صور من.. جرائم الكتائب الأسديَّة

د. محمّد عناد سليمان

صور من.. جرائم الكتائب الأسديَّة

-1-

د. محمّد عناد سليمان

لقد بلغ الظّلم والطُّغيان من النِّظام السُّوريّ المجرم مبلغ الذّروة في القتل والتّدمير والاغتصاب والاعتداء الجنسيّ في بعض المعتقلات ممّا يندى له الجبين، وتخرّ له القلوب باكية دمًا لا دموعًا.

فبالأمس القريب يستشهد شاب، بعد أن نزف حتّى الموت، لا من قلّة مسشتفيات، ولا من قلّة دم، ولكن من خوفٍ دبَّ في قلب أسرته، فراحت أخته الكبرى تحمله على ظهرها، وتسير بها قدماها بين البساتين، في عتمة الليل الكالح، لا تعرف طريقًا، ولا تهتدي سبيلا، يجول بها الفكر أن يستقر مقامها في مكان آمن تضع فيه أخاها الجريح، وقلبها مكلومٌ بعذابها، وبجراحه، وبدمائه التي تنساب حريرًا على رقبتها، وكتفيها تدفيء بها جسمها الذي انكوى ببرد اللّيل القارس.

تدور وتدور، بحثًا عن مكان آمن، وبعد طول انتظار، ومسيرة ست ساعات بين أشجار الحرش تجدْ ملجأ ظنّت فيه الأمن والأمان، وللحظةٍ دخل الفرح قلبها، فبعد المسير، وكثرة النّفير، والمشي الذي أضنى ساقيها، وأنهكها التّعب من حمل أخيها، تبسَّمت بسمةً ممزوجةّ بقطرات من الدّمع القاتلة، فلقد آثرت أخاها على نفسها، وانحنت انحناء الإجلال والإكبار، انحناء العزّ والإكرام، لتضع من تحمّلت عناء حمله، وتجمّلت في المشي من أجله، وما إن وضعته لتلقي نظرة الفرح المبتهجة بلحظة الأمان، فإذا بعينيه مغمضتين، مع ابتسامة صغيرة، غارت من ابتسامتها، فطغت عليها بطولها، وانفرجت لتقول لها: لا تحزني فقد نال من تحملين الشّهادة، فلكِ الحق أن تبكي فرحًا، وألا تفارقَ البسمة محياكِ.

وفتاة أخرى لم تبلغ السّادسة من العمر، أنظر في عينيها فأرى مرارة الخوف ممّا شاهدتْ من سفك الدّماء، وجثثٍ ملاقاة على حافتي طريق بيتها، وهي صامتة، صمت المذهول المندهش، لتسأل نفسها: هل أنا أشاهد مسلسلاً يوميًّا، حلقاته قتلٌ وتدميرٌ وتعذيبٌ وتنكيلٌ؟ هل أنا في مسرح للسّينما أشاهد فيلم رعب امتدَّ أياما وشهورًا؟ لا أنا في قلب «حمص» العديّة، وفي قلب «تل كلخ» الأبيّة، وفي قلب «القصير» العصيّة، وفي قلب «الرّستن» القويّة.

ذهبت هي وأهلها لعلّها تجد الأمان في مكان تعذّر السّكن فيه، فالصّراصير تحرس فراشها المصنوع من ورق الجدران، والفئران تدغدغ قدميها، والعناكب تجمّل بيوتها بما يرزقها الله من ذباب وديدان، فقلت لها: غدًا أريد أن أتناول طعام الغداء معكم ممّا يرزقنا الله من جوده وكرمه، وفي نيتي أن أخفّف معاناة مَن أردتْهُ آلة القمع الوحشيّة الأسديّة قتيلاً وإن كان لا يزال بين الأحياء، فتأتي صرخة مدويّة منها تخفّف عنّي معاناتي: لا يا عمو؟ لا يا عمو؟ لا تأتي وتتغدّى عندنا، فليس عندنا طعام منذ خمسة أيام، فنحن نعيش على الخبز اليابس الموضوع طعامًا للمواشي. تقولها وابتسامة الطّفولة البريئة تداعب شفتيها، والدّمعة تتزاحم في قلبها لتجد طريقها إلى الخروج. فقلت لها: اصبري، فسوريا أنجبت لك إخوانا أبطالا، وأباء رجالا، وإنّ للباطل جولة، لكن للحقّ جولات.

