الثورة والإبداع

د. نعيم محمد عبد الغني

الثورة والإبداع

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

في منصف السبعينات شهد العالم العربي حالة تراجع على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والثقافية، وظلت هذه الحالة مستمرة، مما جعلنا نتساءل: لماذا لا نرى رموزا كبيرة مثل التي شكلت عقل الأمة ووعيها؟ هل العقل الإنساني يشهد مرحلة تقليد تعقبها مرحلة تجديد، ثم تقليد لما كان من تجديد؟ أم أن الانحطاط الفكري مترتب على الانحطاط السياسي؟ لماذا كانت أواسط القرن العشرين حافلة بالإبداع والمبدعين وسط ظروف أراها أصعب من ظروفنا، فلم يكن الكتاب متاحا عندهم مثل إتاحته لنا، ولم تكن وسائل الاتصالات ميسرة لهم مثل ما هي ميسرة الآن؟

تفكرت في ذلك وسألت عنه بعض المهتمين بالشأن الثقافي، فكانت إجاباتهم متقاربة، منهم من أرجع ذلك إلى طبيعة الفكر البشري الذي تكون موجاته قمما وقيعانا، فساعة في تقدم وأخرى في تأخر، ومنهم من أرجعها للنظم السياسية التي أفقرت المبدع العربي؛ لتصرفه عن إبداعه إلى البحث عن لقيمات يقمن بها صلبه، ومنهم من أرجعها إلى أن المبدع العربي سرقت حريته وبات يخشى من سيف الحاكم ويطمع في ذهبه.

وتأملت ما حدث للعالم العربي قبل ثورة يوليو، وفي أواخر عهد الاحتلال الإنجليزي، فوجدت أن الناس بدأوا في حراك قوي للتخلص من قيود الاستعمار، وبدأت حالة إبداع تولد مع حالة البحث عن الحرية، فبدأت القلة المثقفة أكثر تأثيرا في الكثرة الأمية من الشعوب العربية، فسافر منهم من سافر إلى دول أوروبا وحصل على الدكتوراه وعاد إلى العالم العربي وترجم لهم ما وسع أفقهم، وأخرجت كتب عربية أصيلة من أجداثها لاتطبع لأول مرة، وباتت أفكار الكواكبي ورشيد رضا ومحمد عبده وسيد قطب وغيرهم تنتشر بين المصريين وترجمها الأدباء في عبارات جذبت الناس وشكلت وعيهم، فكان الأدباء المصريون عندما يكتبون في الأدب والسياسة تراهم يكتبون عن الأدب العالمي وخاصة من الأدب الفرنسي والإنجليزي والروسي.

كل هذا ساهم في خلق روح ثورية قبل ثورة يوليو التي انطلقت من الجيش المصري وساندها الشعب، وبعدها ظلت الأمة العربية تتخلص من الاستعمار بلدا وراء الآخر، وبدأت حالة إبداع في كافة المستويات، حتى منتصف السبعينات التي بدأت فيها مرحلة التقليد للتجديد الذي واكب ثورة يوليو، باستثناء السنوات الأخيرة في فترة حكم عبد الناصر الذي بدأت في عهده مرحلة كبت الحريات، مما اضطر الأدباء إلى أن يكتبوا كلاما لا يصل إلى القاعدة الشعبية العرضية، وبدأت مرحلة الرمزية في الشعر والنثر، وبات مذهب الرمزية إفرازا لقمع الحريات في عهد عبد الناصر، حتى جاء السادات وفتح هامشا من الحرية أعقبه نصر أكتوبر ثم بعدها حدثت مفاوضات كامب ديفيد التي لم تجد ترحيبا شعبيا، وقتل السادات بسببها حتى جاء نظام مبارك وكثير من الأنظمة العربية التي استوعبت درس عبد الناصر في قمع الحريات، وحدث تنسيق أمني كبير بين هذه الأنظمة لقمع الشعوب وإرضاء العم سام، وبات الناس يعشون حالة من الفقر والقهر، تراجعت معه حركة الإبداع في العالم العربي.

