مفهوم الاستمرار عند الإمام البنا 4

مفهوم الاستمرار عند الإمام البنا

الحلقة الرابعة

جمال سعد حسن ماضي

[email protected]

ماذا بعد البذل بركنيه : التضحية والطاعة ؟ إلا الاستمرار ! فما مفهوم الاستمرار ؟ وما مظاهر التحقق به ؟ يقول الأستاذ مصطفي الطحان : ( من السهل أن يتحمس رجل لدعوته، ويعمل على نجاحها، ويجاهد في سبيلها لمدة محدودة من الزمن، حتى إذا رأى الدرب طويلا، والعقبات كؤودا، والتكاليف مرهقة، انقلب على عقبيه، وتساقط على جانبي الطريق..

أما دعوة الله فلا تحيا وتثبت ، ولا تنتشر وتزدهر، إلا بصنف آخر من الرجال : رجال مخلصين عاملين يجاهدون ويضحون، ويظلون على ذلك، ويثبتون أمام المحن والابتلاءات، والإغراءات والتهديدات، ويصبرون على المشقات ويغالبون العقبات... كل ذلك بلا كلل ولا ملل، ولا انقطاع ولا فتور ، يقول تعالى : ( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) إبراهيم- 27 .

ولذلك فالاستمرار لا يتحقق إلا بركنى : الثبات والتجرد ، ومن هنا نفهم حكمة الترتيب التي أوردها الإمام ، عند وضع الأركان العشرة :

أولاً : ركن الثبات

يقول الإمام البنا : ( وأريد بالثبات : أن يظل الأخ عاملاً مجاهدًا في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام ، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين ، فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية ، ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب:23)، والوقت عندنا جزء من العلاج ، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات ، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة.

وذلك أن كل وسيلة من وسائلنا الست تحتاج إلى حسن الإعداد وتحين الفرص ودقة الإنفاذ ، وكل ذلك مرهون بوقته ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ﴾ (الاسراء :51 (  . 

فالأخ الثابت عند الإمام هو :

1 – العامل المجاهد في سبيل غايته

2 – لا يهمه بعد المدة ونطاول السنوات والأعوام

3 – يستمر على ذلك حتي يلقي الله

4 – إما الغاية وإما الشهادة في النهاية

ثم بين طبيعة عقبات الطريق الثلاثة :

1 – طويلة المدي

2 – بعيدة المراحل

3 – كثيرة العقبات

وبين الحل في التعامل مع العقبات بهذه القاعدة :

( والوقت جزء من العلاج ) وقد شرحها بقوله :

-  معرفة موطن الداء.

-  والصبر على آلام العلاج.

-  والنطاسي الذي يتولى ذلك حتى يحقق الله على يديه الغاية ويتمم الشفاء والظفر.

وأن التعامل مع وسائلنا الست يحتاج إلى :

1 – حسن الإعداد

2 – تحين الفرص

3 – دقة الإنفاذ 

وقد عدد الإمام مظاهر العقبات حتى يستمر الثبات بالإخوان فقال :

•   سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم.

•   وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله.

•   وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان.

•   وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء.

•   وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم.

•   وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم.

•   وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان.

•   وسيثير الجميع  حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات.

•   وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة ، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة ، معتمدين على قوتهم وسلطانهم ومعتدين بأموالهم ونفوذهم ، ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) التوبة- 32.

•   وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان ، فتسجنون وتعتقلون ، وتنقلون وتشردون ، وتصادر مصالحكم ، وتعطل أعمالكم ، وتفتش بيوتكم ، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان ، ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) العنكبوت- 2.

ثانياً : ركن التجرد

يقول الإمام : ( أريد بالتجرد : أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص؛ لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة:138)، ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ الممتحنة:4

والناس عند الأخ الصادق واحد من ستة أصناف: مسلم مجاهد، أو مسلم قاعد، أو مسلم آثم، أو ذمي معاهد، أو محايد، أو محارب، ولكل حكمه في ميزان الإسلام، وفي حدود هذه الأقسام توزن الأشخاص والهيئات، ويكون الولاء أو العداء.

فمن علامات التجرد التي يقيس الأخ بها تحققه بالاستمرار على دعوته ، أن يتخلص لفكرته ، وأن يزن الناس بميزان الدعوة لا بميزان المنفعة أو القرابة أو المصلحة .

وبهذا التحقق بمفهوم الاستمرار يقترب الأخ الصادق من المفهوم الخامس ، الذي نطلق عليه الحماية الدعوية ، بركن الأخوة العاصم من الزلل ، وركن الثقة العاصم من الفشل .