عمر بن الخطاب لم يئد بنته في الجاهلية

وقفة مع التاريخ الصحيح

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

كثيرا ما يُظلم التاريخ كثيرا ، فيحمَّل من الخرافات والأساطير والأكاذيب ما يرفضها كل ذي عقل وشعور . ومن ذلك الحكاية التي تروى عن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ من أنه وأد بنتا له في الجاهلية.

أقول إن هذه الحكاية مما ظلم به التاريخ ، ومناقشتها أن تبين عن كذبها للأسباب الآتية :

1- عدم ورودها في كتب السنة والحديث أو كتب الآثار والتاريخ المعتبرة .

2- إذا كان وأد البنات منتشراً في بني عديّ ــ قبيلة عمر ــ ، فكيف ولدت حفصة بنت عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنهما ــ له في الجاهلية قبل البعثة بخمس سنوات ولم يئدها ؟ ، بل كان يُكنى بها ، فيقال له وعنه " أبو حفص عمر" .

3- ويروي النعمان بن بشيرــ رضي الله عنه ــ يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : وسئل عن قوله : ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) التكوير 8 ، قال : جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ وقال : ( إني وأدت ثماني بنات لي في الجاهلية . قال : أعتق عن كل واحدة منها رقبة . قلت : إني صاحب إبل . قال : ( أهد إن شئت عن كل واحدة منهن بَدَنة ( ناقة ) . وهذا الحديث يشير إلى كفارة من وقع منه الوأد في الجاهلية ، ولما لم يذكر عمر بن الخطاب عن نفسه ذلك ، وإنما رواه من فعل قيس بن عاصم ، دل على عدم وقوع الوأد المنسوب إليه.

**********

وقد أشارالعقاد في كتابه " عبقرية عمر" إلى حكاية الوأدهذه ،

وخلاصتها : أن عمر كان جالساً مع بعض أصحابه ، إذ ضحك قليلاً ، ثم بكى ، فسأله مَن حضر ، فقال : كنا في الجاهلية نصنع صنماً من العجوة ، فنعبده ، ثم نأكله ، وهذا سبب ضحكي . أما بكائي ، فلأنه كانت لي ابنة ، فأردت وأدها ، فأخذتها معي ، وحفرت لها حفرة ، فصارت تنفض التراب عن لحيتي ، فدفنتها حية .

وقد نقض العقاد هذه الحكاية ؛ لأن الوأد لم يكن عادة شائعة بين العرب ، وكذلك لم يشتهر في بني عدي ، ولا أسرة الخطاب التي عاشت منها فاطمة أخت عمر ، وحفصة كبرى بناته ، وهي التي كني أبو حفص باسمها ، وقد وُلدت حفصة قبل البعثة بخمس سنوات فلم يئدها ، فلماذا وأد الصغرى المزعومة ؟

وأنا أرى أن الذين روجوا هذه الحكاية واحدا من اثنين :

الأول : كاره لعمر ، حريص على تشويه تاريخه وسيرته بدافع عَقدِيّ فاسد .

والثاني : محب لعمر ... حريص على أن يعظم الإسلام وعمق أثره في سلوكيات عمر ، فعمر الذي يئد بنته في الجاهلية ، اتباعا لسنة جاهلية منحطة ، جعل منه الإسلام خليفة عادلا رحيما .

وكلا المذهبين غالط مرفوض .

**********

ولا أنسى الواقعة التي عشتها سنة 1981 من القرن الماضي : وقد كنت منتدبا من الحكومة المصرية إلى جامعة يل ( yale ) بمدينة نيوهافن بولاية كنكتكت بالولايات المتحدة الأمريكية . وخلاصتها : " أن إحدى المدرسات واسمها " سارة " ، وهي يهودية ، كانت تحمل ابنها الرضيع فأمسكت بكفه وقبلتها . فتعجبت من عملي هذا وصرخت ( waw ) . قلت لها : إن هذه سنة أخذناها من الخليفة عمر ــ رضي الله عنه ــ فقد كان يقبل أيدي الأطفال ويقول لهم : استغفروا لي ربكم فإنكم أطهار لم تدنسكم الذنوب .

فصاحت في هيئة صراخ : عمر ... الخليفة القاتل ؟ !!

فأخذت أحدثها عن عمر ــ رضي الله عنه ــ وعن عدله ورحمته ، وشعوره بما تعانيه الرعية من آلام أو جوع أو فقر ، حتى إنه سنة 18 هجرية ــ وهي سنة المجاعة التي تسمى ( عام الرمادة ) ــ كان له على خديه خطان أسودان من كثرة البكاء ، لشعوره بما تعانيه الرعية .

وأخذت أحدثها عن عمر حتى ظهرت الدموع في عينيها . وفي اليوم التالي أتتني تقول لي في هيئة هادئة خاشعة : مستر قميحة ، أرجوك حدثني عن عمر بن الخطاب .

هذا والمعروف أن وأد البنات لم يكن سنة شائعة في العرب جميعا ، بل كان يفعله قلة منهم . وليس فيهم بني عدي قوم عمر .

بل كان من العرب من يفدي الموء ودة ، وينقذها من الموت وأشهر هؤلاء : صَعْصَعَة بْن نَاجِيَة التَّمِيمِيّ َ جَدّ الْفَرَزْدَق ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعْمِد إِلَى مَنْ يُرِيد أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَيَفْدِي الْوَلَد مِنْهُ بِمَالٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ , وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْفَرَزْدَق بِقَوْلِهِ :

 وَجَدِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ          وَأَحْيَا الْوَئِيد فَلَمْ يُوأَدِ

**********

وقد يقال إذا كان الوأد حالة أو حالات فردية ، غير شائعة فلماذا اهتم بها القرآن ؟

وأقول : إن هذا من بلاغة القرآن وإعجازه إذ أنه يشير أو يعالج الخاص ؛ لينطلق منه إلى حكم عام أو قضية عامة . وهناك أمثلة كثيرة تبين عن ذلك كقوله تعالى : " عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) " . ( عبس 1 ــ 3 )

والمشار إليه واحد هو " عبد الله بن أم مكتوم " ، وانطلق القرآن من ذلك إلى بيان منهج الدعوة كما يجب أن يكون وذلك في سورة عبس كلها .

والأمثلة من هذا اللون كثيرة في القرآن الكريم .