الإسلام والعروبة والعلمانية

الإسلام والعروبة والعلمانية

عقيل البكوش

1) لماذا الحديث عن الإسلام والعروبة والعلمانية؟

غزا نابليون بونابرت مصر سنة 1798 ، وقد شكلت حملة نابليون هذه علامة فارقة في التاريخ العربي إذ اصطدم العرب بالغرب الأوروبي ، بالحضارة الأوروبية الناشئة ، بالتقدم العلمي والتكنولوجي ، مما ولد انبهارا بما وصل إليه الغزاة وفي الآن نفسه تساؤلا : لماذا تقدم الغرب ؟ ولماذا تأخرنا ؟ هل نستطيع أن نتقدم مثلهم ؟ هل نستطيع اللحاق بركبهم ؟

في فترة محمد علي باشا ، أرسلت بعثات علمية إلى أوروبا ، أرسلت أول بعثة سنة 1826 لتقصي أسباب تقدم الغرب ومعرفة أسباب تأخر العرب. ثم نشأت في مصر حركة فكرية نشيطة أطلق عليها النهضة العربية.

لقد وجد العرب أنفسهم – في ذلك الوقت ولا زالوا إلى الآن- أمام نموذجين حضاريين :

- الحضارة الأوروبية التي كانت تحديا لهم: ثقافيا وعسكريا

- الحضارة الإسلامية التي شكلت ، ولا زالت تشكل بالنسبة لهم، السند الذي لابد منه في عملية تأكيد الذات لمواجهة ذلك التحدي. وقد كان النموذج الأوروبي – كما يقول الجابري- قد حمل إليهم في آن واحد : الحرية والقمع ، وقد كان النموذج العربي الإسلامي يقدم نفسه لهم عبر قنطرة طويلة عريضة من الركود والانحطاط.

إن التعامل مع النموذج الأوروبي يتطلب منهم السكوت على الجانب الاستعماري فيه وهذا غير ممكن لأن الاستعمار يهدد وجودهم ذاته، والتعامل مع النموذج العربي الإسلامي يتطلب بدوره السكوت عن قرون من الانحطاط .

وقد كانت الإجابة عن أسئلة التقدم والتخلف موضوع اصطفاف فكري وإيديولوجي: – تيار فكري وإيديولوجي ينادي باستبعاد الموروث الثقافي والحضاري وبالتالي فهو ينادي باستبعاد الدين

- وتيار فكري وإيديولوجي ينادي بالتمسك بالدين والهوية

التيار الأول هو تيار علماني، والتيار الثاني هو تيار معاد للعلمانية.

فما هي العلمانية؟ متى وأين نشأت ؟ وماذا يخفي قبولها أو رفضها بالنسبة للمستقبل العربي؟

تعريف العلمانية:

أ‌) التعريف المعجمي:

يعرف قاموس OXFORD العلمانية بشكل سلبي، فالمباني العلمانية هي المباني غير المكرسة للأغراض الدينية، والمدرسة العلمانية هي المدرسة التي تعطي تعليما غير ديني، كما يعطي المعجم تعريفات أكثر شمولا، فالعلمانية هي ما:” ينتمي إلى هذا العالم، الآني، المرئي أي (عالم الحواس الخمس) وهو ما يهتم بهذا العالم وحسب وينتمي للحياة الدنيا وأمورها”.

العلمانية ترجمة للمصطلح الإنجليزي Secularism المشتق بدوره من الكلمة الاتينيةSaeculum التي تعني العصر أو الجيل أو القرن، وفي لاتينية العصور الوسطى تعني العالم أو الدنيا.البعض ينطقها عِلمانية وهو ما قد يفهم منه نسبتها إلى العلم وهو غير صحيح، البعض الآخر ينطقها عَلمانية نسبة إلى العالم ، وهي ومن هذا المنطلق تعني الواقعي والحسي أو المحسوس وبالتالي فهي تشير إلى التقابل بين الطبيعي وما بعد الطبيعي .

