خواطر شاهد عيان

د. محمد أحمد الزعبي

خواطر شاهد عيان

د. محمد أحمد الزعبي

وزير الإعلام السوري السابق

الخاطرة الأولى :

دعيت بعد ظهر الخميس السابق لجمعة " الله معنا " ، إلى وقفة اعتصام في الساحة الرئيسية في مدينة لا يبزغ الألمانية Augustusplaz  حيث اعتاد أن يتجمع العشرات من أبناء الجالية السورية المعارضين لنظام عائلة الأسد ومن مؤيديهم من اليسار الألماني ، وقد تصادف أن دخلت خلال فترة الاعتصام مع أحد الإخوة المشاركين في حوار عام حول الوضع الحالي في سورية ، وبالذات حول كيف ومتى ستكون نهاية تلك المذابح الهمجية التي يمارسها شبيحة بشار وماهر الأسد ضد الشعب السوري ، والتي بلغت حصيلة ضحاياها حتى اليوم ( 4 /8 /11 ) بضعة ألوف من الشهداء (البضعة هي الرقم الذي يقع بين الثلاثة والتسعة) وعشرات الألوف من الجرحى ، ومئات الألوف من المعتقلين والمفقودين ، ناهيك عن الخسائر المادية الناجمة عن اجتياح الجيش العقائدي (!!) للعديد من المدن وتدمير بيوتها، وبنيتها التحتية، والقضاء على كل اشكال الحياة فيها ؟! .

لقد كان أهم ما سمعته من هذا الشاب هو قناعته الكبيرة ، بأن بشار الأسد ما كان ليجرؤ على القيام بهذه المذبحة الممنهجة والمستمرة منذ خمسة شهور، لولا أن لديه ضوء أخضر من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل !.

عندما عدت إلى البيت ، وفتحت التلفاز ، استمعت إلى خبرين جديدين ، أولهما أن جيش بشار الأسد قد اجتاح مدينة حماة التي سبق لوالده أن اجتاحها ودمرها عام 1982 وأن دباباته في طريقها إلى محافظة دير الزور، والثاني أن روسيا قد غيرت موقفها من النظام السوري ، وحذرت بشار الأسد بأن مصيرا محزنا بانتظاره إذا ما بقي مصراً على متابعة هذه المذبحة البشرية في سورية . هذا مع العلم أن هذا الموقف الروسي الجديد قد تزامن وتقاطع مع إنذارات مماثلة لبشار الأسد من دول الاتحاد الأوروبي ( ألمانيا ، فرنسا ، انكلترا خاصة ) والولايات المتحدة الأمريكية .

لقد أوقعني سماع هذين الخبرين في حيرة من أمري !! ، فمن جهة ، أرى بلدا تحرقه شبيحة بشار الأسد وتهلك الحرث والنسل فيه ، ومن جهة أخرى ، أسمع ممن جاء بإسرائيل إلى فلسطين وجاء ببشار الأسد وأمثاله من الديكتاتوريين العرب إلى سدة الحكم لكي يدافعوا عنها ويحموها كلاما معسولا ظاهره الانحياز إلى الشعب السوري الذي " يريد إسقاط النظام " ، وباطنه ينطوي على ألف إشارة استفهام لا يعلم الإجابة الصحيحة عليها إلا الله والراسخون في فهم وتحليل" نظرية المؤامرة " من الذين يرون أن مساعدة الشعب السوري الصادقة والفعلية لا تكلف دول الديموقراطيات وخواجاتها سوى اتصال تلفوني جاد واحد تقول فيه:

" شكراً لك يا بشار، أيها الابن البار لأبيك حافظ الأسد ، فلقد خدمتمانا وخدمتما إسرائيل بما فيه الكفاية ، ونحن لا نريد أن نربح الشجرة ونخسر الغابة ، أعد الجيش إلى ثكناته يا بني ، وشكر الله سعيكم !! ". وبما أن الدول المعنية لم توقف أسودها !! عند حدهم رغم كل الدماء التي سالت في سورية ، فإنني مضطر أن أتفق مع الشاب السوري الذي ذكرته أعلاه في أن بشار الأسد ربما كان يملك الضوء الأخضر من بعض القوى الخارجية لتنفيذ مجازره الوحشية في سورية .

