في غَزَّةَ بعد ستةَ عشرَ عامًا

في غَزَّةَ بعد ستةَ عشرَ عامًا

أكرم علي حمدان

(1)

هأنذا أعودُ لغزَّةَ زائرًا بعد غياب دام ستةَ عشرَ عامًا؛ أعودُ لبيتي الذي فيه وُلدتُ ونشأت؛ لحارتي التي فيها لعبتُ ودرجت؛ لأهلي وصحبي الذين سعدت بهم أيَّ سعادة، وابتهجت للقائهم بعد طول فراق، كما ابتهجت بكل من زارني من الوجوه الجديدة، ممن كانوا في السن صغارًا يوم تركت، لكنهم غدَوُا اليومَ رجالَ المرحلة، وشبابَ التغيير المنشود.

هأنذا اليوم أعود لغزة لأجدَ أمورًا كثيرة قد تغيرت، على كلِّ صعيد، فالمكان لم يعُد هو المكان، ولا سيما في المنطقة الشمالية حيث دارُنا، فالبيوت البسيطة صارت عماراتٍ عالية، كانت كلُّها في الارتفاع سواء، أما اليوم فهي مختلفة الأطوال، يتألف كل منها من ثلاث طبقات أو أربع أو أكثر، والشارع البسيط لم يعد بسيطًا، بل صار شارعًا تجاريًّا من الطراز الأول، حسب وصف أهله، تملؤه المطاعم والمخابز والمحلات، وتغزوه البضائع المتنوعةُ والسيارات والعربات.

أما في المدينة فلم أقف على كبير تغيير، لو صرفنا النظر عما فعلته السنون في الشوارع والمباني والطرقات، فقد بدت قديمة مترهلة، كأنها غير مأهولة بالسكان، مع أن أعداد الناس في ازدياد كبير، فمن تركتُه فردًا عدت لأجد له عائلة من خمسة أنفار أو أكثر. رأيتُ بعض آثار الحرب الأخيرة الظالمة، بيوت سُوِّيَت بالأرض، وصارت أثرًا بعد عين، أراني أبناء الشيخ نزار، رحمه الله تعالى، بيتَهُمُ الذي أتت عليه آلة الدمار، والبيت الذي استشهد فيه أخي محمد، رحمه الله.

لكن البناء والتعمير في كل مكان، والناس أكثرهم يتكلم في البيوت والبناء والعقارات، بيع وشراء، وعرض وطلب، كثيرون حاولوا لفت نظري إلى ما وصلت إليه أسعار البيوت في الطرقات العامة في المعسكر، إذ صارت تباع بملايين الدولارات، وأحاديث في أسعار الأراضي وما آلت إليه، أحزنني انصراف الكثيرين إلى هذه الأمور المادية الصرفة، وما لذلك من انعكاسات سيئة على بِنية المجتمع، وتزهيد للناس في التحصيل العلمي، وصرفهم عن السباق نحو التفوق المدرسي والجامعي، فما ههنا تكون الأموال، قلت: ألا يستثمر المرء إلا في الأمتعة والعقارات؟ ألا يستثمر المرء في نفسه وعلمه وأولاده؟

لكن سرّني أني رأيتُ شبابًا صادقين، للعلم طالبين، وبه عاملين، نأَوا بأنفسهم عن أحاديثِ الناس الفارغة، واهتماماتهم الضيقة، وشغلتهم أحوالُ أمتهم، وما آلت إليه من ضعف وهوان، أدى إلى تكالب الناس عليها، كل يريد أن يستأثر بما عندها من خيرات، ويستحوذ على ما عندها من مقدرات، بأبخس ثمن وأقل مجهود، وتكرر السؤال مرة أخرى: أين يكمن الخلل؟ وكيف السبيل للخروج من هذه المحن؟ وما سر تقدم الغرب وتخلف العرب؟ أسئلة حائرة ينتظر أصحابها إجابات كما ينتظر العطشان الماء.

