أوراق متناثرة من دفتر الذاكرة في فترة الثمانينات

مجتزأه من مذكراتي

م. هشام نجار

المنسق العام لحقوق الإنسان - الولايات المتحده 

najjarh1.maktoobblog.com

محطات صغيره في حياة إنسان عادي

  أعزائي القراء

منذ خمس سنوات كتبت هذه المحطات المتواضعه وعددها خمس وعشرون محطه نشرتها في مواقع مصريه وليبيه وأردنيه إضافة إلى صحف عربيه تصدر في الولايات المتحده بدأتها بالمحطه الأولى التي كانت بعنوان ولادة الذاكره والتي سجلت فيها ما إختزنته ذاكرة طفل صغير عن سقوط فلسطين عام ١٩٤٨ بيد اليهود وبتواطؤ حكام كلهم حملوا شعار ابطال الصمود حتى وصل هذا الشعار بالتناسل الغير شرعي إلى زعيم زعماء أبطال الصمود الزائف حافظ الاسد فتفوق عليهم بجداره فأكمل على فلسطين وأكمل على الجولان وأكمل على العرب كل العرب حتى بدا حكامنا في اعوام الأربعينات والخمسينات قمة في الطهاره والوطنيه مقارنة مع فساد وجرائم وخيانات آل أسد ... وكان من الطبيعي أيها الأعزاء ان أصل بمحطاتي إلى ما آل إليه مصير الوطن في أعوام الثمانينات من القرن الماضي وخاصة ما تعرضت له مدينتي حلب وضواحيها من قبل الفرقه الثالثه بقيادة اللواء الطائفي شفيق فياض التي تم إستدعاؤها على عجل من لبنان بعد أن حصل حافظ أسد على رسالة تطمين دوليه وإسرائيليه من أن وضعه في لبنان لن يطرأ عليه أي تغيير وأن مكانه محجوز هناك حالما يُنهي حربه منتصراً على الشعب السوري.كما تم تعزيز الفرقه الثالثه بكتائب من المظليين والوحدات الخاصه وسرايا الدفاع إضافة إلى كل أطقم المخابرات المشكله لهدف واحد وهو وضع الشعب في قمقم كتيم سمحوا لكفيه فقط لتخرج منه من أجل غاية واحده هي التصفيق لبطل الصمود الزائف .إطمأن حافظ اسد لهذا الرساله فأرسل مع الفرقه الثالثه كتيبة مظليين , وكتيبتين من الوحدات الخاصه ومثلها من سرايا الدفاع. قسّم شفيق فياض حلب إلى قسمين : الشرقي أو القسم التاريخي القديم من المدينه وإستباحتها عصابات الأسد لسبعة أيام بحجة محاربة العصابات المسلحه .وبعد ان إنتهوا من مهمتهم هناك قتلاً وتعذيباً وسحلاً وإعتقالاً وتخريباً أعلنوا عن منع التجول في المنطقه الغربيه إعتباراً من منتصف الليل وحتى إشعار آخر .أعزائي القراء

كتبت في إحدى محطاتي مايلي... بدأت أفتش مع  زوجتي أم لؤي مكتبتي بدقه عن أية بصمات قد تستغلها عصابات التفتيش الأسديه ككتاب في الفقه مثلاً فيكلفني حياتي او شريط للشيخ عبد الحميد الكشك يكون سبباً لإرسالي إلى المجهول, أو قد تكون بقايا لرساله في كيس تجميع الأوساخ من صديق يعيش في أوروبا مثلاً سبباَ لتوجيه تهمه من أنني عميل إستخبارات لدوله اوروبيه.بدأت بإتخاذ بعض الإحتياطات فمزقت بعض الرسائل الغيرهامه إلى نتف صغيره وأخفيت بعض الكتب ولم يكن لدي أكثر من ذلك لأخفيه...في صبيحة اول يوم من منع التجول . كانت طائرات الهوليكوبتر تمر من فوق رؤوسنا متجهة الى القرى الغربيه والجنوبيه حيث تهبط فيها ثم يقوم المظليون بتجميع شباب القريه وينصبون لهم محاكم ميدانيه في عشر دقائق لينتهوا الى حكم بتنفيذ عقوبة الأعدام وما أن ينتهي التنفيذ حتى يغادرون إلى قرى أخرى فينجزون مهمات مماثلة فيها, فذبحوا شباب الوطن ويتّموا اولاد الوطن ورمّلوا نساء الوطن...كل ذلك تم بدم بارد مشحون بسمّ قاتل مغلفٍ بحقدٍ جارف ضد ابناء الشعب السوري المُبتلى بهذا النظام... كنا نراقب من النافذه لنرى أبناء الحاره رجالاً ويافعين يحشرون بسيارة زيل عسكريه واقفة في زاوية الشارع وشاحنات أخرى وراءها  بإنتظار دورها فيحشروهم كالأغنام فيها ... كنت أقول لزوجتي ..أنظري هذا أحمد إبن عادل وهذا خالد زوج  أم سميره وهذا حج صالح ...وهذا... وهذا...و ذاك.. آه ياوطن لقد أفرغوك من شبابك ورجالك...ليستبيحوا كل حرماتك ويحولوك إلى مزرعه سموها تجاوزاً بالوطن  في حوالي الساعه الرابعه عصراً من اليوم الأول من حظر التجول دخلت طلائع عصابات الأسد بنايتنا..قلت لأم لؤي إستعدي لقد وصل الزوار

  وكنا جاهزين لإستقبالهم كانوا ستة أفراد إثنان بلباس مدني يحمل كل منهما مسدساً عرفت بعدها أنهما برتبة رقيب الاّ ان الرقيب علي كان قائد المجموعه وكان يخاطبني بلهجة ساحليه متميزه اما الرقيب الآخر فلهجته تدل على أنه من قرى حلب