تساؤلات ثلاثة مشروعة تطرح نفسها هنا على طاولة هذه الخاطرة هي :

التساؤل الأول :

ترى هل إن حكام الديموقراطيات الغربية هم " معنا " ( الشعب السوري ) أم " ضدنا" ( مع بشار الأسد ) ، وبالتالي مع كل من يعترف بإسرائيل ويلتزم بحمايتها من العرب والعجم ؟ ،

التساؤل الثاني :

ترى هل إن الربيع العربي الذي افتتحته ثورة 18 ديسمبر 2010 التونسية ، وجذرته ثورة 25 يناير 2011 المصرية ، وتسير الآن على هديهما وخطاهما ثورات ليبيا ، واليمن ، وسورية

هو في خطر؟ بل ويتعرض ل "مؤامرة" مدروسة ، يحمل أصحابها ( الديمقراطيات الغربية ) " الربيع " في يد ، و" الشتاء" في اليد الأخرى؟،أي أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، ويقدمون لنا السم في الدسم ؟! ،

التساؤل الثالث :

ترى هل إن الموقف السعودي الإيجابي الجديد من الثورة السورية ، يدخل تحت إطار

الضوء الأخضر الذي أشرنا إليه أعلاه ، أم أن إخوتنا في دول الخليج العربي وفي الأزهر الشريف ، وفي الجامعة العربية قد أيقظتهم صرخات طائر العنقاء فوق رؤوسهم : " صمتكم يقتلنا " ، " الله معنا " ؟

الله أعلم ؟!.

الخاطرة الثانية :

كنت وما زلت من محبي المرحوم زكي الأرسوزي ، أحد أقطاب الفكر القومي في النصف الأول من القرن العشرين . وأرغب ان أذكر ( كشاهد عيان ) في هذه الخاطرة حادثتين تتعلقان بهذا الإنسان الكبير

أولهما ، أنني علمت عندما كنت وزيرا للإعلام في سورية عام 1966/67 أنه لايوجد في بيت زكي الأرسوزي جهاز تلفاز، وقد كان هذا أمرا غريبا بالنسبة لواحد بحجمه الأدبي والفكري، فقمت بإهدائه تلفازاً كتقدمة من وزارة الإعلام ، الأمر الذي أوجد لديه استحسانا كبيراً، وأوجد بيني وبينه رابطة أخوية .

وبعد هزيمة حزيران 1967 ، واعتذاري عن الاستمرار في العملين الحزبي والسياسي ، علمت أن الأستاذ الأرسوزي طريح الفراش، وأنه موجود في المستشفى (أظنه مستشفى المواساة) للعلاج ، فبادرت ومعي صديقان آخران من محبيه أيضاً إلى زيارته في المستشفى ، وهناك شكرني على التلفاز ، وفاجأني بمعرفته بكل تفاصيل الخلاف بيني وبين الرفاق في قيادة الحزب والدولة آنذاك ، وبأنه يعطي لموقفي ولوجهة نظري الحق في هذا الخلاف ، مقابل وجهات نظر الآخرين .

أهم من كل هذا أنه قال لنا وهو على فراش مرضه : إن على العلويين أن يتركوا السلطة لغيرهم بعد أن فشلوا في حربهم مع إسرائيل ( وكان يعني حرب حزيران 1967 )!! ، وهنا سألته : وهل تعتقد يا أستاذ أن من يحكم سورية الآن هم العلويون ؟، فأجابني دون تردد : نعم ، وتابع ، وبما أنهم فشلوا في تحرير فلسطين فعليهم أن يتركوا السلطة لغيرهم. إذن فقد أوهموه أنهم إنما جاؤوا إلى الحكم لتحرير فلسطين !! .

لقد مات زكي الأرسوزي ــ رحمه الله ــ عام 1968 ، أي قبل أن يعرف أن حافظ الأسد قد رفع شعار "الأرض مقابل السلام " مع الكيان الصهيوني ، بكل ما يعنيه هدا الشعار الملغوم من تنازل عن الحق القومي والديني والتاريخي في فلسطين، مقابل البقاء في السلطة ،أي عمليا " الأرض مقابل الكرسي " ، وليس مقابل السلام ، بل وقيامه بتوريث هذا الكرسي لولده بشار كيما يستمر هذا الأخير في التعتيم على دور أبيه المشبوه في حرب حزيران ، وفي السكوت على احتلال وضم إسرائيل لهضبة الجولان ، وهو ما حصل ويحصل منذ 1967 وحتى هذه اللحظة .

