المعرفة بين المستطيل والمثلث

محمد جهاد إسماعيل

المعرفة بين المستطيل والمثلث

محمد جهاد إسماعيل

مصطلح المعرفة كما غيره من المصطلحات الأخرى الشبيهة به كالثقافة, والحضارة, والعلم, يقبل تأويلات وشروحات وتفسيرات جمة ولا متناهية. فمصطلح المعرفة كنظائره من المصطلحات الأخرى سالفة الذكر, تكثر في فهمه الاجتهادات والرؤى وتتعدد في وصفه التعريفات.

المعرفة ببساطة شديدة ومتناهية, هي كل ما يعرفه الإنسان ويعيه في حياته. ونحن في هذا التعريف نقصد بالتأكيد المعرفة الإنسانية دون غيرها من المعارف الأخرى. فالله تبارك وتعالى له معرفة مطلقة لا تضاهيها معرفة, والملائكة في السماوات لها معرفة, والجن لها معرفة خاصة بها, والحيوانات لها معرفة, والطيور وكائنات البحر والماء جميعها أيضاً لها معارف تختص بها.

لا يمكننا فهم المعرفة الإنسانية بالإجمال والعموم, وإنما ينبغي علينا تفصيلها وتقسيمها, كي تصبح سائغة للفهم والاستيعاب. يمكننا تقسيم المعرفة الإنسانية إلى ثلاثة أنواع:

1) معرفة فطرية.

2) معرفة مكتسبة.

3) معرفة علمية.

أما المعرفة الفطرية فهي التي يدركها الإنسان بالفطرة, أي بدون أن يبذل أي جهد كان في طلبها وتحصيلها, وعادة ما يبدأ الإنسان في اكتسابها منذ أن يكون جنيناً في بطن أمه.

والمعرفة المكتسبة هي المعرفة التي يكتسبها الإنسان ويتعلمها من محيطه. أي من تجاربه الشخصية, وتجارب الآخرين, ومشاهداته, وروايات الآخرين. وعادة ما يبدأ الإنسان في اكتساب هذا النوع من المعرفة بعد ميلاده بفترة من الزمن. وقد يستمر هذا النوع من المعرفة مع الإنسان طويلاً, فقد يرافقه حتى هرمه وموته إن ظل أمياً لا يقرأ ولا يكتب ويتعلم.

أما المعرفة العلمية فهي المعرفة التي لا ينالها سوى المتعلمين, يسعى الإنسان في طلبها بجد, فيحصل عليها من المدرسة, أو المعهد, أو الجامعة, أو حتى من مطالعته ودراسته الشخصية.

اهتداء الوليد إلى ثدي أمه بعد ميلاده بساعات, هو نموذج للنوع الأول من المعرفة (المعرفة الفطرية). وتعلم الإنسان للغة القوم المحيطين به, هو نموذج للنوع الثاني من المعرفة (المعرفة المكتسبة). ونيل الإنسان لدرجة الدكتوراة, هو نموذج للنوع الثالث من المعرفة (المعرفة العلمية).

يشترك الإنسان مع باقي الكائنات في النوعين الأول والثاني من المعرفة. فسائر الكائنات الحية الموجودة في كوكبنا تخلق وتخلق معها معرفتها الفطرية, ومن ثم تعيش وتعيش معها معرفتها المكتسبة لتدوم معها طوال حياتها. لكنها إطلاقاً لا تدرك شيئاً من المعرفة العلمية, لأنها تخص الإنسان وحده دون بقية مخلوقات الأرض, فهي التي تميزه ككائن عاقل مفكر, عن بقية هذه المخلوقات.

ما يهمنا ها هنا هو فهم النوع الثالث من أنواع المعرفة, أي المعرفة العلمية (أو العلم). وبدورها تنقسم المعرفة العلمية إلى قسمين اثنين, هما:

1) التقليد.

2) الإبداع.

التقليد هو تعلم المعرفة أو العلم الذي جاء به السابقون كما هو وبلا إضافة شيء عليه. أما الإبداع فهو عدم الاكتفاء بتعلم العلم التقليدي, بل إضافة ما هو جديد على ذلك العلم. التقليد ما هو إلا محاكاة للآخرين فيما اجتهدوا فيه من قبل, أما الإبداع فهو خلق ما هو جديد والإتيان بما هو مختلف. التقليد يعني الجمود والركود, أما الإبداع فيعني الإنتاج والحركة والتجديد.