في اللغة الفرنسية يستعمل مصطلح Laicité أوLaique للدلالة على العلمانية وهو مصطلح لا يزال يحمل بصمات التجربة الفرنسية في العلمنة المرتبطة بالثورة الفرنسية 1789 التي أخذت شكلا حادا قاطعا والتي تتضمن عداء للدين.

ب) التعريف الاصطلاحي :يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه : “العلمانية تحت المجهر”: أن أول من صك مصطلح علمانية بمعناه الحديث هو (1906 – 1817 ) Jhon Holyoke

وقد عرف العلمانية بأنها: “الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية ، دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول أو بالرفض

2) نشأة العلمانية:

استخدم مصطلح Secular لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عاما في أوروبا عام 1648 عند توقيع صلح وستفاليا وبداية ظهور القومية الحديثة وهو التاريخ الذي يعتمده كثير من المؤرخين بداية لمولد الظاهرة العلمانية في الغرب. كان يقصد بها علمنة ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع للكنيسة .

يعتبر الكثير من المفكرين العرب مثل الدكتور عصمت سيف الدولة والدكتور محمد عابد الجابري بل وحتى بعض مفكري عصر النهضة من المسيحيين مثل فرح انطون أن الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية هو من طبيعة المسيحية ذاتها، فهو فصل بين الكنيسة والدولة ، فقد جاء بعض اليهود إلى السيد المسيح ليختبروه فقالوا: ” يا معلم، نحن نعلم أنك صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس فقل لنا ماذا تظن، أيجوز أن تعطى الجزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال لهم: لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية، فقدموا له دينارا، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذن ما لله لله وما لقيصر لقيصر” (متى21 :17 )

لقد فهم من عبارة ” أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر” على أنها فصل بين الديني والدنيوي.

يقول فرح انطون في مجلة الجامعة ج8 السنة 3 :”إن الديانة المسيحية قد فصلت بين السلطتين فصلا بديعا مهد للعالم سبيل الحضارة والحقيقة والتميز الحقيقي وذلك بكلمة واحدة :”أعطوا ما لقيصر لقيصروما لله لله

ويورد الشيخ محمد عبده في كتابه ” الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية” ما اعتبره أصولا للديانة المسيحية ، يهمنا الأصل الثالث وهو” ترك الدنيا” ويدلل علي ذلك بما ورد من آيات في انجيل متى منها” لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وتشربون ولأجسادكم بما تلبسون”…” ولكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره” وأيضا قوله:”الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات وأقول لكم أيضا : إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله

الأصل السادس ، حسب الشيخ محمد عبده:”التفريق بين المسيحيين وغيرهم حتى الأقربين” ويورد من إنجيل متى قوله:”لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها ، والكنه ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته

من هنا أعرض المسيحيون الأولون عن شواغل الكون وصدوا عن سبيل النظر فيه إظهارا للغنى بالإيمان والعبادة عن كل شيء سواهما، وحجروا على همم النفوس أن تنهض إلا إلى الدعوة إلى ذلك الإيمان والعبادة كذلك.

لكن الأمر لم يستمر على ما هو عليه فقد تدخلت الكنيسة في شؤون الدولة وتمكنت من السيطرة على الحكم في أوروبا ردحا من الزمن. ولقد بلغ استبداد الكنيسة بالشعب أوجه مع البابا انوسنت الثالث (1160- 1216 ) وقد وصل هذا البابا إلى الحكم إثر وفاة الملك هنري السادس عن ولد قاصر عمره ثلاث سنوات( فريدريك) فخشيت أمه أن يضيع الملك الموروث بين أطماع الطامعين ففكرت في وضع ابنها تحت وصاية البابا انوسنت الثالث، هذا البابا هو صاحب ومدبر ومنظم مؤسسات التعذيب المجنون المعروفة باسم محاكم التفتيش وكانت التهمة دائما الهرطقة، وقد كانت العقوبة دائما الموت حرقا .

