يا مبارك... هذا قليل من كثير

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

كلمة لابد منها : نشرت هذا المقال في 15 / 6 / 2008 م في وقت كان مبارك هو القانون والدستور والنظام وفرعون الذي قال " أنا ربكم الأعلى " :

 ـــــــــــــ

 كان أنور السادات - غفر الله له - يقول في زهو -بالفم المليان-: «.. أنا -بحمد الله في حياتي وأفعالي وأقوالي وسياستي - أقتدي بعمر..» كثيرًا ما كررها.. أنا سمعته.. وقطعًا أنت أيضًا -يا سيدي مبارك- سمعته.

 ولكن واحدًا من حوارييه المقربين جدًا إليه, همس مرة في أذنه قائلاً:

- يا سيادة الريس.. ما تقوله مخالف للواقع.. لأننا لم نَرَك تقتدي بعمر بن الخطاب!!

فرد عليه قائلا: أنا قلت «عمر».. ولا أقصد به «ابن الخطاب».. ولكنني أقصد «عمر الشريف» اللي كان جوز -الله يمسيها بالخير- بنتنا «فاتن حمامة».. لأنه رجل عظيم, وعصامي, واستطاع بعبقريته أن يخرج من نطاق المحلية, إلي نطاق النجومية العالمية.

النكتة سلاح المكروبين

 قالوا: إنها واقعة حقيقية حدثت بكل حذافيرها, وقال قائل منهم: شقها الأول صحيح, وشقها الثاني نكتة, بدليل اختلاف الروايات في اسم القدوة.. ما بين: عمر الشريف, وعمر الحريري, وعمر الجيزاوي, وعمر خورشيد.

 وإني لأري النتيجة واحدة, وأن الخلاف يكاد يكون لفظيًا, فللنكتة السياسية دلالتها القوية المؤًثرة» إذ أنها تصور أبعاد الشخصية موضوع النكتة, وطبيعة العهد, وشعور الناس تعبيرًا عن المرارة, وتفريجًا عن النفس, بمعايشة أحلام اليقظة.

الاضطراب التناقضي..

 وإنصافًا للسادات أقول: إننا سمعناه -مرات متعددة- يقول: إن مثله الأعلي هو مصطفي كمال أتاتورك. وهي -بلا شك- سقطة كبري.. فقد كشفت الوثائق -التي كانت دفينة- عن حقيقة مصطفي هذا, وعن أخلاقياته المهترئة الساقطة, وعن كفرياته, وأن اليهود هم الذين ربوه علي أعينهم في مدينة «سالونيك».. وقد اكتشفت زوجته «لطيفة هانم» شذوذه المخزي صدفة, وليرجع القارئ إلي كتاب «الرجل الصنم» بقلم ضابط تركي كبير, من معاصري أتاتورك هذا.

 أما أحاديث السادات السنوية مع «همت يا بنتي» فكانت لمؤاخذه -كما يقول الكاتب الظريف جمال فهمي- تدعو للعجب والاستغراب.. ومن أقواله «لهمت يا بنتي»: «أنا لما عملت ثورة 1952 أنا والمرحوم عبد الناصر..» وأشهد أنني سمعته يقول أيضا لهمت يا بنتي: «.. أنا لما عملت الإخوان المسلمين مع المرحوم الشيخ حسن البنا.. شوفوا بقي اللي اسمه التلمساني ده كان فين أيامها!!!

 قلت في نفسي: هل كان السادات «متعهد» قيام بثورات وتشكيل جماعات??!! مع أن تاريخ هذه الفترة معروف جدًا, ومكان السادات في هذه الأحداث معروف جدًا.

معك يا سيدي.. يا مبارك

 وطابع التضارب والتناقض القولي نجده علي نحو أوفي عند الرئيس مبارك, وإليكم بعض النماذج الدالة علي صدق ما ذهبت إليه:

1- فمن أقواله عن «الإخوان المسلمين» في فترات مختلفة:

 أ- مفيش «شيء» اسمه إخوان, مفيش في مصر «حاجة» اسمها «إخوان مسلمين».

(لاحظ -ياقارئي العزيز- نبرة التحقير المر في قوله: شيء, حاجة).

 ب- الإخوان دول أصحاب تاريخ إرهابي.

 جـ- الإخوان دول آخر حاجة يحتاجها الشعب المصري.

 د- أنا لو طبقت الديمقراطية -كما تريدها أمريكا والغرب- لجاء الإخوان المسلمون للحكم.

 هـ- ومن أقواله في أحاديثه لعماد الدين أديب: أنا لا أكره الإخوان.. مفيش بيني وبينهم عداوة..

2- وعن الدعوة إلي تعديل الدستور قال: إن الذين يطالبون بتعديل الدستور عابثون.. وأغبياء, ويدعون إلي باطل. ثم فاجأنا برؤيته في تعديل المادة 76.