إن ما يقوم به بشار الأسد في سورية منذ 15 /03 / 2011 ، حيث يطارد بدباباته ومدفعيته وشبيحته المظاهرات السلمية ، مدينة مدينة ، وقرية قرية ، ودارا دارا ، وزنقة زنقة ، سائرا بذلك على خطى وهدي دكتاتوري ليبيا وصنعاء ، إنما يدخل عملياً في استماتة عائلة الأسد في استمرار التستر على جرائمها الداخلية والخارجية ، الوطنية والقومية ، طيلة العقود الأربعة الماضية ! ولكن هيهات .

فليرحم الله الأستاذ زكي الأرسوزي , وليرحم الله شهداء ثورة الخامس عشر من مارس التاريخية العظيمة

الذين يحققون اليوم بدمائهم الطاهرة حلم ذلك الرائد القومي الكبير زكي الأرسوزي في ضرورة خروج "أبطال!" هزيمة 1967 من السلطة ،وإعادتها ممثلة بشعاري الحرية والكرامة اللذين صدحت وتصدح بهما حناجر شباب الثورة ، من أمثال ابراهيم قاشوش، إلى الشعب السوري ، بعد أن صادرتهما عائلة الأسد منذ ما يقرب نصف قرن من الزمان !!.

الخاطرة الثالثة :

حقيقية تاريخية بقلم شاهد عيان لا يزال حياً

( قصة البلاغ 66 المتعلق بسقوط مدينة القنيطرة في حرب حزيران 1967 )

تنبع أهمية التوقف الطويل والعميق عند هذا الموضوع والذي كنت الشاهد الرئيسي فيه، بحكم وضعي الحزبي ( الأمين العام المساعد لحزب البعث ) والحكومي ( وزير الإعلام ) إبان صدور هذا البيان ،

بسبب كونه يلقي ضوء على كثير من الممارسات اللاحقة لحافظ الأسد ، ولا سيما انقلابه العسكري عام 1970 ( الحركة التصحيحية !! ) على قيادة حركة 23 شباط 1966 ، وزج كافة أعضاء هذه القيادة قرابة ربع قرن من الزمن في سجن المزة العسكري دون سؤال أو جواب ، الأمر الذي أدى الى وفاة كل من الدكتور نور الدين الأتاسي ( الأمين العام لحزب البعث ، ورئيس الجمهورية العربية السورية )واللواء صلاح جديد ( الأمين العام المساعد لشؤون القطر السوري ) . إن قصة هذا البلاغ هي كالتالي :

1. كانت البلاغات العسكرية المتعلقة بحرب حزيران عام 1967 تأتي إلى مديرية الإذاعة والتلفزيون التي كان يرأسها المرحوم عبد الله الحوراني من غرفة العمليات العسكرية التي كان يتواجد فيها وزير الدفاع (حافظ الأسد ) .

شكا إلي السيد عبد الله الحوراني ، أن البلاغات العسكرية التي تصله من غرفة العمليات تنطوي على أغلاط لغوية وبالتالي فإنه لا يمكن إذاعتها دون تصحيح هذه الأخطاء . اتصلت على الفور بوزير الدفاع، واقترحت عليه أن أرسل لهم إلى غرفة العمليات إعلامياً متمكنا من الناحية اللغوية هو السيد أحمد اسكندر الأحمد، يقوم بالتصحيح اللغوي للبلاغات العسكرية قبل أن ترسل إلى الإذاعة والتلفزيون ، فوافق حافظ الأسد على ذلك الاقتراح ، و تم وضعه موضع التنفيذ فوراً .

2. استمرت البلاغات العسكرية تتوالى بصورة طبيعية وروتينية من غرفة العمليات العسكرية إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون إلى أن وصلنا البلاغ رقم 66 موضوع هذه الخاطرة . جاءني السيد عبد الله الحوراني مدير الإذاعة والتلفزيون ليخبرني عن أنه قد وصلهم بلاغ من غرفة العمليات يشير إلى سقوط مدينة القنيطرة ( عاصمة هضبة الجولان ) بيد الجيش الإسرائيلي ، وأن إذاعته ستحدث بلبلة وفوضى وحالة من الإحباط بين موظفي الإذاعة والتلفزيون . أخذت منه البلاغ ( رقم 66 ) ووضعته في مغلف خاص ، وسلمته إلى مدير مكتبي السيد عزيز درويش ، وطلبت منه أن يذهب به إلى مبنى القصر الجمهوري حيث يجتمع كبار قياديي الحزب ، ويسلمهم الرسالة ـ البلاغ . سلمهم عزيز درويش الرسالة ، وبعد أن قرأوها ، اتصل بي أحد هؤلاء الكبار ليبلغني أن " الرفيق حافظ " قد أبلغهم بسقوط القنيطرة ، وأن علي أن أذيع هذا البلاغ . عاد عزيز درويش بالبلاغ ، وتمت إذاعته .