ولقد عانى الأوروبيون من استبداد الكنيسة زمنا طويلا إلى أن جاء جيل من المثقفين والفلاسفة على رأسهم فولتير وديدرو ومنتسكيو وجان جاك روسو ومن قبلهم جان لوك في بريطانيا وايمانويل كانط في ألمانيا وغيرهم وراحوا يدقون المسامير في نعش الاستبداد الكنسي إلى أن أسقطوه وقامت الثورات الأوروبية ومنها الثورة الفرنسية 1789فألزمت الكنيسة حدودها ، ألزمتها المبدأ المسيحي”أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر” ومنذ ذلك التاريخ وقع فصل الكنيسة عن الدولة في المجتمعات الغربية وقد كان ذلك أحد المبادئ العلمانية.

ولقد رافق وتلا فصل الكنيسة عن الدولة تطور علمي وتقني مهول وأيضا تطور سياسي واقتصادي واجتماعي فاق كل التوقعات وقدم الغربيون أنفسهم باعتبار أنفسهم مخلصي البشرية من التخلف والانحطاط . يقتبس هنتنجتون صاحب كتاب:” صراع الحضارات” باستحسان قول نايبول” إن الحضارة الغربية العلمانية الحديثة هي الحضارة الملائمة لكل البشر

هذا القول له في وطننا العربي شيعة ومريدون:

أثار كتاب” الإسلام وأصول الحكم –بحث في الخلافة والحكومة” الذي نشر سنة 1925 جدلا كبيرا في المجتمع العربي ، حيث قال كاتبه وهو شيخ من شيوخ الأزهر:”إن الإسلام رسالة لا حكم، ودين لا دولة” وبذلك أخرج الشيخ علي عبد الرازق الإسلام من دائرة الحكم.

نشر هذا الكتاب في الوقت الذي صارت فيه العلمانية واقعا سياسيا بإعلان مصطفى كمال أتاتورك تركيا دولة علمانية في 3 مارس 1924، وقد كان الشيخ علي عبد الرازق يحاول أن يستبعد الإسلام من السياسة وذلك بالرجوع إلى الإسلام ذاته أي أنه كان يلتمس الجواب من الإسلام وليس من خارجه.

غير أن كثيرا من المفكرين والكتاب العرب تبنوا العلمانية من خارج إطار الدين الإسلامي ، يقول عاصم الدسوقي في مقالته المنشورة في مجلة الآداب ( أشهر 7-8-9 السنة 2007 ) بعنوان ” العلمانية…ولماذا يكون فيها حل لمشكلات المصريين”:” إن العلمانية لو يعلمون فيها شفاء لكثير من أمراض المجتمع المصري وهي كثيرة ومنها التفرقة الدينية التي يمارسها البعض من وراء ستار الدين، وتهميش المرأة والحيلولة بينها وبين تولي وظائف إشرافية إلا حسب توجهات صاحب القرار، والأهم من هذا وذاك أن العلمانية تقطع الطريق على التدخل الخارجي الذي تمارسه قوى النظام العالمي الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية باسم الدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات في أنها تسعى في الواقع إلى تفتيت الأمة المصرية على أساس ديني ، بمقتضى إثارة الفوضى الخلاقة ومن دون أن يعلم أولئك المتشددون الدينيون أنهم يمدون للقوى الخارجية الحبل الذي يشنقوننا به

واضح من هذا الاستشهاد أن عاصم الدسوقي يحاول أن يرمي الكرة في ملعب الإسلاميين وأن يدفع عن العلمانيين تهمة العلاقة بالأجنبي بالقول أن الإسلاميين، بإصرارهم على الخطاب الديني والذي حسب رأيه يؤدي إلى النزاعات الدينية والإثنية ، كما يؤدي إلى طمس حقوق الإنسان ، يوجدون للأجنبي مبررا للتدخل . ما غاب عن الدسوقي أو غيبه هوأن القوى الإمبريالية إذ تستعمر البلدان، تستعمرها لا من أجل حقوق الإنسان وحقوق المرأة والأقليات ولكن من أجل نهب ثروات هذه البلدان.