عدت إلى غزة وقد لفّها حصار شامل ظالم، لم تخفف الثورات العربية من وطأته، بل لعله اشتد في الشهور الأخيرة، حتى عاد كأول ما كان، فلا غاز ولا كهرباء، ولا بنزين ولا سولار، السيارات تصطف انتظارًا لبضعة لترات من النفط أيامًا وليالي، يبلغ طول صفها ميلًا أو أكثر، فمن أدركه الدور فهو السعيد، فقد نزلت عليه الرحمة، وحيزت له الدنيا، الناس يتهادون بالبنزين، فأغلى هدية عشرة لترات من البنزين!

تسير في الشوارع فتسمع أزيزًا يصم الآذان، ربما لأنني لم أعتد عليه، ما ذاك؟ إنه صوت مولدات الكهرباء التي باتت جزءاً أساسيًّا من حياة الناس، هي مبثوثة في كل مكان، أمام المحلات وفوق السطوح، صار لها أماكن خاصة، للبيع والإصلاح. في الطرق والبيوت والسيارات، أكثر أحاديث الناس في هذه الأمور التفصيلية: كم من الساعات تقطع الكهرباء وكم تجيء، وفي أي وقت من ليل أو نهار، كثيرون غيّروا أوقات أعمالهم، فالمناجر مضطرة لأن تفتح بعد العاشرة ليلًا، لأن هذا هو وقت مجيء الكهرباء، ليست ساعات فحسب، فمن فاتته فاته عمل يومه!

عدتُ إلى غزة بعد مكوثي في عاصمتين من عواصم الثورات العربية العظيمة، طرابلس والقاهرة، تكونت خلالها لدي صورة عمليّة عن وضع أمتنا الحزين، قلةَ حيلة، وضعفَ اقتصاد، وتفتتَ كلمة، وتشرذم بلدان، وكثرة طوائف، ورضًى بالذل والهوان، أناسٌ "يعرفون معارك النهار ولا يرَون مؤامرات الظلام"، عدت إلى غزة وقد اتشحت بوشاح من خيوط الحزن نُسج، فكل لُحمة فيه وسدًى ينطق بحزن عميق، ويعبر عن جرح غائر، أبصرته في كل شيء فيها، في أرضها وسمائها، شجرها وبنائها، في أمواج بحرها الناطقة بالحزن، لا يسمع أنينها من اعتاد المشهد، وتجرع الكأس، فأكثر الناس كأنهم في غيبوبة عما يدور من حولهم، تسوقهم عصا التفاؤل والأمل، قلتُ لا بأس، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!

هالني ما رأيت في البلدان الثلاثة من انحطاط للذوق العام، فالقمامة تملأ الشوارع والطرقات، وعلى أبواب المساجد والحوانيت، يمر عنها الناس فلا تلفت أنظارهم، وكأنها باتت جزءًا من المشهد العام، حتى صرت ترى الناس يعنونون بها: ضللنا الطريق إلى مؤسسة في طرابلس فاتصل السائق بأصحاب المكان، فقالوا له: ادخل من حيث ترى المزبلة على الناصية! سألتُ عن ذلك متألِّمًا، فقيل: إنه وضع طارئ، وإن استمر منذ بدء الثورة في المدينة، فقلت أرجو أن تكون تلك هي الحال، لكني ذكرت قول الشاعر:

فأنى التفتُّ فَحَقٌّ ســـليب * وأنَّى أصخت فرجْعُ النَّحيب
وأنى ســريتُ فدربٌ مُريب * وصدٌّ عجيبٌ، ولغمٌ رهيب
أسيرُ رهينَ صروفِ الزمـان *وأشـعرُ أني وحيدٌ غريب
أهيبُ بقوميَ للمكرُمات * وما من مُلَبٍّ، وما من مجيب
قد اتسـع الخرقُ والراتقون * نيامٌ، ويقظانُهم حائرُ
وذو الرأي فيهم بطيءُ الخطى * بليدُ الـمدى عزمُهُ خائرُ
وذو العـــزم جُنَّ أنانيةً * وأفسدهُ المسـلكُ الجائرُ
قد اتســع الخرقُ والرتق أعيا * وطوقنا الخطـر السائرُ

