ثنائيات متداخلة في عملنا الحركي (2)

ثنائيات متداخلة في عملنا الحركي (2)

بين النقد البناء والانتصار للنفس

جمال زواري أحمد ـ الجزائر

[email protected]

في الكثير من الأحيان يقع الخلط والتداخل بين مفهومي النقد البناء والانتصار للنفس في ممارساتنا ومواقفنا العملية على طريق الدعوة والحركة ، فالنقد البناء في بنائنا الدعوي والحركي إذا روعيت أصوله وآدابه ، مؤشر صحة ودليل خلود وعلامة استمرار ، ووسيلة مهمة من وسائل التصويب والتجدد وتجنب القصور وإصلاح الأخطاء ، يقي العثرات ويخصب التجربة ، وهو قبل ذلك وبعده منهج قرآني وتطبيق نبوي رافق الدعوة في خطواتها الأولى ، فعلى الرغم من عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم المسدد بالوحي والمؤيد به ، فقد كانت بعض الاجتهادات في مواقف النبوة محلا لتصويب الوحي وعتابه وتنبيهه ، لتكون وسائل إيضاح وبصائر معينة على الإدراك وسنة جارية للتدليل على أهمية هذا المنهج وضرورة تطبيقه ، لتسديد مسيرة الدعوة وتجنب العثار والإفادة من تجارب واجتهادات الخطأ للوصول إلى فقه الحقيقة والصواب.

النقد الذي يراد به البناء ، لابد أن ينطلق من قلب سليم هدفه التصحيح لا الشماتة ، همه التصويب لا التشهير ، كما قال الشاعر:

شهد الله ما انتقدتك إلا         طمعا أن أراك فوق انتقاد

وقول الآخر:

أنت عيني وليس من حق عيني       غض أجفانها على الأقذاء

أما إذا كان النقد منطلقا من هوى دفين أو شهوة خفية أو نزوة عابرة أو رغبة جامحة أو حسد مذموم أو غيرة قاتلة أو مصلحة طاغية أو دنيا غالبة أو منافسة غير شريفة ، فهو انتصار للنفس وليس نقدا بناء على الإطلاق ، ورحم الله ابن مالك لما قال في مقدمة كتاب التسهيل:(نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف ، ويصد عن جميل الأوصاف).

وقد أغضب رجل عمر بن عبد العزيز فقال له :(لولا أني غضبان لعاقبتك)، لخشيته أن تكون العقوبة انتصارا للنفس وليس لله.

وقال أحد الصالحين:(ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان، من إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له).

وقال آخر:(لا تصحب من يتغير عليك عند أربععند غضبه ورضاه، وعند طمعه وهواه).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :( لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا، قيل له : كيف ذلك؟

 قال : إذا أحببت كلفت كلف الصبي ، وإذا أبغضت أحببت لصاحبك التلف).

فذوو المعادن الأصيلة لا يخرجهم غضبهم لأنفسهم عن حدود الشرع ومعالم الحق ، ويقاومون بشدة وحزم رغبة نفوسهم في التشفي والانتقام وتصفية الحساب ومجانبة الصواب ومخالفة الإنصاف ، لأن:(النفس الإنسانية إذا ألح عليها معنى الانتصار ولو بغير الحق ، لم تعد تفكر فيما عداه ، حتى تصل إلى الهزيمة التامة) ، كما قال الإمام البنا رحمه الله.

فالناس معادن خيارهم في السراء خيارهم في الضراء ، خيارهم في التولية خيارهم في العزل، خيارهم في الجاه خيارهم في الخمول، خيارهم في القوة خيارهم في الضعف، خيارهم في الجندية خيارهم في القيادة ، كما أكد الدكتور السباعي رحمه الله.

 فقد لا يكون النقد من أجل إحقاق الحق وتصويب الخطأ وتقويم الاعوجاج وتصحيح الانحراف ، وغيرة على المشروع والمنهج ، وإنما يكون لما في الصدر وغضبا وانتصارا للنفس ، كما قالها عمرو بن الحمق ـ أحد قتلة سيدنا عثمان رضي الله عنه ــ لما وثب على صدره ، طعنه تسع طعنات وقال : فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ست فلم كان في صدري عليه).

وفي آداب النقد البناء وموازينه يقول الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله :(إذا لزم النّقد فلا يكون الباعث عليه الحقد ، ولكن موجّه إلى الآراء بالتمحيص ، لا إلى الأشخاص بالتنقيص).