عزيز العظمة في مقاله:” جولة في أفق العلمانية” في نفس العدد من مجلة الآداب يقول:” ليس الإسلام برنامجا سياسيا أو اجتماعيا ولا هو مقوم للمجتمع إلا في نظر جماعات سياسية تتبنى الهيمنة وتعمل على تسوية صفحة المجتمع لصالحها وعلى صورتها

مراد وهبة يرى أن العلمانية :” هي المسار الإنساني في حضارتنا أي حضارة كل البشر في كل زمان ومكان” ، من هذا المنظور قام بالدفاع عن التطبيع مع إسرائيل (ألسنا حضارة واحدة؟) كما قام بتأييد تحالف كوبنهاجن بالقول إن ما دفعه إلى هذا هو إيمانه بفلسفة التنوير القائلة إنه:” لا سلطان على العقل إلا العقل وحده

نستطيع أن نستعرض العشرات من الأمثلة التي تصب في الإشادة بالعلمانية . فماذا يقول أنصار الهوية الرافضين للعلمانية؟

الغالب عند تيار الهوية الرافض للعلمانية القول بأنها نشأت في المجتمع الغربي وبالتالي فإنها لا تلائم مجتمعنا، وأن الإسلام على خلاف المسيحية هو دين ودولة.

يقول محمد رشيد رضا في مقدمة كتاب محمد عبده”الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية” :” أخذ الغربيون من الإسلام كل أصول الإصلاح الذي هم فيه ، وهم يقولون إن الإسلام عقبة في طريق كل الإصلاح ويقولون للمسلمين : إن ماءنا صاف نقي يحيي البلاد والعباد ،وماءكم آسن أجاج أحدث مستنقعات، أهلكت الحرث والنسل فكيف يستوي الماءان واختلف الأثران؟

ويرجع الشيخ محمد عبده سبب تأخر المسلمين إلى:” استيلاء الجهلة على حكومتهم ، أقول الجهلة وأريد أهل الخشونة والغطرسة الذين لم يهذبهم الإسلام ولم يكن لعقائده تمكن من قلوبهم ولو رَزِق الله المسلمين حاكما يعرف دينه ويأخذهم بأحكامه لَرَأيتهم قد نهضوا والقرآن في إحدى اليدين وما قرر الأولون وما اكتشف الآخرون في اليد الأخرى، وهذا لدنياهم ، وساروا يزاحمون الأوروبيون فيزحموهم

يقول عبد الوهاب المسيري:” أما في شرقنا العربي، فالتصور السائد بين بعض مؤرخي العلمانية أن الأفكار العلمانية ظهرت في أوروبا المسيحية بسبب طبيعة المسيحية باعتبارها عقيدة تفصل بين الدين والدولة” أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر” ، وبسبب فساد الكنيسة وسطوتها ، فالعلمانية من ثمة ظاهرة مسيحية وحسب مرتبطة ارتباطا كاملا بالغرب الذي لا يزال بعضهم يصفه بأنه مسيحي ، ولا علاقة للإسلام والمسلمين بها

د. سفر بن عبد الرحمان الحوالي يقول:” ليس غريبا أن يكون أول من دعا إلى العلمانية بشعارها الصريح أو نحت أسماء أخرى كالقومية والوطنية هم نصارى الشرق

نستطيع أن نستفيض في أقوال الإسلاميين المعادين للعلمانية ولكن ذلك يطول.

أيا ما يكون من أمر العلمانيين والإسلاميين فإن الحوار حول العلمانية يكاد يلهي الشعب العربي عن مشاكله الحقيقية.