3. أحدثت إذاعة البلاغ 66 حالة من الفوضى بين موظفي هيئة الإذاعة والتلفزيون ، اضطرتني ان أتدخل معهم شخصيا لكي يهدؤوا ويتابعوا عملهم ، ولا سيما أن المعركة مع إسرائيل ماتزال مستمرة ،

حيث استجابوا لتدخلي وتابعوا عملهم .

4. بعد مرور حوالي نصف ساعة من إذاعة البلاغ ، اتصل بي هاتفيا وزير الدفاع ( حافظ الأسد )

ليبلغني بوجود إشكالية تتعلق بالبلاغ المذكور ، وعندما استوضحته عن هذه الإشكالية قال : يبدو رفيق محمد ان القنيطرة لم تسقط بيد الجيش الإسرائيلي ، فسألته : ولماذا بعثتم إلينا إذن ببلاغ سقوطها ( البلاغ 66 ) فقال : لقد اتصل بي ضابط من الجبهة ( لم يذكر اسمه ولا رتبته ) وأبلغني أن القنيطرة قد سقطت وانا صدقته ، وارسلنا إليكم البلاغ على هذا الأساس (!!) ، أردف حافظ موضحاً : واقع الحال رفيق محمد أن المدينة مطوقة من الإسرائيليين ، وهي من الناحية العسكرية بحكم الساقطة ، وكل ما هنالك أنهم لم يدخلوها بعد . قلت له : سوف نقوم هنا بإعداد بلاغ جديد لتسوية هذا الخطأ ، وسأقرأ عليك نص البلاغ حالما ننجزه لأخذ موافقتك عليه وإذاعته كبلاغ عسكري ، فأنعم وبارك .

5. قمت بالاشتراك مع السيد عبد الله الحوراني ، بصياغة البلاغ الذي أخذ بعد موافقة حافظ الأسد عليه الرقم 67 . ولقد كان مضمون هذا البلاغ الترقيعي ، ان قتالاً داميا وشرساً يدور داخل مدينة القنيطرة بين الجيشين السوري والاسرائيلي . وكان هدفنا من هذا البلاغ ، إشعار الناس أنه إذا ما دخلت إسرائيل القنيطرة ( كما نص البلاغ 66 )، فقد دخلتها بعد مقاومة الجيش السوري لها ، وإن لم تدخلها ( كما كان واقع الحال عند إذاعة البلاغ 66 ) فإن مقاومة الجيش السوري هي من أخرجها بعد أن دخلتها .

( يعرف الكاتب أنه بصياغته للبلاغ 67 كان يخرج ( بضم الياء ) حافظ الأسد من ورطة البلاغ 66،ولكنه ـ أي الكاتب ـ لم يكن يشك في ذلك التاريخ بوطنية هذا الرجل ، بل ولم يكن يخطر على باله يومئذٍ ذلك الدور المشبوه الذي لعبه لاحقا في حياة جمهوريتنا العربية السورية ، والذي ورثه لولده بشار بعد موته عام 2000 م والذي ما يزال يلعبه حتى هذه اللحظة ) .

6. قال لي المرحوم اللواء أحمد سويداني ، رئيس الأركان في الجيش السوري إبّان حرب حزيران 1967 والذي كان هو المشرف الميداني على العمليات القتالية في " الجبهة " ( الجولان ) ، أن الضباط الذين كانوا يعملون معه في إدارة العمليات ، قد تركوا واجباتهم العسكرية وعادوا بسياراتهم إلى دمشق بعد سماعهم للبلاغ 66 وبقي هو وحده فترة ( لا أذكر طولها ) في غرفة عمليات الجبهة وحيداً ، ثم قرر العودة إلى دمشق ، حيث كانت الدبابات الإسرائيلية ــ كما أبلغني ــ ماتزال على بعد أربعة كيلومترات من مدينة القنيطرة . ( قال لي هذه المعلومات حين كنت وإياه نتجول بسيارته ليلاً في شوارع دمشق، وقد كان يفتح راديو السيارة خوفا من وجود تسجيل في سيارته ، وكان ما يزال رئيساً للأركان العامة ) .

