معنى المدينة: الناصرة نموذجاً

د. وسام جبران

ليس لدى أحد منا شكّ في أن سياسات دولة إسرائيل سعت وتسعى، منذ قيامها، الى قتل "المدينة" العربيّة الفلسطينيّة داخل فلسطين التاريخية، وإن كانت بعض القرى قد "تحوّلت" الى مدن إبان الوجود الإسرائيلي، فهذا التحوّل يستحقّ وقفة جادّة لفهم حيثياته ومدى بُعد هذه القُرى "المتمَدْينة" عن معنى المدينة ومفهوم المدينيّة عبر التاريخ عموماً، وفي عصرنا الحديث خاصّةً.

ولكي نحصر الحديث عن المدن الفلسطينية التي بقيت داخل ما يُسمى بالخط الأخضر، فبعد القضاء على خصوصيّة يافا وحيفا، ظلّت الناصرة، على مدى عقود، "مدينة" فلسطينيّة يتيمة، تلعب دوراً يستحق الدراسة والتقييم في تاريخ الفلسطينيين الحديث، وشكّلت، بالمعنى الوجداني والسياسي، عاصمة رائدة ومدرّج انطلاقٍ لمختلف الفعاليات السياسية والجماهيريّة والثقافية.

توارى هذا الدور في العقدين الأخيرين الى درجة تُقارب الأفول، مما يستدعي كذلك وقفة تأمل فاحصة.

قد تستحق هذه النقاط الثلاث دراسات مستقلة لا مجال لها هنا في هذه المقالة الموجِزة، لكننا سنتوقّف هنا عند نقطة هامة، من وجهة نظري، في هذا الوقت بالذات، والذي نشهد فيه استقطابات دينيّة وطائفيّة، لا على المستوى المحلّي وحسب، بل في الأفق العام للعالم العربي، والعالم الأوسع بشكل أو بآخر. هذه النقطة تتعلق بالمسائلة عن معنى المدينة في ظل هذه الإستقطابات التي نتأثّر بها هنا في الناصرة كما تأثرت المدينة بأحداث عالمية أخرى كسقوط الإتحاد السوفييتي والعولمة الإستهلاكية الخ.

*

لا يمكن لأي باحث أو كاتب أو مهتم بشأن مدينة الناصرة، او المدينة الفلسطينيّة عموماً، أن يتغاضى أو يُنكر وجود استقطابات طائفيّة تبدأ في مطابخ السياسات الكبرى في العالم الأكبر لتصل الى "تطييف" السيّارات المصنوعة من البلاستيك والحديد ومهرها بتوقيع ديني أو طائفيّ، وهذا ليس سوى انعكاسٍ خجول لما يجول في أذهان الكثيرين منا، وهو مؤشر لا يمكن التخفيف من شأنه، بل من الضروري فهمه ومعالجته قبل تضخّمه ليصبح طاقة اشتعال في أي لحظة تاريخية مواتية لمن يرغب في استخدام هذه الطاقة ويعدّها ويرعاها على مهل وبصمت.

هو سؤال يُطاردني من زمن: لماذا لا يحتاج العَلمانيّون الى رزنامة؟ لماذا لا يصدر عن ناسا (وكالة الفضاء الأمريكيّة) تقويم زمني علمي؟ لماذا ليس هناك عيد ميلاد لأينشتاين أو عيد "يوم إصدار رأس المال لكارل ماركس" أو عيد موت "القدّيس" غاليليو أو يوم صوم وصمت للإحتفاء باكتشاف اللاواعي أو اكتشاف الأصل القرديّ للإنسان، أو يوم مساخر في ذكرى اعتذار العلماء أمام مجلس طائفة الفاتيكان الخ...؟ لماذا هو المتديّن وحده بحاجة الى رزنامة؟ وماذا سيحصل للدين (عند العامة) لو تمّ إلغاء الرزنامة، وبالتالي الطقوس والأعياد؟

لماذا هذا السؤال، وما علاقته بموضوعنا؟

نعم، العلمانيّ الحقيقي لا يحتاج الى تأطير للزمن ولا الى طقوس لممارسة فكره. لأن العلمانية فكر لا طقوس، والعلمانيّة فكرٌ مدينيّ نشأ في المدن وفي شرط المدينة وليس مجرّد شعور موروث (سابق للفكر)، والعلمانية حالة مُساءلة ومواجهة مستمرة مع الوجود، لا حالة استسلام لأجوبة الغيب؛ العلمانية تعني، أن لا تربّي أبناءك تربية شعورية دينيّة سابقة لقدرة الطفل على التفكير والقراءة والبحث والإختيار، وبالتالي فالعلمانية تتعامل بطريقة أكثر رقيّاً مع الدين من تعامل الدين مع ذاته: العلمانيّة لا تنطلق من معموديّة الماء، بل معموديّة النار: نار البحث والؤال والشّك والإصغاء العميق للوجود المتعدد. العلمانية لا تنطلق من الخوف من الآخر المختلف ومن الذات بكونها هي نفسها آخر مختلف، فتُفسح المجال أمام الإنسان لأن يختار فكره وإيمانه وعلاقته الشخصيّة بالوجود بنفسه، وعبر تجربته الشخصيّة وحسب؛ في معنى الإختيار يكمن جوهر المحبّة بما هي انفتاح على الآخر ففهمه وقبوله.