 أما الأربع الآخرين فكانوا مجندين بلباس عسكري ثلاث منهم يحملون كلاشينكوف والرابع يحمل رشاش عيار ٥٠٠ إنتشروا في البيت كالجراد لم يبق كرسي الأ ونبشوه  ورفعوا قوائمه إلى الأعلى ولا كتاباً الاّ مزقوه  ونثروا اوراقه ولا زرعة ورد  وياسمين الا  وعرّوها من ترابها .. قام احدهم بتجميع نتف رسالة ممزقه مرمية في سلة المهملات يعيد ترتيبها عساه ان يتفوق على المفتش كولومبو فيصل لحل اللغز ويحصل على الجائزه

 وبعد ساعه أخرج الرقيب علي مجموعة اوراق متضمنة اسماء لمطلوبين مصنفه حسب الترتيب الهجائي ..وصل الى حرف النون وبدأ يذكر امامي اسماء من عائلة نجار الأسماء متشابهة فمحمد ..وأحمد.. ومصطفى.. وعادل ..وخالد ... كلها اسماء موجوده في كل عائله ,فأنكرت معرفتي بأي منها الاّ انه وبعصبية ملفته للنظر أمرني ان انزل معهم ليتم تعليبي بشاحنة الزيل إسوة بالآخرين ..موقفان جريئان انقذ الوضع ,الموقف الأول صدر عن زوجتي بجرأة ملفته للنظر فخاطبته بحده: تأخذون الأبرياء وتقولون ليوم فتعيدونهم جثة هامده اذا كنتم ستأخذونه فخذوا كل العائله معه..أما الموقف الثاني فصدر عن الرقيب مساعد قائد المجموعه حيث خاطب الرقيب علي بحزم وقوه : لا لن نأخذه طالما ليس له إسم, إلتفت إلى قائلاً عذراً أستاذ هشام إبق مع عائلتك..أحُبط الرقيب علي وخرج وهو يلوح بالمسدس بوجهي : قد نعود في أي لحظه مفهوم...مفهوم...مفهوم

في اليوم التالي كان اقل وطأة من سابقه الاّ ان الإتصالات الهاتفيه مازالت مقطوعه بين اهلنا وأصدقائنا لنطمئن على مصيرهم .كان أول عمل  نقوم به هو الإطمئنان على الوالده بالرغم ان الدبابات مازالت تصول وتجول في الشوارع وتتمركز في بعض الساحات ,تركنا  أولادنا لؤي وقصي عند جيراننا وتحركت مع أم لؤي بإتجاه بيتها

 .... وبصعوبة بالغه وصلت مع زوجتي أم لؤي إلى بيت الوالده  قطعنا المسافه سيراً على الأقدام بين بيتنا الكائن قرب جامع الروضه في حي السبيل وبيت الوالده عند أول شارع فيصل قرب جسر القطار بزمن إمتد إلى ساعه ونصف عوضاً عن خمس وعشرين دقيقه في الحاله الطبيعيه وذلك لمرورنا على إكثر من ثمان حواجز كل حاجز لا تعرف من صاحبه ولمن تعود ملكيته..يسألوننا عن بطاقاتنا الشخصيه...عملنا.. وجهتنا..هل لدينا أحد من الأقارب والأصدقاء في المعتقل...ولكن القضية ليست هنا بل عندما إقتربنا من بيت الوالده حيث بدأ يطرق مسامعنا صوت ضجيج مجنزرات تبين لنا عن قرب أنها دبابات عائده ملكيتها لشفيق فياض قائد الفرقه الثالثه متجهة بإتجاه منتزه السبيل.. وليت الأمر كان مقتصراً على هذا الإستعراض الذي يتماشى مع إستباحة  البلد من قبل عصابات الأسد, الا ان هذه الدبابات كانت تجر وراء كل منها شاب فقد حياته مقيداً رجليه بسلسله  معدنيه إلى حلقه خلف الدبابه رأسه يهتز صعوداً وهبوطاً حسب تضاريس الطريق... إهترأت ألبسته... وإنسلخ جلد رأسه وظهره بإستباحة مبتكره لآدمية البشر  وهي تدور بجثث هؤلاء الشباب شوارع المدينه في عملية يخجل منها مجتمعين هولاكو وكيم إيل سونغ وهتلر وستالين ومناحيم بيجن  ...

بعد هذا المشهد الإجرامي مكثت وزوجتي لفتره غير قصيره

 في حالة ذهول لأشهر لم تفارقنا الكوابيس ليلة واحده

 أعزائي القراء هذا ماكتبته عن جرائم النظام في عامي ١٩٨٠ و١٩٨١ والفريده في إبتكارها ...أكتفي بهذه المواقف وإن كان هناك مواقف أخرى لاتقل إيلاماً عما ذكرت ..قد يكون لها مناسبة أخرى نعود إليها, واليوم إخوتي وأخواتي يُنفّذ الوريث دروس أبيه بل ويزيد عليها ماسهى عنه حتى صار علم إبتكار الجرائم بحق الشعوب حقاً محفوظاً لآل أسد.

   فبعد مرور ثلاثين عاماً على جرائم الأب..يفتح الأبن كتب أبيه ليختار من مؤلفاته ما يساعده على إعادة المارد السوري إلى القمقم  ولكن هيهات له ان ينجح, فالشعب إتخذ قراراً حاسماً وهو : الشعب يريد إسقاط النظام ومحاكمة كل رمز من رموزه وعن كل يوم من ايام حكمه وحكم ابيه وإن غداً لناظره قريب.

مع تحياتي