7. إن كل ما ذكرناه أعلاه بصدد البلاغ 66 ، وما لم يحن ذكره بعد بخصوص نفس الموضوع ، ولا سيما ما يتعلق بملابسات الموقف من قرار مجلس الأمن 242 إنما يلقي الضوء ، بصورة لا لبس فيها ، على أكاذيب " الممانعة " ، وبالتالي ما يحلو للبعض أن يطلقه على " سورية الأسد !! " في أنها " دولة الممانعة الوحيدة !!" في المنطقة العربية ، فيالها ممانعة ، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب !! .

الخاطرة العاشرة :

بمناسبة الخامس من حزيران 1967

شذرات من الماضي

مدخل : ( حول خواطر " شاهد عيان " عامة ) :

أرغب أن أشير بداية ــ وهذا توخياً للدقة والأمانة والموضوعية ــ إلى أن ما سأسرده هنا من وقائع ومعلومات ، إن هو إلاّ من قبيل استعادة الحدث على مستوى الذاكرة ، الأمر الذي يعني أن هذه الوقائع والمعلومات تعتبر صحيحة ومؤكدة فقط في خطها العريض والعام ، ولكن ليس على مستوى التفاصيل الدقيقة للزمان والمكان . ــ إنني وانطلاقاً من بعد قيمي في مسلكي الحزبي والسياسي العام ــ لم أكن أحمل ورقة وقلماً لأسجل تفاصيل كل ما يدور أمامي، حتى في حالة عدم اقتناعي به، فالجميع كانوا في حينها موضع ثقتي، وما كان يخطر ببالي يومها، أن الأمر بيني وبين الآخرين في قيادة الحزب والدولة يتعدى مجرد " الاختلاف في وجهات النظر " .

إنني أقول اليوم ، وبالفم الملآن ، نعم إن الخلاف والاختلاف بين أجنحة الحزب وتياراته المختلفة ، ولا سيما العسكرية منها ، ومنذ الثامن من آذار 1963 وحتى هذه اللحظة ، كان يتعدى الاختلاف في وجهات النظر، ليصل إلى تدمير بابا عمرو ومذبحة أطفال الحولة ، بل وإلى مالا حاجة إلى تعداده ، مما تشمئز حتى من ذكره النفوس ، لأنه بات معروفاً وموثقاً في الداخل والخارج ، وليس طرد عدد كبير من الدول الأوروبية لسفراء النظام السوري يوم 29 ماي 2012 سوى شهادة صريحة ــ وإن كانت متأخرة ــ من هذه الدول ضد نظام عائلة الأسد الفاشي .

1. ( حول تكليف كل من الدكتور نورالدين الأتاسي وصلاح جديد بالإشراف على وسائل الإعلام إلى جانب وزير الإعلام محمد الزعبي ، قبيل الخامس من حزيران 1967 ، ) :

في أحد الاجتماعات المشتركة بين القيادتين القومية والقطرية للحزب ( حزب البعث العربي الاشتراكي ـ القطر السوري ) ، وكان ذلك على أبواب الخامس من حزيران 1967 ، وجه عدد من أعضاء هذا الاجتماع ، اللوم لوزير الإعلام محمد الزعبي ، من جهة ، بسبب ان وسائل الإعلام تشير إلى المحاولة الانقلابية لفهد الشاعر وسليم حاطوم على قيادة حركة 23 شباط 1966 ، بوصفها مجرد صراع أيديولوجي بين اليمين واليسار في الحزب ، أي ليس بوصفها "خيانة " للحزب ، ومن جهة أخرى ، أن مستوى التحريض والتعبئة الإعلامية للجماهير في سورية ، لا تعكس الحالة الحماسية العامة للجماهير العربية التي أفرزها قرار الرئيس جمال عبد الناصر بإزاحة قوات الفصل الدولية في سيناء ، وكانت المقارنة المطروحة بين إذاعة " صوت العرب " ، وإذاعة دمشق . وبعد أن تأكدت القيادة من عدم اعتراضي على إشراف كل من الدكتور نور الدين الأتاسي واللواء صلاح جديد ( إضافة إلى وزير الإعلام وليس بديلاً عنه )، اتخذت قرارها بذلك . وقمت على الفور إلى جهاز الهاتف القريب، واتصلت على مسمع من الجميع بكل من محمد الجندي ( مسؤول جريدة الثورة ) وعبد الله الحوراني ( مدير الإذاعة والتلفزيون ) والدكتور ناجي الدراوشة ( رئيس تحرير جريدة البعث ) وأبلغتهم أن عليهم أن يتلقوا تعليماتهم اعتباراً من الآن من كل من الدكتور الأتاسي وصلاح جديد ، وأن عليهم أن يرفعوا من وتيرة وحرارة الضخ الإعلامي للتوافق مع وتيرة ودرجة حرارة " صوت العرب " ، وعدت إلى مقعدي .