*

        في الناصرة تعددية دينية وطائفية، ومن حق كل القائمين على المؤسسات الدينية والطائفيّة المبادرة الى فعاليات جماهيرية احتفالية تتعلق بأعيادهم وطقوسهم ومناسباتهم الخاصة، لكن، ومهما بلغت هذه الفعاليات من تحقيق لذاتها، فهي لا تحقق سوى ذاتها الطائفيّة والدينية مهما تكوّمت الذرائع البراغماتيّة، ومهما تكللت هذه الفعاليات بالطاقات التطوعيّة الإيجابيّة.

الناصرة كمدينة تحتاج الى رؤية مدينيّة، لا الى رؤية طائفيّة، بمعنى أنها بحاجة الى أفق جامع لا مُستقطِب. والأفق الجامع هو ليس الأفق المتحالف مع المنظومات الطائفيّة أو الذي يتّخذها منطلقاً جماهيريّاً ومؤسساتيّاً له، بل هو الأفق الذي يقبل بهذا التعدد لحساب فكر التقبّل الذي من شأنه شيئاً فشيئاً أن يحلّ محلّ الفكر الطائفي الغير متقبّل للآخر المختلف.

*

في السياسة كما في السياسة: مُهادنة الموجود بحثاً عن الممكن. وفي الثقافة كما في الثقافة: البحث في الصّامت عما يبدو مستحيلاً. ومن هنا تحيّزت دائماً الى الفعل الثقافي على حساب (ودون تناقض) الفعل الجماهيري، ومن المؤسف أن الجهات القائمة على مدينة الناصرة بدءاً من البلديّة (المؤسسة الرسمية الأولى) وصولا الى مختلف المؤسسات الأخرى، لا تميّز بعد بين النشاط الجماهيري والنشاط الثقافي، ولا تعرف، على ضوء تجارب التاريخ، أن لا شيء يؤسس للمدينة، التي نحتاجها فلسطينيّاً، أكثر من الثقافة المدينيّة التي تتناقض في جوهرها مع الفكر الديني والطائفيّ والحزبي والأيديولوجيّ الإقصائي والمنغلق.

الناصرة، والمدينة الفلسطينية عموماً، في أمس الحاجة الى المؤسسة الثقافيّة، وهي غائبة أو "فاشلة"، بحكم تغليب الفكر السياسي الحزبي والطائفي على الذهنيّة الثقافيّة، وتغليب النزوع التراثويّ على الشغف الإبداعي؛ ففي الناصرة لا وجود للمؤسسة الثقافيّة ولا للنشاط الثقافي، وبالتالي فالناصرة ليست مدينة ولا يمكنها أن تكون كذلك. وفي ترسيخ المنطق الرزناميّ الدينيّ وربط النشاط الجماهيري به، قتلٌ لأيّ أفق مديني منفتح ومتعالي على المنظومات الضيّقة، مهما كثرت حسناتها في أعين من ينظرون الى الأمور بمنظار النعرة الدينيّة والطائفيّة، ولا يرون الى هذه "الحسنات" على أنها طاقة منغلقة على ذاتها ولا فائدة منها بالمنظور المدينيّ الشامل.

*

الفعل الثقافي يُسائل ويبحث ويُحرج وينقض وينتقد ويُفكك ويُصغي الى العُمق ويُعطّل الحواس لإستكشاف الحقيقة بالمعنى الصوفي للكلمة الخ... بينما لا يُعنى النشاط الجماهيري سوى بالسطح والطقس؛ الفعل الثقافي هو فعلٌ كشْفيّ صامت لا فعل كشّافيّ مُضجّ. الفعل الثقافي موجّه نحو الفرد (أو الى الجماعة بوصفها أفراداً)، بينما يعتمد النشاط الجماهيري على الجمع وعلى الجماعة بوصفها كُلاًّ واحداً على حساب فردانيّة الفرد. الفعل الثقافي غير معني بـ "القاعدة الشعبيّة" بل بالحقيقة بوصفها حركة تحوّليّة، بينما يهتم السياسيّ بالجماهيريّ ولا ينفصل عنه بوصفه ثابتاً مُطلقاً.

المدينة حالة اغتراب، لا بالمعنى النكوصي والإنكفائي السلبي، بل بمعنى أن الذات الإنسانية، في شروط المدينة، تبحث عن ذاتها بوصفها آخراً لتغترب فيه، ولا تبحث عن "جماعة" تحتمي وتستأنس بها بوصفها "وطناً" أو "دفيئةً" يشكلان حصناً منيعاً لها في وجه الآخر بوصفه نقيضاً وعدوّاً.

المدينة ترى الى الإنسان على أنه مقولةٌ وجوديّة فرديّة مُعاشة، لا مقولة جماعيّة وهميّة وافتراضيّة وميتافيزيقيّة.

سياسيّاً، لا يمكن مواجهة سياسات إسرائيل العدوانيّة في ظل غياب المدينة والفكر المدينيّ.

الناصرة، بما هي مدينة الفلسطينيين الأكبر حجماً، تتجه اليوم، وفي ظل غياب العقل الثقافيّ، الى الإستقطاب الطائفي والحمائلي، ولا مؤشر (في عقول القائمين عليها أو من يسعون الى قيادتها) على تطور ما في فهم المعنى الثقافي في عمقه كفعل مقاومة أخير.

المطلوب، مجازاً، التحرّر من الرزنامة بما هي تسخير للميتافيزيقا وتشويه جرائمي للمفهوم الحقيقي والطبيعي للزمن لا بوصفه إطاراً جامعاً، بل بوصفه خياراً شخصيّاً صعباً. (ليس صدفة أن الديانات لا تتفق على رزنامة واحدة، وليس صدفة أن لا رزنامة للعلمانيين)