حين ينحط جنس الإنسان

حين ينحط جنس الإنسان

طيب تيزيني

حين تحدث مجزرة كالتي وقعت في "الحولة" منذ أيام، يستعيد المرء ما واجهه في إحدى قصص مكسيم غوركي البديعة، نعني الطُّرفة المثيرة التي تجيء على لسان أحد شخوصها، وهي التالية: كان سكان مناطق موجودة في إحدى الغابات، ذوي أصول ذئبية تبرز فيها النبّالة والكرامة والشعور بالحرية. وفي لحظة تاريخية معينة، ينحطّ جنس الإنسان، ليصبح متحدراً من الكلاب! أما أن يحدث ذلك فالحكمة منه الإشارة إلى أن علامة الوجود الإنساني تلتقي مع علامة الوجود الذئبي، نظراً إلى أن الذئب يتحدر -هكذا يقال حسب غوركي- من جنس راق وذي ذكاء خاص، إضافة إلى أنه يترفع على الجِيف وعنها، ويسعى إلى أن تكون منازلاته مع خصومه، كالكلاب، "نظيفة" حتى لو كان هؤلاء ذوي وفاء.

إن مجزرة الحولة تقدم معياراً لكلبية القتلة، يقتلون الصغار والكبار ويستبيحون النساء ثم يقتلوهن، والمأساوي المدوّي هنا يظهر في التعامل مع أطفال في عمر الربيع يواجهون الذبح بالسكاكين والكبار العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم. وهذا الفعل الشائن المُجسَّد بالعار، تلعنه مختلف المرجعيات البشرية، وتلعن فاعليه الذين يوضعون موضع من يجب أن تقتصّ منهم العدالة بصيغها الثلاث المحلية الوطنية والإقليمية والدولية. إن ذلك يجسّد عودة ملعونة إلى عصر الغابات المسكونة من شتى أنواع "الحيوانات" غير المأهولة، ويذكّر بكل أشكال القتل والذبح في تاريخ البشرية الطويل. وبهذه المناسبة، كنت أتمنى أن تُعلن قيادات العالم كله إدانتها الحقيقية والفاعلة لتلك الفعلة الشريرة بحق أطفال سوريين، لا أن يتضامن بعضهم مع القتلة بصمتهم عليهم، خصوصاً أن التحذير من مثل ما جاء على لسان أديب شجاع هو غوركي، يمثل مطلباً وهدفاً لكل من يحمل ضميراً وعقلاً في كل أنماط المجتمعات التي أنتجها البشر.

ما حدث في الحولة الجريحة وفي غيرها هو، بحق، جريمة تلتئم فيها كل عناصر الفظاعة والهول، بحيث إنها تقل الآن أمام العالم كله بصيغة التحدّي. وقد نستطيع القول إن كل من علم من البشر بها ولم يُدنها أو لا يسعى إلى إدانتها، حتى وإن كان في قلبه فهد وحش يمكن أن يكون مشروع قاتل، إذا توافرت له ظروف القتل. وفي هذه المناسبة الهائلة في مأساويتها، يحق علينا أن نذكّر بآية قرآنية رهيفة وبمن علّق عليها وعلى حاضنها القرآني الكبير. لقد جاء في تلك الآية: إن "من قتل نفْساً بغير نفس، فكأنما قتل الناس جميعاً". أما من رأى في تلك الأخيرة وفي حاضنها المعْنى نزوعاً إنسانياً تنويرياً شفيفاً، فهو الشاعر والمفكر الألماني Goethe - غوتة. بل إننا إذا حاولنا النظر إلى اللوحة في شمولها، فسوف يكون مهماً أن نخاطب المؤسسة الدولية (الأمم المتحدة)، معلنين أمامها أن تناول موضوع الحولة يمثل واحداً من أكبر المهمات التي على هذه المؤسسة أن تجعل منه "موضوع مراجعة" لتاريخها منذ 1948 ولِما ينبغي أن تفعله راهناً في سبيل إعادة بنائها قانونياً ودولياً وأخلاقياً وإنسانياً.

إن تباطؤ المؤسسة المذكورة باسم المصالح هنا وهناك من دول العالم، وباسم تحالفات وتواطؤات بين فريق وآخر من الدول المعنية، يؤدي في الحالة التي نحن فيها الآن إلى الإطاحة بحقوق النساء والأطفال والرجال، الذين سقطوا في الحولة وغيرها. وإن هذا كله -مجتمعاً ومؤتلفاً مع حالات أخرى مماثلة في سوريا وبلدان عربية وأجنبية أخرى- يجعلنا نطالب بإعادة تأسيس الأمم المتحدة، وإعادة بيان حقوق الإنسان الصادر عام 1948 إلى قوته وألقه، ونكاد نقول في ضوء ذلك، إن "الربيع العربي" يجب يكون معه عصراً عالمياً جديداً باستحقاقاته ومهماته، مما يسوٌغ الدعوة إلى إعادة بناء المؤسسة الدولية فعلاً، على أساس التوافق مع ذلك.