وسط هذه البيئة تهاوت الطبقة المتوسطة التي غالبا ما يخرج منها الأدباء والمبدعون، وبدأ الناس يموتون من الفقر والقهر، وينادون بالحرية، وقامت الثورة التونسية، ونجحت في كسر نظام أمني قمعهم خمسين عاما، وأعقبتها الثورة المصرية التي كسرت حاجز الخوف عند الشعوب وبدأت الآن حالة ثورية للقضاء على مرحلة مضت واستشرافا لمرحلة أكثر تفاؤلا.

لاحظنا في هذه الثورات ميلاد حركة جديدة من الإبداع، ومعاني لم تكن مطروقة في الكلام، تجمع بين العمق والبساطة، ومستخدمة لغة عصرية، ليكون التاريخ أحسن توثيقا وأكثر تصديقا. ولك أن تقرأ مثلا لبلال فضل أو عمرو قطامش أو تميم البرغوثي وعبدالرحمن يوسف وغيرهم من الشباب ما يؤيد هذا القول، لك أن تقرأ هذا المعنى لعمرو قطامش الذي لاحظ كراهية الحكام العرب ليوم الجمعة الذي تخرج فيه الثورات فقال:

ومحطة إعلام الـ كاكي رخصتهم كانت ملاكي

قبل الثورة اخترناه وبايعناه .. بعد الثورة غنوا لولاكي

يوماً قلبت التلفاز لمحطة إعلام الكاكى ,,

لأتابع أخبار الثورة بعد أن افتعلت إرباكي ,,

قالت مذيعة بلهجة سريعة ,,

معنا مسئول كبير ليناقش أمر التحرير ,,

أوجدنا حلاً لنقلل عدد المحتشدين على الميدان ,,

قطع الماء وقطع النور وقطع الفول .. مع إلغاء النت وشبكات المحمول ,,

ولنقضى على المليونية .. أوجدنا حلاً وبسرعة ,,

وبدون نقاش وجدال .. قد ألغينا يوم الجمعة ,,

كي نهدأ برهه وننام .. خلى الأسبوع ست ايام ,,

ولأثبت للعالم أني أهتم بديني للأبدِ

فـ صلاة الجمعة يا ولدى كمؤازرة سنصليها مع إخوتنا يوم الأحد ,,

في هذه الأبيات نلحظ بساطة العرض وطرافته، وصدق الترجمة عن مشاعر الناس وما عانوه طوال السنوات الماضية، ونجد تأريخا مهما لقيام الثورات في يوم الجمعة مع سخرية لاذعة من تبريرات الأنظمة الحاكمة حينما يضيقون على الشعوب ويمنعونهم من أبسط حقوقهم.

وما تغنى به الشباب في ميدان التحرير وبات ملازما لثورة يناير يرجع بك إلى عهد الزمن الجميل، زمن الإبداع، يقول تميم البرغوثي:

يا مصر هانت وبانت كلها كام يوم… نهارنا نادي ونهار الندل مش باين

الدولة مفضلتش منها إلا حبة شوم..

لو مش مصدق تعال ع الميدان عاين

ويتحدث في باقي القصيدة عن القهر والفقر المواكب للشعب الذي ثار على حاكمه، ولنأخذ مثلا حديثه عن وزير الداخلية المصري:

يا عسكري أنا أصلي بس بستغرب.. لو لاقي تأكل وتشرب قوم يا عم اضرب.

اضرب عشان الوزير من ضربتك يطرب.. لكن هتشتغل إيه لما الوزير يهرب.

أما شعارات المظاهرات فمثلت هي الأخرى حالة إبداع للمواطن العادي الذي كان يبتكر في وسائل التعبير، وقد رصدتها في مقال سابق قلت فيه: "ثورة 25 يناير 2011 التي فجرها شباب الإنترنت نرى بها تطورا ملحوظا في وسائل التعبير، فالثورة لم تبدأ ببيانات، وإنما بدأت بمحادثات على الإنترنت، ومراسلات ابتكر فيها المراسلون طرقا لا رقابة عليها، فالكل يتكلم بحرية باسمه الحقيقي أو باسمه المستعار، والكل يتناقل النكات والطرائف، والرسوم الكاريكاتورية، والصور المركبة التي وضعت لها تعليقات ساخرة، وكل هذه من وسائل التعبير توحي بحالة إبداع"

آمل أن تكون النظم السياسية القادمة أكثر وعيا بحاجة الشعوب إلى الحرية التي هي وقود الإبداع والتقدم الحضاري، لتكون أمتنا قائدة النهضة البشرية.