وآخر اخترقت الرّصاصة كتفه لتجد طريقها إلى رقبته من جانبها الأيسر، لترى ضوء الشّمس من الجانب الأيمن، نزف ونزف، وابن عمه ينظر إليه حيران، ماذا أفعل؟ أين أذهب؟ ربِّ يسر، ربِّ أكرم، ربّ أنعم، رب جُدْ عليّ إنّك أنت الجواد.

وبعد طول تفكير، حمله قاصدًا طريقًا مظلمًا، فمرّة يضعه يسامره بكلمة ليسمع همسات صوته التي لا تكاد تخرج، فيسرُّ لرؤية شفته العليا تتحرّك، فيحمد الله عزّ وجلّ على أنّ الحياة وقدرُ الله لم يأذن بموته. ومرّة يرتجف خوفًا، ويموت رعبًا ظنًا منه أنّ المنيّة قد سلكت طريقها إلى ابن عمه المكلوم.

وهكذا يسير ويسير، وتمضي السّاعات الطوال في سير شاقّ متعب، وأخيرًا يرى بارقة أمل بأهل خير، قد آثروا تقديم المعونة لإخوانهم المجروحين، جرح القلب، وجرح الجسد، فيصل إلى دار الجراحة للعلاج، ويخرج معافًى ليعود شامخًا إلى أهله وأقربائه، وزوجته وأولاده. ولكن....ولكن....ولكن.....

القصّة ليست في علاجه، والمصيبة ليست في عودته؛ بل الجرح الحقيقي في كيف أصيب؟ ولماذا جرح؟ وهنا تكمن الحقيقة الإجراميّة لبشاعة النّظام الأسديّ القمعيّ.

 قال لي: كنت جالسًا في بيتي استمع إلى وقع الرّصاص على البيوت، وأشاهد قذائف الكتائب الأسديّة تتراشق على كلِّ بيت، وكلِّ دار، حتى استقرّت قذيفة في بيت مَنْ أعرفهم، وأعرف حياتهم البسيطة، فقتلت كلَّ من في البيت، قتلت القذيفة الأب، والأمّ، والأخوة إلا طفلة صغيرة، طفلة سمعت صراخها من نافذة البيت التي لم يكمل والدها ترميمها لقلّة الحيلة، وضنك العيش.

هرعت مسرعًا، ركضت باكيًا تحت وقع الرّصاص، ورشقات القذائف، يقودني حنيني إلى صوتِ أبكى قلبي، إلى صوت أدمع عيني، وأنساني أهلي وأولادي وزوجتي؛ بل أنساني نفسي، حملتني قدماي من دون شعور، يقودني ما جبلنا الله عليه، إنسانية الخلق نحو بعضهم، ومروءة الرّجولة، ونخوة الكرام التي لم تفارق دماءنا السُّوريّة.

وبعد جري وصعود إلى ذلك البيت المدمّر، وصلت إلى صوت الطّفلة التي لم تبلغ ثلاثة أعوام على أكثر تقدير، فحملتها، وحضنتها، ولم يخطر ببالي إلا تفكير واحد، وهو كيف أخرج بها حيّة من بيتها؟ فأسرعت أقفز من نافذة لأخرى، والغبار يملأ البيت والشّارع، ومن بيت لآخر، بحثًا عن طريق آمن، وكنت أرى الموت رخيصًا أمامي في سبيل نجاة هذه الطّفلة البريئة التي فقدت أهلها في لحظة لن تعيشها، ولن تتذكرها إلا بالحكايات العابرة.

خرجت بها، وما إن وصلت نهاية الدّرج من البيت الآخر حتّى جاءت رصاصة أسديّة إجراميّة فاخترقت قدمها، اليمنى، فانحنيت بجسمي لأحميها فكانت الرّصاصة الثّانية تخترق كتفي ورقبتي، وهكذا كانت القصّة، وهكذا كانت الإصابة.

هذه هي حكاية آلة القمع الأسديّة، وهذه قصص قذائف الشبِّيحة الإجراميّة، ويوجد الكثير الكثير مما أعجز عن وصفه، وكلّما حاولت أن أمسك القلم لأكتب بعض ما سمعت، وبعض ما رأيت، تسبقني الدّموع قائلة: لن تكتب الكلمات؛ بل عليك أن تكتب بالدماء طريق الشُّهداء، وترسم لهم درب الحريّة والكرامة، فهذا مداد لا يمكن مسحه، وهو سبيل النّصر والفلاح.