فقد حدّد الإمام الإبراهيمي رحمه الله شرطين اثنين كي يكون النقد بناء ومثمرا ومفيدا ، وإلا فهو انتصار للنفس وتعبير عن حقد دفين

ــ أولهما : أن لا يكون الباعث عليه الحقد  لأنّ القلب إذا أظلم وضاق وامتلأ غيظا وكمدا وحقدا وحسدا ، غبشت مرآته، وطمست بصيرته ، فتنقلب موازينه ، وتتشوّه الصورة لديه ، فيصبح صاحبه يخبط خبط عشواء ، فيطلق العنان للسانه ، يحسب أنه ناقد بصير ، وهو في حقيقته حاقد كبير ، يترصّد الأخطاء وإن قلّت فيضخّمها ويجعل من الحبّة قبّة ، ويدفن الحسنات والفضائل والإنجازات والنجاحات ويغيّبها ، وقد نبّه الشيخ الغزالي رحمه الله إلى دوافع هذا السلوك بقوله:(وكثير ما تطيش الخصومة بألباب ذويها ، فتتدلّى بها إلى اقتراف الصغائر المسقطة للمروءة ، والكبائر الموجبة للّعنة ، وعين السخط تنظر من زاوية داكنة ، فهي تعمى عن الفضائل ، وتضخم الرذائل ، وقد يذهب بها الحقد إلى التخيل وافتراض الأكاذيب ، وذلك كلّه ممّا يسخطه الإسلام ويحاذر وقوعه ، ويرى منعه أفضل القربات ... فصاحب الصدر السليم يأسى لألام العباد ، ويشتهي لهم العافية ، أما التلهّي بسرد الفضائح ، وكشف الستور ، وإبداء العورات ، فليس مسلك المسلم الحق).

ـ ثانيهما :أن يكون موجّها للآراء بالتمحيص لا إلى الأشخاص بالتنقيص  أي أن تكون وجهة النقد والناقد الذي يريد البناء والتغيير نحو الأفضل ، الآراء فحصا وغربلة وتأصيلا وتصويبا وتصحيحا وتنبيها ، لا الأشخاص أصحاب هذه الآراء تجريحا وتنقيصا واتهاما وتشهيرا ومحاكمة لنواياهم وبخسهم أشيائهم ، بحيث من الواجب أن تكون الأعراض خطا أحمرا مهما كانت المبرّرات والدوافع للنقد، لأنّ الولوغ فيها حالقة للدين والإيمان ، ومحصدة للحسنات ، ومهتكة لجميل ستر الله على العبد ، كما جاء في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الربا اثنان وسبعون بابا ، أدناها مثل إتيان الرجل أمه ، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه)(السلسلة الصحيحة).

والقاعدة المتعارف عليها في ساحتنا الدعوية :( تجنب غيبة الأشخاص وتجريح الهيئات ولا تتكلم إلا بخير).

مع ضرورة استحضار العدل والإنصاف كقاعدة أساسية وضابط مهم في التعامل النقدي مع الأفكار والآراء والواقف أشار إليها وأكّد عليها الإمام الشاطبي رحمه الله في سفره العظيم الموافقاتبقوله): البس التقوى شعارا ، والاتصاف بالإنصاف دثارا ، واجعل طلب الحق لك نحلة ، والاعتراف به لأهله ملّة ، لا تملك قلبك عوارض الأغراض، ولا تغيّر جوهرة قصدك طوارق الإعراض).

لقد أعطانا الشيخ الإبراهيمي الميزان الدقيق الذي نمّيز به بين النقد البنّاء والنقد الهدّام ، فإن كنت كثير النقد والانتقاد ـ وهذا حقّك ـ فأعرض نفسك على هذا الميزان ، وزن به ما يصدر منك وعنك لتتأكّد أهو مساهمة في الإثراء ولبنة في البناء ورغبة في الإصلاح وحرصا على التحسين والتطوير، أم هو انتصارا للنفس وانتقاما لها، وتبريرا للعجز وتغطية عن التقصير وتعبيرا عن هوى دفين وحقد مكنون وتصفية حساب لا غير.

فالفرق شاسع والبون كبير بين أن تنتقد نقدا بناء حرصا منك على بلوغ الأفضل والأحسن والأجود لك ولإخوانك ولقيادتك ولدعوتك وحركتك، وقصدا منك للتصويب والتصحيح والتقويم ، وأن تتكلم وتنتقد وتقيم الدنيا ولا تقعدها غضبا لنفسك وانتصارا لها بغير حق، وانتقاما من منافسيك وثأرا لخسارتك موقف أو موقع أو منصب أو مصلحة ذاتية وشخصية ، فلا يجوز الخلط بين الأمرين ، ولا يجوز التداخل بين الممارستين والسلوكين والمفهومين ، فالأول مطلوب مرغوب فيه ، أما الثاني فمرفوض لا يليق أن يكون من أخلاق الدعاة بحال.