3- وعن شارون: هو مرة رجل حرب وعدوان.. ولا يمكن أن يتحرك سلام في عهده, ومرة هو رجل سلام, ومن دعاته.

 ***********

وإنك صاحب ريادات وأوليات

 فمن أولياتك -يا سيدي يا مبارك- أنك لو مدّ لحكمك لفترة خامسة لتقضي في الحكم ثلاثين عامًا, لكنت أول حاكم في تاريخ مصر -من بعد حكم محمد علي باشا- يقضي هذه المدة حاكمًا , يستوي في ذلك السلاطين والخديوون والملوك. وهذا من أعجب العجب.

 وننبه -يا سيدي يا مبارك- أن الخلفاء الراشدين الأربعة كانت مدة حكمهم «ثلاثين» عامًا ابتداء بخلافة أبي بكر الصديق, وانتهاء باسشتهاد الإمام عليّ -الخليفة الرابع- رضي الله عنهم جميعًا (هذا طبعًا مع الفارق الشديد في التشبيه).

 ومن أولياتك يا سيدي أنك حكمت البلد علي مدي ربع قرن بقانون الطوارئ, فأصبح في مصر الأجيال التالية: جيل ثورة 19, وجيل الميمونة (أي: جيل ثورة 1952), وجيل الطوارئ.

 ومن أوليات عهدك -أو عهودك الميمونة- أن مصر عرفت «التجريدة الشاملة» والتجريدة -كما تعلم سيادتكم- تعني «الجيش» أو «الحملة».. فقرأنا.. ونحن طلاب.. أن الحاكم أرسل تجريدة إلي السودان.. يقودها.. الضابط فلان..

 أما التجريدة المصرية المباركية فتعني قيام مجموعة مكلفة من رجال أمن الدولة غلاظ شداد.. فيقتحمون في الفجر مسكن أحد «الظلامين الرجعيين» من أعضاء جماعة محظورة اسمها «الإخوان المسلمون» ويخربون المسكن, ويفزعون النساء والأطفال, ويصادرون كل شيء فيه من أجهزة كهربية, وإلكترونية, ونقود, وحلي النساء, وكتب.. حتي كتب أطفال الحضانة.. إلخ..

 لماذا هذه التجريدة ياسادة?.. قال لك أصل ده إخوانجي, ينتسب إلي جماعة محظورة, ويدعو إلي الإزراء أو تحقير النظام, ويحاول أن يروج لمبادئ الجماعة المحظورة, واختراق الجماهير.. إلي آخر هذه الاتهامات الانتفاشية التي ما أنزل الله بها من سلطان, ولا يقتنع بها من يملك مثقال خردلة من عقل.

الرشوة.. والنهب والتهليب..

 لا ينكر أحد أن السرقة والنهب والرشوة والنصب.. جرائم لها وجودها من قديم.. ولكنها للحق -يا سيدي يا مبارك- أصبحت في عهدكم -أو عهودكم- هي الأصل, وعكسها غَدَا هو الاستثناء.. نُهبت يا سيدي مئات المليارات من البنوك والشركات.. وهرب اللصوص إلي الخارج يتمتعون بما نهبوا. ويقال: إن أحد ناهبي المليارات, ما كان لينكشف أمره لولا اختلافه مع زوجته, فلجأت إلي التبليغ عنه.

 وللحق كذلك يعرف الناس جميعًا أن «الرشوة» ارتفع سعرها, بقدر انخفاض قيمة الإنسان المصري, وقد قرأت من شهر أن أحد الهاربين دفع رشوة: سيارة مرسيدس, وعزبة من عشرين فدانًا.. تصوروا. أما المصالح الحكومية فلن تستطيع أن تنجز لك عملاً إلا «بالتظريف».. والتظريف معناه: وضع مبلغ -محدد سلفا- في ظرف, وإسقاطه في درج مكتب الكبير المسئول ولا أريد أن أقف عند نوع قذر من الرشاوي يتمثل في بذل الأعراض, وإقامة الليالي الحمراء.

.. والنفاق أصبح دينا

وفي عهدكم -أو عهودكم الميمونة, يا سيدي يا مبارك- أصبح النفاق طبعًا ودينًا, وديٍدنا. أما الكلمة الحرة الصريحة الصادقة التي لا يقصد بها صاحبها إلا وجه الحق والحقيقة.. هذه الكلمة -ياسيدي يامبارك- أضحت في أنظار جوقة النفعية والنفاق تبجحًا, ووقاحةً, وغدرًا, وخيانة, وعمالة. وأصبح المجد وإكليل الغار لأمثال «المستشار» مرجان.. الذي يقول: إن أقوي كمبيوتر في العالم يعجز عجزًا مطبقًا عن إحصاء أعمالكم, وتقييمها.. ويرجوك بلسان الضراعة أن تمد حكمك.. للمرة الخامسة حتي «لا تتركنا للحيتان القاتلة, والرياح الهوجاء.. والأمواج العالية» علي حد قوله.

