دروس وعبر من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام 12، 13

دروس وعبر

من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام

د. أبو بكر الشامي

وفاة الخليفة أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه (12)

بعد أن فرغ خالد رضي الله عنه من مطاردة فلول الروم في أجنادين ، أمر قواته بالتحرّك شمالاً إلى دمشق لمحاصرتها مرّة أخرى ، وسلك في مسيره الطريق الشرقية الخارجية ليبتعد عن الحاميات الرومية في الداخل ، وترك شرحبيل بن حسنة بأسفل الشام ، في منطقة الأردن ، ليحمي مؤخرة المسلمين ، ويمنع أي تعرّض لهم من خلفهم .

نزل خالد بجيشه الذي قدم معه من العراق شرق دمشق قبالة دير للنصارى ، الذي صار يُعرف فيما بعد بدير خالد ، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية ، ونزل يزيد بن أبي سفيان على جانب آخر من دمشق ، ونزل عمرو بن العاص على بعض أبوابها وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم ، وهم يرجون فتحها...

وبينما هم على ذلك ، إذ جاءت الأخبار إلى خالد ، وكانت عيون مخابراته لا تغفل ، بأن الروم قد حشدوا له جيشاً في مرج الصُّفَّر إلى الجنوب من دمشق بحوالي أربعين كيلومتراً ، وكان ذلك في السابع عشر من جمادى الآخرة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، فتحرّك إليهم خالدٌ على تعبئة كاملة ...

يقول الرواة عن خالد رضي الله عنه : ( وكان من أبصر الناس بالحرب ، مع وقار وسكينة وشفقة على المسلمين ، وحسن النظر لهم ، والتدبير لأمورهم ).

وانقضّ عليهم خالد بجيشه ، وأعملوا فيهم السيوف ، وكثر القتل في الروم ، وكانوا على شاطيء نهر عليه طاحونة ، حتى جرت الدماء في ماء النهر ، وطحنت بها الطاحونة (البلاذري 141 ).

وبعد أن هُزم جيش الروم شرّ هزيمة ، عاد خالد والمسلمون لمحاصرة دمشق والتضييق عليها ، ونزل كل جيش في مكانه السابق ...

وبينما هم على ذلك إذ قدم يرفأ مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكتاب من المدينة المنوّرة ، ودفعه إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، ولم يعطه لخالد رضي الله عنهم جميعاً ، كان ذلك في السادس من رجب ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ...

كان يرفأ يحمل رسالة من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما ، يعلمه فيها بوفاة أبي بكر الصدّيق ، وتولية عمر الخلافة ، وعزل خالد بن الوليد ، وتولية أبي عبيدة لقيادة جيوش الشام .

ولكن أبا عبيدة لم يشأ أن يخبر خالد رضي الله عنهما بهذا الأمر لما كان يكنّه له من حبّ واحترام ، ولما في هذا الخبر من حرج عظيم لأبي عبيدة ، وسيف خالد يقطر من دماء الروم ، وهو يقود المسلمين من نصر إلى نصر ، وخرج يرفأ من المعسكر راجعاً إلى المدينة ، وأبو عبيدة ما زال يتحرج في إخبار خالد رضي الله عنهما .

ولكنه الفاروق عمر ، الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم ، والذي كان يرى في سيف خالد رَهَقاً ، ولطالما ألحّ على أبي بكر بعزله ، ولكن أبا بكر رضوان الله عليه ، كان يأبى عليه ذلك ، ويقول لعمر : ( يا عمر ، ما كنت لأغمد سيفاً سلّه الله على الكفار)

فكتب عمر إلى أبي عبيدة ثانية : ( من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى أبي عبيدة  عامر بن الجرّاح ، سلام عليك .

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأصلّ وأسلّم على نبيّه محمد ، وبعد ...

فقد ولّيتك أمور المسلمين فلا تستحي ، فإن الله لا يستحي من الحق ، وإني أوصيك بتقوى الله الذي أخرجك من الكفر إلى الإيمان ، ومن الضلال إلى الهدى ، وقد استعملتك على جند خالد ، فاقبض جنده ، واعزله عن امارته ).