التقليد يجعل للمعرفة شكلاً مستطيلاً. فالمستطيل ينتهي بنفس الاتساع الذي يبدأ به, وكذلك المقلد في العلم والمعرفة لا يضيف شيئاً للعلم الذي تعلم منه, بل يتركه كما هو على ذات اتساعه وحجمه السابق, تماماً كالضلعين الطويلين للمستطيل, واللذين بدورهما يصلان بالمستطيل في نهايته إلى نفس الاتساع الذي بدأ به, أي بلا إضافة أو زيادة.

أما الإبداع فيجعل للمعرفة شكلاً مثلثاً. فالمثلث ينتهي باتساع أكبر بكثير من ذلك الذي بدأ به. وكذلك فإن المبدع في العلم والمعرفة يضيف الشيء الكثير للعلم الذي تعلم منه. فالمبدع ينمي العلم ويزيده, ولا يبقي عليه كما كان قبل حدوث حالة الإبداع. أي تماماً كأي ضلعي مثلث وصلا بدورهما بالمثلث في نهايته إلى اتساع أكبر بكثير من ذلك الاتساع الذي بدأ به. وذلك التعاظم في الاتساع يمثل الفائدة العظيمة والزيادة التي اكتسبها العلم والمعرفة, جراء قيام المبدع بحالة إبداع ما.

المستطيل يبدأ بزاويتين اثنتين وينتهي بمثلهما, وكذلك يبدأ باتساع معين وينتهي بذات الاتساع. وهكذا هو التقليد, لا يؤثر على حجم العلم والمعرفة, فلا يزداد به العلم ولا يكتسب منه شيئاً.

المثلث يبدأ بزاوية واحدة وينتهي بزاويتين اثنتين, ويبدأ باتساع ضئيل يأخذ بالتعاظم كلما اقتربت نهاية المثلث. وهكذا هو الإبداع, يؤثر على حجم العلم والمعرفة, فالإبداع يزيد من العلم ويضيف إليه الشيء الكثير.

لذلك فالتقليد يفعل في العلم والمعرفة ذات فعل المستطيل, أما الإبداع فيفعل فيهما ذات فعل المثلث.

طالب علم أو باحث في ميدان الرياضيات يختلف بالطبع عن طالب علم أو باحث آخر غيره. فالأول يتعلم من علم الرياضيات ولا يضيف له شيئاً, أي يأخذ من العلم ولا يعطيه. بينما الثاني يتعلم من علم الرياضيات ويضيف إليه نظرية جديدة, أي يأخذ من العلم وفي المقابل يعطيه.

الطالب أو الباحث الأول هو المقلد صاحب الأثر السلبي, أما الطالب أو الباحث الثاني فهو المبدع إيجابي الأثر.

الرياضيات كعلم لم تستفيد من الطالب أو الباحث الأول لأنه سلبي وستاتيكي وغير مجدي, ولكنها استفادت من الآخر لأنه أثراها بنظرية جديدة, فكان له كل الأثر الإيجابي والبناء في تنمية العلم, وهذا هو الإبداع. فالأول مثله مثل المستطيل والثاني مثله مثل المثلث !!.

خلاصة القول هي أن المعرفة العلمية لا تزداد بالتقليد بل تبقى كما هي, بلا حراك ولا نمو. بينما تزداد المعرفة بالإبداع وتنمو ويأخذ حجمها بالازدياد والامتداد.

تطور ونماء العلم أو المعرفة العلمية ينعكس بالإيجاب على المعرفة المكتسبة. فتطور العلم والمعرفة العلمية يزيد من تقدم وتطور المجتمع, والمجتمع بدوره هو المحيط الذي يكتسب منه الأشخاص الأميين أو المتعلمين قبل تعلمهم معرفتهم المكتسبة. فالمعرفة المكتسبة كما سبق الذكر يكتسبها الإنسان من محيطه ومجتمعه, ففي تطور وتقدم المحيط والمجتمع هناك بالتأكيد تطور وتقدم في ذلك النوع من المعرفة.

تطور ونماء العلم والمعرفة العلمية (بالإبداع), لا يؤثر على المعرفة الفطرية سواء بالسلب أو الإيجاب. لكن تقدم العلم والتطور المعرفي يساهمان وبلا شك, في زيادة وسهولة استكشاف ورصد معالم وآيات وعلامات, ذلك النوع الغامض من أنواع المعرفة الإنسانية.