إن الحديث عن الإسلام والعروبة والعلمانية ليس حديثا عن الإسلام والعروبة والعلمانية كمواضيع منفصلة بل هو حديث عن العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة . وعندما نعرف العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة سيسهل علينا معرفة موقعنا من التقدم فنعرف كيف نتقدم كما تقدمت المجتمعات الغربية وأكثر.

فهل تخلفنا لأننا لم نطبق العلمانية أم لأننا استبعدنا الإسلام؟

إن جواب العلمانيين وكذا الإسلاميين لا يقول لنا من نحن؟ ما هو مجتمعنا؟ وهذا هو مكمن الضعف في الموقفين. إنهما يناقشان الموقف مجردا دون وضعه على أرض الواقع.

تتطور المجتمعات من الأسرة إلى العشيرة إلى القبيلة إلى الشعب إلى الأمة إلى ما بعد الأمة مستهدفة إشباع حاجات الإنسان المادية والروحية والثقافية المتجددة أبدا .

عندما تصبح الأسرة عاجزة عن إشباع حاجات أفرادها تندمج الأسر في عشيرة ثم العشائر في قبيلة وهكذا…لا تستوي المجتمعات البشرية تقدما، فبينما تقف المجتمعات الغربية على مشارف مرحلة ما بعد الأمة من خلال الاندماج في الإتحاد الأوروبي، لا تزال مجتمعات عدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية في المرحلة القبلية بالرغم من جمعها داخل حدود دولية.

عندما جاء الإسلام كانت هذه المنطقة التي نعيش فيها ، كانت شعوبا وقبائل، لم ترتق إلى مرحلة الأمة لأن الغزو الخارجي الفارسي والروماني قد عطل عملية تطورها فظلت كما هي قرونا طويلة شعوبا وقبائل، ذلك أن التطور لا يتم إلا في ظل الحرية. أعطى الإسلام لهذه الشعوب والقبائل وحدة الدين ووحدة اللغة والأمن وحررها من الغزو الخارجي، فراحت تصوغ حياتها المشتركة على الأرض المشتركة في ظل الدولة المشتركة التي كانت حدودها تتمدد وتتقلص وفقا لمواقع جنودها. نتج عن ذلك تاريخ مشترك وحضارة مشتركة تجلت في منتجات مادية وفكرية في ظل الدين الإسلامي فأصبحت به أمة عربية واحدة، ” الإسلام نسيج حضارتها” كما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة.

ثم جاء الاستعمار الأوروبي فمزق هذه الأمة إربا ، اقتساما للأرض والشعب والثروات بين المستعمرين من خلال معاهدة سايكس بيكو1916 ووعد بلفور 1917 ومؤتمر سان ريمو 1920 وغيرها ووضع على رأس كل دولة من هذه الدول التي اختط هو حدودها حكومات عميلة تسحق الشعب العربي سحقا وتحمي مصالح أسيادها المستعمرين، وغرس في قلب الأرض العربية دولة صهيونية غاصبة، فأعطى ما لا يملك لمن لا يستحق. ثم زاد فمنح تركيا العلمانية لواء الإسكندرونة وايران اقليم الأهواز العربي.( أرضنا العربية يحتلها الآن العلمانيون والإسلاميون على حد سواء)

نحن إذن كما قال الدكتور عصمت سيف الدولة :”شعب معتدى عليه من خارجه،اغتصابا واحتلالا وهيمنة وتبعية. ومعتدى عليه من داخله ، قهرا وظلما وإذلالا واستغلالا

ونحن مطالبون بمواجهة العدوان الخارجي المتمثل في الاستعمار والهيمنة والعدوان الداخلي المتمثل في التجزئة والاستبداد والاستغلال. إن مشكلة الشعب العربي أنه لا يتطور بما هو متاح له ليتطوربه إذ يحول الاستعمار والهيمنة والتجزئة والاستبداد والاستغلال دون الشعب العربي ودون الإمكانيات المتاحة في وطنه.