ولكن أمراً كهذا لم يكن ليبقى مكتوماً إلى الأبد ، فلقد كانت رسل عمر بن الخطاب تغدو وتروح على أبي عبيدة ، وأبو عبيدة كاتم للأمر ، محرج من إبلاغه ، حتى علم خالد بالأمر عن غير طريق أبي عبيدة ، فأقبل حتى دخل عليه ، فقال :

( يغفر الله لك يا أبا عبيدة ، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية ، فلم تعلمني ، وأنت تصلّي خلفي ، والسلطان سلطانُك .!؟)

فأجابه أبو عبيدة : ( وأنت يغفر الله لك يا أبا سليمان ، والله ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من غيري ، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كلّه ، ثم قد كنت أعلمُك إن شاء الله .

وما سلطان الدنيا أريد ، وما للدنيا أعمل ، وإنّ ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن إخوان وقوّام بأمر الله عز وجل ، وما يضرُّ الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه ، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة ، وأوقعهما في الخطيئة ، لما يعرض من الهلكة ، إلا من عصم الله عز وجل ، وقليل ما هم )

ثم دفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد ، كان ذلك في السادس والعشرين من رجب ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، أي أن أبا عبيدة كان قد أخفى إمارته ، وعزل خالد ، لأكثر من شهر ، وهو يصلّي خلفَه ، والولايةُ ولايتُه ( تُوفي أبو بكر رضي الله عنه في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة )...

فلما قرأ خالد الكتاب قال : ( الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت ، وكان أحبّ إليّ من عمر ، والحمد لله الذي ولّى عمر ، وكان أبغض إليّ من أبي بكر ، ثم ألزمني حبّه )

سجّل يا تاريخ البشرية ... واحفظي يا ذاكرة الإنسانية ...!!!

سجّلوا هذا الألق ، وهذا الطهر ، وهذا السموّ ، وهذا الإعجاز ، الذي يعزّ على البشرية مجرّد تصوّره وتخيّله ، لولا أنه قد حدث فعلاً في واقع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، في يوم من الأيام ...!!!

أيها العرب ... يا شباب سورية الثائر ... أيها المجاهدون الأبرار في الشام ...

هذا هو تاريخكم ، وهذا هو  ألق أجدادكم ...

تاريخ يشرّف السوريين ، وسيرة ترفع رأس العرب ، وألقٌ يبيّض وجوه المسلمين.

فهل نقتدي بهم ، ونسير على نهجهم ، ونجاهد جهادهم ...!؟

(( وقل اعملوا ، فسيرى اللهُ عملكم ورسولُه والمؤمنون )) صدق الله العظيم

-- ------------------

معركة فحل بيسان ( 13)

وبينما كان المسلمون يحاصرون دمشق ، جمع الروم قوّة جديدة في الجنوب ( في منطقة بيسان ) لضرب شرحبيل بن حسنة ، وقطع الإمدادات عن المسلمين من جزيرتهم العربية ، كما حرّك هرقل قوة أخرى من انطاكية إلى بعلبك لدعم حامية دمشق المحاصرة ، فاستشار أبو عبيدة خالداً رضي الله عنهما ، وكعادته فقد كان خالد خصب الذهن العسكري ، حاضر البديهة ، فأشار على أبي عبيدة بأن يرسل عمرو بن العاص وجيشه لدعم شرحبيل ، ويتحرك هو لسحق القوة الرومية المتجمعة في بعلبك قبل أن تلتقط أنفاسها ، فأُعجب أبو عبيدة لرأيه ، وقال : ( نعم ما رأيت يا أبا سليمان  ).!

وفعلاً تحرك عمرو إلى الجنوب لدعم شرحبيل المهدد ، وتحرك خالد إلى الشمال الغربي لسحق القوة الرومية في بعلبك (على مسافة 80 كم من دمشق ) ، ولكنه فوجيء بتحرّكها إلى الجنوب عن طريق البقاع ، بين سلسلتي جبال لبنان الوعرة ، بعيداً عن أين خالد ، فقفل خالد راجعاً إلى أبي عبيدة ، وأخبره بالخبر ، ثم استأذنه بالتوجه فوراً على رأس قوة من الفرسان السريعة ليلحق بجيشي عمرو وشرحبيل قبل أن يشتبكا مع العدو ، فيشدّ ظهورهم ، ويرفع معنوياتهم ، ويعلم الروم أن مدد المسلمين قد أتوهم ، على أن يلحق به أبو عبيدة بجيشه ، ويبقى يزيد محاصراً لدمشق بجيشه ...

