العسكر وحكم التاريخ

حسام مقلد *

[email protected]

من يتحكم في سلاح البلطجية في مصر الآن؟ من يقف وراء الانفلات الأمني الذي أصبح ظاهرة لا تخطئها عين؟ ومن يفتعل أزمات: السولار، واسطوانات (أنابيب) الغاز، والخبز... إلخ؟ من يثير  الفتن السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بر مصر؟! من يترك أموال الصناديق الخاصة التي تبلغ مئات المليارات عرضة للنهب والسرقة، ويرفض ضمها للميزانية العامة للدولة؟ من يترك أشخاصا قلائل يعبثون بأمن مصر، ويتحكمون في اقتصادها، ويخنقون السوق بأزمات مفتعلة؟ هل المجلس العسكري الحاكم في مصر حاليا يقف بالفعل مع ثورة 25يناير المجيدة؟ هل يؤمن بكل أهدافها إيمانا حقيقيا ويسعى جادا لتحقيقها، أم أنه اكتفى بزوال مبارك وسقوط مشروع التوريث ويسعى حاليا لإعادة إنتاج النظام السابق بوجوه جديدة، وإن فشل فلا أقل من أن يضع العبوات الناسفة والألغام شديدة الانفجار في طريق أي نظام جديد يختاره الشعب لاسيما لو كان نظاماً إسلامياً؟!!

 مؤسف بل مؤلم للغاية أن تتكرر هذه التساؤلات بعد مرور أكثر من عام على سقوط نظام مبارك، والحقيقة أن كل من يراقب أوضاع مصر الأمنية والاقتصادية والسياسية ويشاهد هذه الأزمات المفتعلة (سواء بفعل فاعل مجهول كالطرف الثالث أو اللهو الخفي مثلا، أو بفعل حكومة الجنزوري برضا وتواطؤ من المجلس العسكري...) ـ يقفز في ذهنه تلقائيا سيناريو أزمة مارس عام 1954م حين أجهض العسكر مشروع الحلم المدني المصري الذي كان الشعب يؤمن به ويلتف حول اللواء محمد نجيب لتحقيقه!!

لكن الشطر الأكبر من الضباط الأحرار ومجلس قيادة ثورة يوليو طمعوا في السلطة وانتزعوها من محمد نجيب انتزاعا، ودبروا العديد من حوادث الانفلات الأمني، وهيَّجوا المظاهرات والاحتجاجات العُمَّالية التي أضرت باقتصاد البلد وانعكست سلبيا في حياة الناس، ووصلت المؤامرة ذروتها عندما اشترت مجموعة الضباط المؤيدين لعبد الناصر شخصا يدعى (الصاوي أحمد الصاوي)  كان آنذاك رئيس اتحاد عمال النقل، وقدموا له رشوة مالية كبيرة ليثير العمال ويدفعهم إلي القيام بإضراب عام واسع لشل الحياة وحركة المواصلات في مصر، وشارك في هذه المؤامرة الخبيثة عدد كبير من النقابات العمالية، وخرج المتظاهرون حينئذ يهتفون "تسقط الديمقراطية، تسقط الحرية" وقد اعترف (الصاوي) بعد ذلك بأنه حصل علي مبلغ أربعة آلاف جنية مقابل تدبير تلك المظاهرات الحاشدة المنادية بسقوط الديمقراطية!!

وحينما تأججت الأوضاع وتفاقمت الأزمات انقض العسكر على السلطة انقضاضاً شرساً واعتقلوا اللواء محمد نجيب بشكل بائس يفتقر لأية أخلاقيات عسكرية، ورغم شعبيته الكبيرة بين صفوف الشعب المصري، وداخل الجيش نفسه إلا أنه رفض أن يحدث أي انشقاق في الجيش، وتَنْجَرَّ مصر لحرب أهلية بسببه!!

وفي 26 أكتوبر عام 1954م وقعت حادثة المنشية بالإسكندرية التي اتهم فيها (الإخوان المسلمين) بمحاولة اغتيال عبد الناصر والتخلص منه، وتقول أدبيات الإخوان إن هذه المسرحية كانت مدبرة، بل يذهب بعض الباحثين إلى أن عددا من الدبلوماسيين الغربيين هم من خطط لهذه المسرحية ونصح بها عبد الناصر وأقنعوه بتنفيذها؛ ليتخلصَ من الإخوان وتخلُوَ له الساحة تماماً، وهذا ما وقع بالفعل إذ بعد هذه الحادثة تم القبض علي قيادات جماعة الإخوان المسلمين وزُجَّ بهم جميعا في السجن.

لم تكن تلك الأزمة مجرد صراع علي السلطة بين مجموعة من الأفراد بل كانت أخطر من ذلك وأعمق بكثير، إذ كانت صراعاً بين أيديولوجيتين متضادتين أو مشروعين مختلفين: الأول يؤمن بالديمقراطية والحياة النيابية السليمة ومدنية الدولة المصرية، والآخر يؤمن بسياسة الحكم الفردي المتسلط، وللأسف الشديد هُزِم التيار المنادي بالديمقراطية في هذه المعركة بهزيمة اللواء محمد نجيب، وربح أعضاء مجلس قيادة الثورة المؤيدون للتسلط والديكتاتورية!!