2. ( حول الاستعانة في حرب حزيران 1967 بالضباط السوريين القدامى ) :

كنت في أحد أيام الحرب في القصر الجمهوري ، حيث يتواجد معظم أعضاء القيادتين ، وحيث كانت القوات الإسرائيلية تجتاح هضبة الجولان ( وكان هذا قبل صدور البلاغ العسكري 66 المتعلق بإعلان سقوط القنيطرة قبل سقوطها الفعلي ) . لقد تقدم كل من عبد الكريم الجندي ، ومحد عيد عشاوي ، ومحمد رباح الطويل ، باقتراح مشترك لاستدعاء عدد من الضباط الكبار القدامى ، ممن يعرفون هضبة الجولان معرفة دقيقة وتامة ( على سبيل المثال لا الحصر : أحمد العبد الكريم ، أمين نفوري ، فهد الشاعر ، السجين أمين الحافظ ... ) . لقد كان هذا الاقتراح مفاجئاً للواء صلاح جديد ( لم يكن حافظ الأسد موجودا بين الحاضرين ) ، الذي سكت قليلاً ، ثم أجاب بلغة حازمة ، إن أي ضابط صغير في الجيش السوري يفهم من الناحية العسكرية أكثر من هؤلاء المقترحين ، وذلك بسبب انقطاعهم الطويل عن الجيش ، وبسبب تطور العلوم العسكرية ، ولقد كان هذا الجواب من ابي أسامة كافياً لطي هذا الموضوع .

3. ( حافظ الأسد والجبهة الوطنية ) :

بعد أن توقفت الحرب ( حرب الأيام الستة ) ، التي انتهت بهزيمة جيوش مصر وسورية والأردن أمام الجيش الإسرائيلي ( المدعوم أمريكياً وأوربياً ) في الحادي عشر من حزيران 1967، ذهبت إلى قبو العمليات الذي يتواجد فيه وزير الدفاع ( حافظ الأسد ) ، واقترحت عليه أن يبدأ الحزب بالتفكير الجدي بإشراك الآخرين معه في الحكم ، وذلك بتشكيل " جبهة وطنية عريضة " من كافة القوى السياسية والحزبية الوطنية . وكان جواب حافظ الأسد على اقتراحي هو التالي : إن تشكيل مثل هذه الجبهة ــ يا رفيق محمد ــ يجب أن يتم بعد تحرير الجولان ، وذلك كي لا يقال مستقبلاً أن حزب البعث قد أضاع الجولان ، وأن الجبهة الوطنية هي التي استعادته " !! .

إن الدلالة التي تنطوي عليها هذه الواقعة، تشير إلى أن حافظ الأسد، كان يخطط منذ ذلك الحين ( 1967 ) للانفراد بالسلطة، وأنه يريد أن يقوم هو بنفسه بتشكيل هذه الجبهة الوطنية، وألاّ يتركها ليوسف زعين ونور الدين الأتاسي، ولا لعدد كبير من أعضاء القيادتين، الذين بات تشكيل هذه الجبهة الوطنية العريضة يمثل هاجساً وطنياً بالنسبة إليهم. وعندما قام حافظ الأسد بانقلابه العسكري على رفاقه في حركة 23 شباط 1966 ( الحركة التصحيحية !! )، وزجهم جميعاً في سجن المزة العسكري، لم ينتظر تحرير الجولان حتى يعلن عن تشكيل هذه الجبهة، كما سبق أن ذكر لي، وإنما أعلن على الفور تشكيله لهذه الجبهة " المسخ " التي لا علاقة لها بما كان يفكر به كل من نور الدين الأتاسي ويوسف زعين وصلاح جديد ورفاقهم الآخرين، موحياً بذلك للشعب السوري أن ما بات معروفاً بـ " مجموعة صلاح جديد " هي التي كانت تحول دون تشكيل هذه الجبهة !! .

4. ( حول الإفراج عن الفريق أمين الحافظ وزملائه وإبعادهم إلى لبنان ) :

تقدم كل من محمد عيد عشاوي ، ومحمد رباح الطويل ، وعبد الكريم الجندي ( وربما معهم آخرون لا أذكرهم ) إلى القيادة السياسية الميدانية المتواجدة في القصر الجمهوري ، اقتراحاً بضرورة الإفراج عن المساجين السياسيين ( الفريق أمين الحافظ ، اللواء محمد عمران ، منصور الأطرش ...الخ ) في سجن المزة ، وذلك لأن قوانين الحرب تفترض مثل هذا الإجراء ، إذ أن يمكن أن يدمر السجن على من فيه خلال العمليات الحربية ، ويموت هؤلاء داخل السجن . لم يكن بإمكان أحد أن يرفض مثل هذا الاقتراح ، نظراً لطابعه القانوني والانساني والمنطقي ولكن أولي الأمر والنهي في القيادتين ، اقترحوا إبعادهم إلى لبنان ، فور خروجهم من السجن ، وهذا ما كان .