 وفي عهدكم -أو عهودكم الميمونة يا سيدي.. يامبارك- بلغت الاستهانة «الرسمية» بأموال الشعب أقصي مداها.. فقيل: إن من المحافظين من أهدر ملايين الجنيهات علي «توضيب» مكتبه وياليتك -ياسيدي- تجيب -بوضوح تام- علي سؤال من يسألك عن «فيلمك» الحُواري مع عماد الدين أديب.. كم تكلف? ومن الذي سدد الفاتورة, وهي -كما يقولون- ملايين.

 ولا أخفي عليك أنني ضحكت -ضحكًا كالبكا- عندما قرأت مناقشة مجلس الشعب لمسألة المليارات الستة التي أهدرت, دون الحصول علي موافقة مجلس الشعب قبل صرفها, وإثبات وجوه صرفها بأوراق رسمية.. وقال الوزير المسئول: «معلهش النوبة دي.. مش حنعملها تاني».

وجاءه الفرج من «سرور» و«السروريين» والشاذلية بمقولة: علي أية حال: ما حدث يعد مخالفة مالية, لا مخالفة دستورية (!!!), ونحن نجيز لآخر مرة ما حدث, والإجازة «البَعْدية» تعتبر كالموافقة «القبٍليَّة» (!!!) شوف إزاي!!!

ما أرخص أرواح المصريين!!

 هل قرأت ياسيدي.. يا مبارك أن في مصر الآن ربع مليون مصري مصابين بالسرطان, أو الفشل الكلوي بسبب كيماويات يوسف والي «المسرطنة»..(ولا يدخل في الإحصاء من ماتوا) ومازال «الوالي» الهمام حرًا طليقًا «يأكل بغاشة, وعيش قمح, ويدخّن سجاير مَكَنَة, ويدعو للسلطان بالنصر».

 وهل أتاك يا سيدي خبر خريج الجامعة الذي شنق نفسه في كوبري فيصل من بضعة أسابيع لأنه جائع.. ولا يجد عملاً?

 وهل أتاك يا سيدي نبأ «الخريج» العبقري, الذي انتحر لأن رجالكم الكبار جدًا حرموه حقه في الالتحاق بالسلك الدبلوماسي» لأنه – كما قالوا - لا تتوافر فيه «اللياقة الاجتماعية» يعني أنه «من أسرة فقيرة» . ولو أخذنا بهذا المعيار -يا سيدي .. يا مبارك- لحُرًم ثلاثة أرباع رجال الثورة من شغل أي موقع رئاسي..

وهل أتاك.. وهل أتاك.. مما يطول شرحه ويحتاج إلي مقال.. بل مقالات أُخَر??!!

-- ---------------------------------------

.. إلي الدكتور عصام العريان

 كلماتك يا أخي.. مازالت ترن.. ويترقرق صداها في كل بيت.. وفي آذان الأبناء والأحفاد وفي قلوبهم.. لا تأسَ فمثلك لا يُسجن.. وصورتك لا تغيب.. تحياتي لك ولكل إخوانك.. وراء الأسوار.. وإنها والله لبداية النهاية.. ورقصة الطائر الذبيح..

-----------------------------------------

إلي الشهيد طارق غنام

 أيها الشهيد العظيم.. إنه قدر مصر.. وإنه قدرك.. وإنه قدر الإخوان المسلمين..

إنه قدر مصر.. أن تعيش أكثر من نصف قرن محكومة بعصابة.. بل عصابات من السفاحين والقتلة, والمنافقين والخانعين والهابطين.. الأسود الكاسرة علي الشعب.. والنعام الطائش الجبان علي الأعداء..

 وهذا قدرك أن تكون أول من ينال شرف الشهادة في مسيرة انتفاضة الإصلاح من أجل الحق المهدر, والحقيقة الضائعة, والشرف المهتوك.. من أجل مصر التي كانت مصر «المحروسة» ....... فأصبحت مصر «المخٍروسة».

فهنيئًا لك إذ تلحق في عليين بالشهداء البررة السابقين, من أمثال: مسعد قطب, وأكرم زهيري, وعودة, والطيب.. ودوير, وسيد قطب.. وحسن البنا.

طبٍتَ حيًا وميتا لا يضامُ

في جنان الخلود يا غنّامُ

 وهو قدر الإخوان المسلمين أيها الشهيد العظيم, فقد شاء الله أن يكونوا دائمًا طليعة الجهاد, للتضحية والفداء, والحب والإيثار, فمنهم من قضي نحبه, ومنهم من ينتظر, وما بدلوا تبديلا.