وتحرّك خالد بفرسانه يسابق الريح ، حتى نزل في منطقة فحل على الضفة الشرقية لنهر الأردن بين بحيرة طبريا والبحر الميت ، ثم لم يلبث أن لحق به أبو عبيدة وعمرو وشرحبيل رضي الله عنهم جميعاً ، ونزل الروم في بيسان من أرض فلسطين على الضفة الغربية من نهر الأردن  ، خلف فرع من فروعه يُقال له نهر جالود ...

كان الروم في الجانب الخصب من الأردن ، ولم يكن المسلمون في مثل ما كان فيه الروم من الخصب والكفاية ، ولذلك كان من مصلحة الروم الانتظار ليتجمع إليهم أكبر عدد من الجنود من القرى والرساتق التي تحيط بهم ، بينما كان من مصلحة المسلمين معاجلتهم فوراً ...

فبدأ المسلمون يغيرون بفرسانهم على القرى والرساتق والزروع للتحرش بالروم وقطع إمداداتهم ، ففجّر الروم سدود نهر جالود حتى أغرقت المياه المنطقة السهلة الفاصلة بين الجيشين ...

ثم جرت مفاوضات عقيمة بين الطرفين ، لم يثمر عنها أي شيء ...

وأصبح الصباح وقد صفّ المسلمون صفوفهم للقتال ...

ونهض أبو عبيدة بالمسلمين من فحل نحو بيسان ، ودنا منهم ، وتقدّمت قوات المسلمين تغير عليهم وتستفزّهم ، ولكنهم لم يحرّكوا ساكناً ، فعاد المسلمون في المساء إلى مواقعهم .

وفي اليوم التالي خرج إليهم خالد ومعه كتيبة من الفرسان الأشداء ، فاشتبك معهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم عادت فرسان المسلمين ، ولها الظفر ، وأما الروم فقد رأوا ما أصابهم من الوهن والهزيمة ، فانكسرت نفوسهم ، ووهنت أُصُرهُم ، وهابوا المسلمين مهابة عظيمة .

وأراد خالد أن يستثمر الهزيمة النفسية للروم ، فأشار على أبي عبيدة أن يكون الهجوم الساحق فجراً قبل أن يلتق الروم أنفاسهم ، ويضمّدوا جراحهم ، فوافقه أبو عبيدة ، وقال : ( فانهضوا على بركة غداً بالغداة )

ولما مضى من الليل ثلثاه ، قام أبو عبيدة في الثلث الأخير من الليل ، فلم يزل يعبيء المسلمين ، ويصفّ صفوفهم ، ويحمّسهم ، ويحرّضهم ، حتى أصبح ..

فلما حان الفجر ، صلى بالمسلمين ، ثم قام من فوره ، فجعل على ميمنة الجيش معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وجعل على المشاة سعيد بن زيد ، وعلى الفرسان القائد المبارك خالد بن الوليد ، وبقي هو في القلب ، رضوان الله عليهم جميعاً .

وركب أبو عبيدة ، واستعرض الصف من أوله إلى آخره ، يقف على كل راية ، وكل قبيلة ، ويقول : ( عباد الله ، استوجبوا من الله النصر بالصبر ، فإن الله مع الصابرين . عباد الله ، أنا أبشّر من قُتل منكم بالشهادة ، ومن بقي بالنصر والغنيمة، فوطنوا أنفسكم على القتال ، والطعن بالرماح ، والضرب بالسيوف ، والرمي بالنبل، ومعانقة الأقران ، فإنه والله ، ما يُدركُ ما عند الله إلا بطاعته ، والصبر في المواطن المكروهة ، والتماس رضوانه ، ولن تبلغوا ذلك إلا بالله    )

وكان من تدبير الله للمسلمين أن قائد الروم سقِلاّر بن مخراق ، كان قد قرر في نفس تلك الليلة ، أن يعبر بجنوده منطقة الأوحال التي بينه وبين جيش المسلمين ، ليبغتهم وهم نيام فيقضي عليهم بزعمه ، وفعلاً ، عبر منطقة الأوحال ، وتقدّم باتجاه نهر الأردن ، ولم يرعه إلا وجيش المسلمين يتقدّم في تعبئة تامّة ، وقد عبر نهر الأردن هو الآخر ، وصار أمام جيش الروم وجهاً لوجه ، كان ذلك في الثامن والعشرين من ذي القعدة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة ...