إني لا أعلم كتابًا أشاد بالجمال كالقرآن الكريم، فقد جعله أساسًا للخلق ومعيارًا، فالله جميل يحب الجمال، وقد خلق كل شيء بقدر، وجعل في الأرض من كل شيء موزونا، وللناس في الحيوانات تحملُ أثقالهم جمالًا حين يريحون وحين يسرحون، ولم يكتف بذلك، بل تجاوز المحسوسات إلى المعقولات، فالصبر يكون جميلًا، والهجرُ، بل كتب الإحسان على كل شيء، حتى القتل وذبح الأنعام.

ولا أعلم دينًا اهتم بالطهارة والنظافة كالإسلام، فكتب فقهه جعلت باب الطهارة أول أبوابها، لكنك لا ترى الجمال العام يُحتقر كما يحتقر في بلادنا العربية، قد يحرص بعض الناس على الذوق الخاص، فيحسنون بناء بيوتهم، ويختارون لها أجمل حجر، وأحسن تصميم، ويبالغون في تزيين الجدران بالطلاء، وملء السقوف بالأضواء، لكنهم لا يلتفتون إلى الشارع أمام هذه البيوت، تعمره الرمال السوداء، وتغزوه القمامة من كل جانب، بل قد تطفح فيه مياه المجاري والقاذورات.

انفصام بين النظرية والتطبيق، وعجز عن تنزيل المبادئ السامية على أرض الواقع، في النظافة، والنظام، والحريات العامة، ونبذ الاستبداد، وإعمال العقل. أرسل إلي صديق أكاديمي "حِكمًا أعجبته" فكانت الأخيرة منها: "إذا أردت أن تعيش سعيدًا فلا تُحَلِّلْ كل شيء، ولا تفسر كل شيء، ولا تدقق في كل شيء، فإن الذين حللوا الألماس وجدوه فحمًا." قلتُ: عجيب! أي حكمة في الدعوة إلى تعطيل آلة التفكير، والنظر إلى الأمور كما تنظر إليها العجماوات؟ كيف قضينا على إعمال العقل بشعارات زائفة: لا تدققْ، ولا تحللْ، ولا تفسر، ولْيكن إيمانك كإيمان العجائز، اتبع ولا تبتدع، واسمع وأطع! كم أسيء فهم بعض هذا الكلام حتى قُضي على النظر والاجتهاد، وأُلغيت معاني التفكر والتأمل والتدبر، توسعنا في الاتباع وضيقنا في الابتداع، وأخذنا من إيمان العجائز سطحيته وتركنا وثوقيته.

إن تفكّر ساعة، يا صاحِ، خير من عبادة سنة، كما جاء في الأثر المرسَل، وما أعجز الإنسان لو لم يفكر ويتأمل! وما الذي جعل الفيلسوف فيلسوفًا إلا أنه تأمل في كل شيء، وحلل وعلل، ونظر وفسّر، فإن اعترضه غموض وعرته حيرة كانت من دواعي لذته، وصدق أحمد أمين، رحمه الله، إذ رأى أن حياة العلماء كانت تكون تافهة لولا هذا الغموض والإلغاز، لأن موقف العالِم من ألغاز العالَم موقف الماهر في الشطرنج، ألذ ألعابه أصعبها حلًّا، وكالرياضي الحاذق لا يستلذ المسائل السهلة والنظريات البسيطة، إنما يستلذ أصعب التمارين وأشدها تعقدًا، وهو في هذا ينسى نفسه وينسى كل شيء حوله، ولا يعدل بلذته في حل الصعاب أية لذة أخرى.