5. ( حول استقالة أحمد سويداني من رئاسة الأركان ) :

أذكر أنه في أحد اجتماعات القيادتين ، بعيد حرب / هزيمة / نكسة حزيران عام 1967 ، وكان ذلك في مقر القيادة القطرية السورية ، عرض اللواء أحمد سويداني استقالته من منصبه كرئيس للأركان ، وذلك في ضوء النتائج السلبية لحرب حزيران . وقام حافظ الأسد مباشرة ، بعد أن سمع ما قاله أحمد سويداني ، بعرض استقالته بدوره من وزارة الدفاع . ولما كان البديل المطروح لكل من حافظ الأسد وأحمد سويداني هو : مصطفى طلاس لوزارة الدفاع ، وعزت جديد لرئاسة الأركان ، أي أن الأمر سيظل في إطار التوزيع الطائفي في الجيش ، ذكرت لهم أن استقالة الرفيقين حافظ وأحمد لا تعتبر حلاًّ للموضوع . إن الأمر لا يتعلق باستبدال شخص بآخر ، ولكن بإصلاحات جوهرية في الجيش . وهنا سألني أحدهم ( وكان يريد دفعي إلى الكلام في المسألة الطائفية ) ماذا تقصد بكلامك يا رفيق محمد ، فأجبته : لقد قلت ما أردت قوله ، ولا أرغب في أن أزيد على ما قلت . وهنا تدخل الرفيق صلاح جديد ( أو ربما حافظ الأسد لا أذكر ) قائلاً : لقد قال الرفيق محمد رأيه الخاص ، ولا يجوز أن نطلب منه أن يقول أكثر مما يريد قوله .

واقع الحال أن القيادة المشتركة ، رفضت استقالة الإثنين ( حافظ الأسد وأحمد سويداني ) وطالبتهما بالاستمرار في منصبيهما . في اليوم التالي ، أعاد أحمد سويداني تقديم استقالته مجدداً ، بينما لم يفعل حافظ مثل ذلك .

قبلت استقالة أحمد سويداني ، وهكذا خرج أحمد سويداني من الجيش وبقي حافظ الأسد .

6. ( حول البلاغ رقم 66 المتعلق بإعلان سقوط القنيطرة من قبل حافظ الأسد قبل أن تسقط فعلياً ):

[ حول هذا البلاغ انظر: الخاطرة الثالثة لمحمد الزعبي في: الحوار المتمدن ( 22.8.11 )، الرأي ( 23.8.11 )، الشرق العربي(23.8.11 )، القدس العربي ( 23.8.11 ) ].

7. حل القيادة القطرية السورية وانقلاب 23 شباط 1966 :

عندما قامت القيادة القومية ( ق/ ق ) بحل القيادة القطرية السورية ( ق / قط ) في أواخر سنة 1965 ، وتبعها مباشرة استقالة وزارة الدكتور يوسف زعين ، اعتبرت القيادة القطرية أن هذا الحل إنما يمثل هجوماً يمينياً من الجناح العفلقي | ( جناح ميشيل عفلق ومنيف الرزاز ) على يسار الحزب، ولذلك وبعد عدد من اللقاءات الجانبية ، شبه السرية قررت القيادة القطرية المنحلّة ، رفض قرار القيادة القومية ، واعتبار نفسها القيادة الشرعية للحزب في سورية واستمرت تتابع اجتماعاتها السرية في بيوت بعض أعضاء القيادة .

واقع الحال ، فإن هذه القيادة بدأت عملياً ، منذ حلّها في ديسمبر 1965 ، بالإعداد لانقلاب 23 شباط 1966 العسكري على القيادة القومية . كانت هناك ــ حسب معرفتي الخاصة ــ ثلاث مجموعات قيادية تقوم بالإعداد لهذا الانقلاب ( حركة 23 شباط ) هي :

ــ القيادة القطرية بكامل أعضائها ، وقد كنت واحداً منهم ،

ــ قيادة ميدانية مصغّرة ( صلاح جديد، حافظ الأسد، إبراهيم ماخوس، نور الدين الأتاسي، يوسف زعين،

عبد الكريم الجندي، مصلح سالم، وربما آخرون لا أتذكرهم ) ،

ــ القيادة الفعلية ، والتي هي قيادة علوية صرفة ، مكونة من مدنيين وعسكريين .