وعلى الفور قاموا بإلغاء الأحزاب وفرض الرقابة علي الصحف، كما فرضوا الوصاية على الشعب المصري كله ستة عقود كاملة، وخلال العقود الثلاثة الأخيرة منها تقزمت مصر كثيراً، وفقدت الكثير من دورها وتآكلت قوتها الناعمة، وعاش الشعب المصري خانعا ذليلا وتابعا للسادة الأقوياء في الشرق أو في الغرب، ومؤخراً صار القرار المصري تابعا لدول النفط الثرية التي تسيطر وتتحكم بنفوذ أموالها!!

إن أي مراقب لأوضاع مصر وسير الأحداث فيها وتفاعلاتها المختلفة طوال السنة الماضية لا يخامره أدنى شك في أننا بصدد سيناريو مشابه ـ وربما مطابق ـ لما حدث عام 1954م،  ويزداد الشعب المصري قناعة يوما بعد يوم بأن المجلس العسكري لا يؤمن مطلقاً بالديمقراطية الكاملة كمنهج حياة وعقيدة سياسية حاكمة في مصر، ومن ثم لم يسعَ بجدية لتفكيك بنية نظام مبارك السياسية والاقتصادية، ولم يتحرك للقضاء على شبكات المصالح المعقدة التي أنشأها هذا النظام الفاسد، والتي ساعدت في انتشار الفساد واستشرائه في كافة أوصال المجتمع المصري، بل حافظ على كل شيء كما هو اللهم إلا استبدال بعض الوجوه بوجوه أخرى لكنها تحمل نفس الفكر وتعتنق نفس الأيديولوجية!! ولا أدل على ذلك من الإصرار على حكومة الجنزوري التي ثبت بالأدلة القاطعة أنها وراء الأزمات الأخيرة المفتعلة سواء بالفعل المباشر أو بالسكوت على الفاعل أو التواطؤ معه!! وهذا الكلام ليس من عندي بل هو اتهام رسمي محدد وجهه مجلس الشعب المصري لحكومة الجنزوري بشكل قاطع ومباشر وبكل وضوح!!

إن كل الحقائق على أرض الواقع تؤكد بوضوح شديد أن الشعب المصري وقع ضحية لخديعة كبرى من المجلس العسكري ورجال النظام السابق، حيث تم إيهامه بأنه نجح في إسقاط نظام مبارك الفاسد، في حين أن الحقيقة المرة تتضح كل يوم مؤكدةً أن كل ما حدث هو قطع رأس النظام فقط وأبرز من حوله من زمرة الفاسدين المفسدين الذين تبنوا مشروع التوريث، لكن عقيدة المجلس العسكري السياسية التي تحكم مصر منذ ستين سنة لا تزال كما هي...!!

وكل ما حاول المجلس العسكري تحقيقه طوال العام الماضي هو القضاء على الروح الثورية لدى الجماهير، وشن حملات التضليل الإعلامي عليهم عبر مختلف الفضائيات المصرية  الرسمية والخاصة، وذلك من خلال ترويعهم وبث الفزع والرعب في صدورهم: تارة بالفتن الطائفية، وأخرى بزعم قرب الانهيار الاقتصادي وإشهار مصر إفلاسها، وثالثة بإشاعة الفوضى والانفلات الأمني، وامتناع قوات الشرطة عمداً عن أداء واجباتها في حفظ الأمن، لكن أيا كانت رؤية المجلس العسكري لثورتنا المباركة فعقارب الساعة لن تعود أبدا إلى الوراء، وبإذن الله تعالى سينجح المصريون في انتزاع حريتهم وكرامتهم وفرض إرادتهم على الجميع...

ومهما تكن خفايا الأمور التي لا نعلمها، فالمؤكد أن الشعب المصري قد وعى الدرس جيدا، ولا يمكن أن يلدغ من نفس الجحر مرتين، وينبغي للمجلس العسكري أن يراجع نفسه سريعا، ومهما كانت الضغوط الأمريكية والخليجية عليه فيجب أن يدرك حقيقة المواقف الراهنة في المنطقة، ويقيِّم أبعادها السياسية والاستراتيجية والحضارية وتأثيراتها المستقبلية على الأمن القومي المصري والعربي على المدى البعيد...!!

نأمل جميعا أن يستمع العسكر لصوت العقل هذه المرة، وأن يتنبهوا جيدا لكل هذه الأبعاد، وينهوا حالة القطيعة بينهم وبين أشواق الشعب المصري للحرية والكرامة، وألا يقفوا في طريقه مجددا ويمنعوه من بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحتضن الجميع وتوفر لهم الحياة الحرة الكريمة الآمنة، فهل يفعلون ذلك أم يرضون بأن يحكم التاريخ عليهم بأنهم كانوا السبب في تقزم مصر، وتخلفها عن ركب الرقي والتحضر، وانكسارها مرتين...؟!!

               

    * كاتب إسلامي مصري