نظر خالد فإذا بصفوف العجم لا يُرى أولها من آخرها ، وقد قدّموا الفرسان ، وجعلوا جندياً على يمين كل فارس وشماله ...

وكعادته في الحرب فهو يبحث دوماً عن ثغرة ينفذ منها إلى أعدائه ، فهداه فكره العسكري الملهم ، إلى أن تدعيم فرسان الروم بمشاتهم ورماتهم قوّة لهم ، وأن أجنابهم من المشاة المجرّدة من الفرسان هي نقاط ضعفهم ، فقسّم فرسانه إلى ثلاث مجموعات ، جعل على الأولى فارس العرب ، قيس بن هبيرة المرادي ، وأمره أن ينقضّ على ميسرة الروم ، وقاد الثانية بنفسه لينقضّ بها على ميمنتهم ، وجعل على الثالثة ، البطل ميسرة بن مسروق العبسي ، وقال له : ( صفّف مقابل صفّهم في خيلك ، فإذا رأيتنا قد حملنا ، وقد انتقض صفّهم ، فاحمل على من يليك منهم )

ثم خرج خالد بميسرة فرسانه حتى انتهى إلى ميمنتهم ، فلما علاها ، وخاف الروم أن يلتفّ من ورائهم ، بعثوا إليه فرساناً لتشغله عن ذلك ، وكذلك فعل قيس بن هبيرة ، ففعلوا معه مثل ما فعلوا مع خالد ...

وكان ذلك ما أراد خالد ، أن يستدرج فرسانهم بعيداً عن مشاتهم ، ليفقدهم عنصر التعاون بينهما ، وتركهم يتقدمون إليه ، حتى إذا دنوا منه ، نادى : ( الله أكبر ، أخرجهم الله لكم من رجّالتهم ، شدّوا عليهم أيها المسلمون ).

فشدّ عليهم ، وشدّ معه أصحابه ، ووضعوا السيوف والرماح فيهم حيث شاؤوا ، وصرعوا منهم خلقاً كثيراً قبل أن ينتهوا إلى ميمنتهم ، وهكذا تمّ لخالد تصفية هذا الجناح من فرسان الروم ، وكذلك فعل قيس بن هبيرة في جناحه ...

قال الرواة : ( وحمل عليهم قيس بن هبيرة من قبل ميسرتهم ، فقصف بعضهم على بعض ، وقد تكسّرت في يده يومئذٍ ثلاثة أسياف ، وبضعة عشر رمحاً ) ...

فألف شكر لأمناء التاريخ الذين نقلوا إلينا هذا التراث الباهر ...!!!

وضغط المسلمون على الروم يقصفونهم ذات اليمين وذات الشمال ، ثم قتلوا قائدهم وخيرة أبطالهم ، وأظلم عليهم الليل وهم على ذلك ، ثم انهزموا شرّ هزيمة ، حتى غاصوا في الأوحال التي صنعوها للمسلمين ، وتبعهم المسلمون يصطادونهم بالرماح كأفراخ البط ، ولم يفلت منهم في هذه الملحمة إلا الشريد ...!!!

هذا هو تاريخكم يا أبناء الشام النجباء ، وهؤلاء هم أجدادكم ...

بطولة ، ورجولة ، وشجاعة ، وتضحية ، وجهاد ، وصبر ، ومصابرة ، وانتصارات مشرّفة ... فهل نقتدي بهم ، ونسير على نهجهم ، ونقتفي أثرهم ، ونجاهد جهادهم ، ونصبر صبرهم ، ونضحّي تضحياتهم ، حتى النصر أو الشهادة ...

هذا هو أملنا بعد الله ، بكم ، وبثورتكم المباركة ...

(( يا أيها الذين آمنوا ، اصبروا ، وصابروا ، ورابطوا ، واتقوا الله لعلّكم تفلحون )) صدق الله العظيم.