لقد بين عرضنا للموقفين العلماني والمعادي للعلمانية أن هذين الموقفين يتشابكان في الواقع العربي ويثيران عاصفة غبراء من الجدل تكاد تلهي الشعب العربي عن غاياته القويمة في الحرية والوحدة والاشتراكية.

هذا من ناحية، من ناحية أخرى فإن استبعاد الإسلام هو استبعاد للوجود العربي ذاته ، ذلك أن الإسلام هو موجد الأمة العربية ولم تكن موجودة قبله فاستبعاد الإسلام-إذن- هو استبعاد للفعل التاريخي الاجتماعي ولثمرة هذا الفعل : الأمة العربية.

من ناحية ثالثة نحن نسأل مع الدكتور عصمت سيف الدولة:” كيف يلد الجنيه جنيها وأكثر؟…كيف تتكاثر أرقام الثروة بدون تدخل من صاحبها ؟…إن الإجابة على هذه الأسئلة هي الإجابة على السؤال: ماهو المصدر الأساسي لاستبداد البورجوازية؟ فنجيب: إنه الربا ، لهذا قلنا من قبل ونقول الآن أن الربا هو مفتاح باب الاستبداد. ومادام الربا مباحا فلن تقوم للحرية قائمة

ويواصل سيف الدولة القول في سياق آخر:”ولو ألغي الربا فسيكون الدخل من بابه الحلال : العمل. حينئذ قد يتمايز الناس بقدر ما يمتاز بعضهم على بعض فكرا أو تدبيرا أو مهارة ولكن لن يسبق أحد أحدا لأنه أكثر مالا ولن يستبد أحد بأحد على الطريقة البرجوازية

من ناحية رابعة : على الذين ينادون بتطبيق الإسلام نقول لهم لبيكم ولكن قولوا لنا ماذا تقصدون بالإسلام ؟ ماهو فهمكم للإسلام ؟ الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان فكيف تفهمونه في الزمان والمكان الذي نعيش أي في الوطن العربي في بداية القرن الواحد والعشرين، لقد اجتهد أسلافنا وحلوا مشاكل مجتمعاتهم في أزمانها فأنتجوا ما لا حصر له من الأفكار والمواقف والاجتهادات ونسبوها إلى أنفسهم ، فطبيعي أن ينسب الاجتهاد للمجتهد لا لموضوع الاجتهاد ، فأين اجتهاداتكم ؟ وإن وجدت فبأي منهج علمي قاربتموها؟ إنكم لا تفتأون تنسبون أفكاركم إلى الإسلام وتسمون أنفسكم الحركة أو الحركات الإسلامية ، ألا تعتقدون أنكم بذلك تشوهون الإسلام فتنسبون أخطاءكم إلى الإسلام وهو منها براء؟

ومع ذلك يبقى السؤال قائما : ما طبيعة النظام الذي نعد به شعبنا؟ وكيف نعرفه؟

إن الانطلاق من اننا امة عربية مسلمة يلزمنا بالرجوع الى ديننا الاسلامي الحنيف باعتباره (على خلاف المسيحية) دين ودنيا، فكيف نفهمه وكيف نستخلص من هذا الدين الصالح لكل زمان ومكان ما يصلح لامتنا العربية في الزمن الذي نعيش؟ الجواب في غاية البساطة: يقول الله تعالى : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ

