ الخاسِرين )) سورة المائدة 27 ـ 30 ، ومنذ تلك اللحظة المشؤومة بدأ التاريخ الفعلي لأخطر ظاهرة عرفتها بشرية على مر العصور ، ألا وهي الحرب ، وكانت حادثة قتل قابيل لأخيه هابيل أشبه بالسم الناقع الذي حقن في شرايين التاريخ البشري فلم يبرأ منه حتى اليوم !

وقد اعتبر الفيلسوف الإغريقي هيروقليطس ( 535 – 475 ق م ) أن الحروب هي ( أمُّ التاريخ ) لأن دورها كان محورياً في صناعة الأحداث ، واعتبر المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي ( 1889 ـ 1975 ) أن الحرب والرِّقَّ هما أعظم مرضين ابتليت بهما البشرية عبر تاريخها الطويل ، وقدَّر المؤرِّخ السويسري "بابل" أنه منذ العام 3500 سنة ق.م أي خلال 5500 عاماً الماضية لم يكن هناك سوى 292 عاماً فقط خالية من الحروب ، وهذا يعني أن بين كل 19 سنة كانت هناك 18 سنة حافلة بالحروب مقابل سنة واحدة فقط خالية من الحرب ، وخلال القرون الثلاثة الأخيرة (18 ، 19 ، 20) وقعت في أوروبا وحدها 286 حرباً ، بمعدل حرب واحدة كل عام !

واضح إذن أن الحرب كانت جزءاً لا يتجزأ من التاريخ البشري ، وهي ـ للأسف الشديد ـ ما تزال كذلك حتى يومنا الحاضر ، وكانت الحروب على مدار التاريخ محرقة رهيبة للجنس البشري ، إذ قضت على ملايين لا تعدُّ  ولا تحصى من البشر ، وعلى سبيل المثال فإن الحربين العالميتين اللتين وقعتا خلال النصف الأول من القرن العشرين الميلادي راح ضحيتهما أكثر من 70 مليون نفس ، وأكثر من 100 مليون من المشردين والمعاقين واليتامى والأرامل !

أضف إلى هذه المآسي ما تستهلكه الحروب من مبالغ طائلة جداً قدِّرت في أواخر القرن العشرين الميلادي بحوالي 3,2% من الناتج المحلي ، وهذا يعني أن البشرية تدفع ضريبةً باهظةً جداً نتيجةَ وَلَعِها الشديد بالحرب ، ولو أن هذه الأموال أنفقت على الأنشطة الحيوية كالتعليم والصحة والاقتصاد لعادت على البشرية بفوائدَ جمَّة ، ولكن يبدو أن البشرية مازالت عند ظن الملائكة فيها حين أخبرهم الله عزَّ وجلَّ عن خلق الإنسان فقالوا : (( أتجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ )) سورة البقرة 30 ، ولم تحقق البشريةُ حتى اليوم عِلْمَ اللهِ تعالى فيها إذ (( قال إنِّي أعلمُ ما لا تعْلَمُونَ )) سورة البقرة 30 .

أما السلاح الحربي فقد تطور عبر التاريخ البشري تطوراً كبيراً ، فبدأ من الحجر وانتهى بالقنابل الذرية ، فالهدروجينية ، فالنترونية ، وبعد أن كان السلاح فردياً بسيطاً أصبح قبيل نهاية القرن العشرين سلاح تدمير شامل قادر على تدمير العالم بأسره من خلال ضغطة واحدة على الزر !

وقد شهد العالم عبر تاريخه الحربي الدامي معارك فاصلة أثرت تأثيراً كبيراً في التاريخ البشري ، وشهد جيلنا الحاضر في الفترة ما بين ( 1945 ـ 1982 ) فورة ثانية وقع فيها عدد هائل من الحروب بلغ  132 حرباً بمعدل ( 3,5 حرباً / كل عام ) ، التهمت أكثر من 100 مدينة أو قرية ، وأودت بحياة أكثر من 35 مليون نسمة .

ويقدَّر الخبراء العسكريون أن مخزون الدولتين الأكبر ( الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي ) من الأسلحة الذرية يبلغ عشرات الآلاف من الرؤوس النووية المدمرة التي لو وزعت على أهل الأرض لكان نصيب كل إنسان منها ( 10,000 كلغ ) من مادة ت.ن.ت شديدة الانفجار ، هذا الإنسان الذي تكفي بعوضة تافهة لقتله .. فتأمل !

ويظن كثير من الناس أن الخسائر البشرية الفادحة لا تحصل إلا في الحروب الكبيرة ، إلا أن الإحصائيات تعطينا صورة أشد قتامة عن تلك الحروب الصغيرة والصراعات المحلية التي تحصل هنا وهناك ، ما بين الحين والآخر ، وقد لا يحفل بها الإعلام كثيراً مع أن خسائرها قد تفوق أشد الحروب ضراوة ، ففي دراسة نشرت عام 1986 تبين أن الذين قضوا نحبهم رمياً بالرصاص والقنابل خلال الأربعين سنة التي تلت الحرب العالمية الثانية فاق عدد العسكريين الذين قتلتهم تلك الحرب الرهيبة ، وأن عدد الحروب التي وقعت بعد تلك الحرب وحتى نهاية العام 1992 بلغت 200 حرب بمعدل ( 9 حروب/سنوياً ) في حقبة الخمسينات ، و ( 14 حرباً / سنوياً ) في حقبة السبعينات !

ويخبرنا تاريخ الصراع البشري المرير أن الحروب تندلع في العقول قبل أن تندلع في ساحات القتال ، ولهذا فإن جهودنا اليوم وحرصنا على مستقبل البشرية يحتم علينا أن ننتقل من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام إذا ما كنا نرغب حقاً في الخلاص من هذا الداء العضال ، وصدق من قال : ( لا تبحثوا عن الحرب في براميل البارود ، بل في رؤوس القتلة والسفاحين ) ، ولعل من أعجب مفارقات الحروب أن الدهاة هم الذين يخططون للحرب ، والأبطال والشجعان والمخلصين هم الذين يخوضونها ، أما الانتهازيون فهم الذين يقطفون ثمارها آخر المطاف .. فأين نحن من هؤلاء !