الأب قتل الآباء والابن يقتل الأبناء

ياسر الزعاترة

في مثل هذه الأيام قبل ثلاثين عاما بالتمام والكمال كان جيش حافظ الأسد بجنوده وطائراته ودباباته يحاصر مدينة حماة، ويمعن فيها قتلا وتدميرا، ربما على نحو لم تعرفه دولة خلال العقود الأخيرة.

حدث ذلك وسط تواطؤ دولي يعكس لعبة المحاصصة الدولية السائدة يومئذ بين الاتحاد السوفييتي وبين الولايات المتحدة والغرب، فيما يعكس أيضا بؤس الواقع العربي لجهة ضآلة الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان.

خلال أسبوعين كان النظام يستبيح مدينة أم الفداء، بمساجدها وكنائسها وآثارها التاريخية، والأهم بسكانها الذين لم توفر منهم آلة القتل لا نساءً ولا أطفالا ولا شيوخا، فضلا عن الشباب، بينما اقتيد كثيرون منهم بعد ذلك إلى مسالخ الموت والتعذيب في السجون السورية.

لم تكن مجزرة المدينة نتاج نزاع مسلح بين الإخوان المسلمين وبين النظام الأسدي كما يمكن أن يذهب أنصاره وشبيحته في وسائل الإعلام وميادين السياسة، فقد انجلى مشهد المدينة منذ الأيام الأولى للحصار عن تفوق كامل لجيش النظام ونهاية عملية للتمرد، مع أن تمردا مسلحا لا يمكن أن ينجح في مدينة واحدة (ليست هي الرئيسة) في مواجهة نظام أمني دموي.

كان بوسع النظام أن ينهي التمرد خلال وقت محدود من دون أن يقتل حتى العناصر المشاركة فيه لو أراد ذلك، فضلا عن أن يستبيح المدينة ويقتل عشرات الآلاف من أهلها (يتراوح الرقم بين 20 و40 ألفا). كان بوسعه أن يفعل ذلك بكل سهولة، لكنه أصرَّ على معاقبة المدينة بالكامل، ليس فقط عبر استباحتها أثناء مقاومة المسلحين، بل وهو الأهم عبر تنفيذه لعدد من المجازر الجماعية بعد نهاية التمرد، فضلا عن استباحة البيوت وقتل الناس بدم بارد وسرقة ما بحوزتهم من أشياء ثمينة، ولو كان خاتما في أصبع لا بأس من قطعه للحصول على الغنيمة.

من أراد أن يتابع فصول المجزرة الموغلة في البشاعة، فبوسعه العودة إلى منتديات الإنترنت كي يدرك طبيعة الإجرام الكامنة في بنية هذا النظام الطائفي المقيت، لكن ما يعنينا هنا هو قراءة المشهد الحالي في ضوء المجزرة القديمة.

واقع الحال أن استباحة المدينة لم تكن سوى جزء من نهج نظام يمكن تلخيصه بسياسة العقوبات الجماعية التي طبقها الطغاة في أماكن شتى في هذا العالم، من بينهم العدو الإسرائيلي في بعض المحطات، وليس في جميعها حتى نكون منصفين.

اليوم يستخدم النظام ذات السياسة في مواجهة الثورة الشعبية، فهو لا يقوم باستهداف المسيرات فقط، أو حتى المجموعات المسلحة، وإنما يلجأ إلى عقوبات جماعية تصيب المدن بالكامل، وما جرى ويجري لحمص أكبر شاهد على ذلك، وكذلك ما سبق أن جرى لمدينة حماة ذاتها التي أخرجت أكبر المظاهرات في الثورة، ومن بعدها عدد من المدن الأخرى.

من يتابع فصول ما يجري في الساحة السورية يلاحظ من دون شك سياسة العقوبات الجماعية؛ من إطلاق للرصاص وقصف عشوائي للأحياء، وقطع للماء والكهرباء. إنه نظام يدرك أن الثورة لا تستمر من دون حاضنة شعبية، ولذلك ينبغي ضرب تلك الحاضنة من خلال استهداف المدن والأحياء التي توفرها، وأخذ الطائع بذنب العاصي كما في المثل الذي يستخدمه الطغاة في كل زمان.

لكن الثورة السورية اليوم ليست نزاعا مسلحا بين مجموعة إسلامية وبين النظام كما كان الحال مطلع الثمانينيات، بل هي ثورة شعبية شاملة تأتي جزءًا من ربيع عربي، وفي ظل ثورة إعلامية لا تمنح النظام فرصة ارتكاب المجازر على شاكلة المجزرة التي نتحدث عنها.

اليوم ثمة شعب ينتفض بغالبيته ضد النظام، وليس جزءًا بسيطا منه. 

والمدن والمناطق التي تعيش بعض الهدوء ليست راضية، بقدر ما تعيش الرعب بسبب الانتشار الأمني الكثيف، وربما بسبب حضور جيد لبعض الفئات المستفيدة من النظام، أو الفئة التي ينتمي إليها، إلى جانب بعض الأقليات الخائفة من التغيير، وتجد مصلحتها في بقاء الوضع القائم.

بالأمس كان السوريون يحيون ذكرى مذبحة حماة تحت عنوان “عذرا حماة سامحينا”، بينما كان الشهداء (شهداء المجزرة) يشهرون دمهم من جديد في وجه الطاغية (ابن الطاغية الذي أطلق العنان للرصاص والقنابل والصواريخ التي استباحت مدينتهم).

وهم باستعادتهم لذكرى المجزرة كانوا يقولون إن سياسة العقوبات الجماعية واستباحة المدن لن تجدي نفعا، فقد عرف الشعب طريقه وخرج يطلب الحرية، ولن يعود قبل أن ينالها مهما كانت التضحيات.

لا داعي للاعتذار أيها الأبطال.. حماة سامحتكم وشهداؤها يباركون خطوكم نحو الحرية والكرامة.