القران –اذن- المحكم ومتشابه، المحكم ايات قطعيات الدلالة قطعيات الثبوت غير قابلة للتاويل، والمتشابه ايات قابلة للتاويل، وقد قال القاضي عبد الجبار صاحب شرح الاصول الخمسة::اننا اذا علمنا عدل الله وحكمته بالدلالة القاطعة التي لاتحمل الشك، نعلم انه لايفعل ما يفعله الا وله وجه من الحكمة في افعاله تعالى. وقد ذكر اصحابنا في ذكر ذلك وجوها لا مزيد عليها، احد الوجوه: انه تعالى لما ان كلفنا النظر وحثنا عليه ونهانا عن التقليد ومنعنا منه، جعل القران بعضه محكما وبعضه متشابها ليكون ذلك داعيا لنا الى البحث والنظر وصارفا عن الجهل والتقليد. والثاني انه جعل القران على هذا الوجه ليكون تكليفنا به اشق ويكون في باب الثواب ادخل….الخ” ويقول القاضي عبد الجبار في موضع اخر” ولو شاء ربك لجعله محكما كله

السؤال هنا : كيف نؤول المتشابه؟

احصى الدكتور عصمت سيف الدولة في كتاب الله 180 اية تقرن الايمان بالله بالعمل الصالح او احدى مشتقاته، وهذا يجعلنا نفهم ان تاويل المتشابه من القران يكون على اساس العمل الصالح . الصالح بمن؟ الصالح بالمجتمع. وكيف نعرف العمل الصالح بالمجتمع ؟ بالاتجاه الى الناس ومعرفة مشاكلهم وحاجاتهم واخذ ارائهم في حلولها والعمل براي الاغلبية في اطار ما يسميه الدكتور عصمت سيف الدولة :” النظام العام الاسلامي” وفي نطاق الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في المجتمع. من هنا يكون الاسلام واحدا في كل بقاع المسلمين وفي كل ازمانهم ويكون تاويله مختلفا بحسب الزمان والمكان ودرجة تطور كل مجتمع والامكانيات المادية والبشرية المتاحة فيه. ولا يكون التاويل ايا كان الزمان وايا كان المكان منسوبا الى الاسلام ولكن منسوبا الى اجتهادات المسلمين من داخل دينهم وفقا لظروفهم فيكون ملزما للجماعة التي اولته وفقا لمصالحها في زمانها وفي مكانها ولا يكون حجة على مجتمعات اخرى وازمان اخرى

هكذا إذن فإن المشاريع التي تدعو إلى تقدم المجتمع ولحاقه بركب التقدم سواء كانت علمانية أو معادية للعلمانية تظل مشاريع ظالمة أو منافقة طالما أنها تسكت عن المشاكل الحقيقية التي تعوق تقدم وتطور شعبنا العربي بما هو متاح له ليتقدم ويتطور ، هذه المشاكل المتمثلة في الاستعمار والهيمنة والتجزئة والاستبداد والاستغلال.

إن أي استبعاد للعروبة والإسلام من أي مشروع تحديثي سيكون مآله الفشل المحقق.

إن التقدم في أي مجتمع يبدأ بمعرفة المشكلات التي تعوق تقدمه، لا اصطناع مشكلات غريبة عن الواقع غريبة عن الزمان والمكان وهذا هو جدل الإنسان.

المراجع:

1 ) الجابري، محمد عابد : الخطاب العربي المعاصر، دار الطليعة ، الطبعة الثالثة 1988

2 ) الدسوقي، عاصم : العلمانية… ولماذا يكون فيها حل مشكلات المصريين ، مجلة الآداب ، 2007

3 )سيف الدولة، عصمت: الإستبداد الديمقراطي، دار البراق للنشر،تونس،الطبعة الأولى، 1990

عن العروبة والإسلام، دار البراق للنشر،تونس،الطبعة الثانية،1990

4)عبده،الشيخ محمد : الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، دار الحداثة، الطبعة الثالثة 1988

5) العظمة، عزيز: جولة في أفق العلمانية وشأن الحضارة ، مجلة الآداب ، 2007

6) غليون، برهان:من العلمانية إلى العلمنة، مجلة الآداب ، 2007

7) رضا، محمد رشيد :مقدمة كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، دار الحداثة، الطبعة الثالثة 1988

 المسيري، عبد الوهاب: العلمانية تحت المجهر، دار الفكر، بيروت،الطبعة الأولى