هذا مع العلم أن حافظ الأسد كان عضواً في القيادة القومية، وكان ينقل للقيادة القطرية المنحلة والسرية، كل ما كان يدور في اجتماعات القيادة القومية، وكان يحول دون اتخاذ القيادة القومية ــ التي كانت على علم بأن القيادة القطرية تعد لانقلاب عسكري عليها ــ إجراءات عقابية احترازية، ولا سيما في صفوف العسكريين المحسوبين على القيادة القطرية لمنع هذا الانقلاب، الذي كان يتم الإعداد له بصورة شبه علنية.

في ليل 22/23 شباط 1966، اجتمعت القيادة القطرية الموسّعة في بيت جميل الشيّا، وبدأت تناقش الإجراءات العملية لتنفيذ الانقلاب العسكري، واستمر النقاش حتى منتصف الليل. ولقد كان كل من يوسف زعين ومحمد الزعبي مترددين في الموافقة على هذا الانقلاب، وفي هذه الأثناء اتصل مصطفى طلاس من حمص، وطلب بضرورة أن تستعجل القيادة باتخاذ قرار الانقلاب، وذلك حتى يتمكن العسكريون ( الرفاق !!) أخذ مواقعهم، وهنا قال اللواء صلاح جديد: دعونا نوقع على محضر الاجتماع ( قرار الانقلاب العسكري ) ونترك للرفيقين محمد الزعبي ويوسف زعين حرية عدم التوقيع . وفعلاً فإنه قد تم تحرير قرار القيادة القطرية ، وقام جميع أعضاء القيادة بتوقيعه ، بمن فيهم محمد الزعبي ويوسف زعين اللذين قررا أخيراً البقاء مع الآخرين . وكلف حافظ الأسد وصلاح جديد بإعطاء الأوامر للعسكريين الموالين للقيادة القطرية للبدء بالتنفيذ . وكانت حركة 23 شباط 1966 .

......

إنني بعد الذي جرى عام 1967، وبعد قصة البلاغ 66 ( انظر الفقرة السادسة أعلاه )، وبعد موقف حافظ الأسد من أحداث أيلول الأسود عام 1970، وبعد ما سمي بالحركة التصحيحية ( نوفمبر 1970 )، وبعد دخول الجيش السوري إلى لبنان بموافقة إسرائيلية أمريكية 1976، وبعد تصفية الأسد للحركة الوطنية اللبنانية وقتل قائدها كمال جنبلاط ( مارس 1977 )، وبعد تخلي الأب والابن عن القضية الفلسطينية بعد عام 1967، وسكوتهما المخجل والمشبوه عن احتلال إسرائيل لهضبة الجولان منذ 1967 وحتى هذه الساعة ( كانت حرب 1973 حرب تحريك لا حرب تحرير )، وبعد اشتراك حافظ الأسد في العدوان الثلاثيني على العراق الشقيق عام 1991، أقول بعد كل هذا الذي جرى ويجري في السر والعلن، لابد من أن أعلن عن قناعتي الكبيرة، في أن حركة 23 شباط 1966، كانت الجسر الذي عبر عليه حافظ الأسد إلى الحركة التصحيحية (!! )عام 1970، والتي كانت حركة طائفية بامتياز، وأن كلاًّ من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والرجعية العربية هم من دفعوا بحافظ الأسد إلى واجهة الأحداث، لكي يقوم بهذا الدور المشبوه، ( حماية إسرائيل والتطبيع معها ) الذي ورّثه لولده بشار، الذي نراه اليوم يستقتل في الحفاظ على هذا الموروث السرطاني الخبيث، ولو على حساب تدمير المدن والقرى السورية، وقتل عشرات الألوف من رجالها ونسائها وأطفالها .

أكثر من هذا، إنني أعتقد أن انقلاب 1961 الانفصالي في سورية، وتصفية مئات الضباط الناصريين من الجيش السوري إثر أحداث 18 تموز 1963، وموقف روسيا وإيران والصين، من ثورة 15 آذار / مارس 2011 في السورية، إنما تصب جميعها في طاحونة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي في طاحونة إسرائيل .

والله أعلم .

ـــــ انتهى ـــــ