صور ناطقة للتحوت والروابض 63+64

أحمد الجدع

[63]

في عام 1977م زرت جنين لأول مرة بعد النكبة الكبرى ، بمعنى أنني زرتها بعد مرور عشر سنوات من النكبة التي أسموها زوراً وبهتاناً بالنكسة !

وحرصت على أن أزور أقاربي في جنين وفي قراها .

ذهبت إلى بلدتنا المقيبلة ، وفيها رأيت جدتي لأبي ، فرحت بي وفرحت بها ، وفيها زرت عمتيَّ خديجة وآمنة .

جلست في بيت عمتي خديجة (أم قاسم) ودارت الأحاديث عما يعانونه تحت حكم اليهود ، وكان مما حدثني ابن عمتي قاسم حماد ما يلي :

أحببت أن أبني لي بيتاً ، وكان لا بدّ لي من الإسمنت ، وكانت دولة اليهود توزعه بالحصص ، وتوقت لكل راغب فيه وقتاً يأخذ فيه حصته .

قال لي : وجاء موعدي ، وذهبت لآخذ حصتي ، ودخلت على المسؤول ، وكان عنده يهودي يريد أن يأخذ الإسمنت دون أن يكون له دور ، وما دام الدور لعربي فإن ذلك يسهل له ما أراد .

لم يكونا يعرفان أنني أجيد العبرية .

قال اليهودي لصاحبه : أعطني ما أريد فأنا أحق من هذا العربي بذلك .

قال له المسؤول : كلا ، إنه أحق به منك .

قال الآخر : لماذا كان أحق به مني ؟

قال المسؤول وهو يبتسم ابتسامة يهودية : إنه يبني لنا !

قال ابن عمتي : لقد أصابني الإحباط ، وقلت في نفسي : لقد صدق اللئيم ، إننا نبني لهم ، ألم يهزمونا في ساعات ويستولون على بلاد واسعة ... فما البيت في قرية تربض في مكان لا يكاد يعرفه أحد ... إنا لله وإنا إليه راجعون ... وأخذت الإسمنت ومضيت !

أقول : نحن الآن في عام 2011م ، وقد مضى على هذا الحادث أربعة وثلاثون عاماً ، وبدأت طلائع النصر ، فقد أفاقت الأمة من رقدتها ، ومضت إلى سبيل النصر بقدرة الله ، وهي وإن كانت تلاقي مقاومة من التحوت والروابض إلا أنها مقاومة المتهافت المهزوم ... والمهزول أيضاً .

هؤلاء التحوت والروابض ومن يدعونهم اليوم بالفلول يمضون في الطريق الذي يهديهم إلى الهاوية .

نحن نمضي إلى وعد الله ووعد رسوله وإن كنا نرى ضعفاء في أعينهم ، ولكن :

قدرة الله إن تولت ضعيفـاً

 

عجزت في مراسه الأقوياء

تحوت الفلسطينيين في الضفة الغربية جعلوا أقصى مطالبهم تجميد الاستيطان ، تجميده وليس وقفه ، والعدو ماض في البناء .

الإسلام ماض في تقدمه ... واليهود ماضون في البناء ... البناء الذي سوف نرثه إن شاء الله .

إنهم يبنون لنا ... وإن ظنوا غير ذلك .

حسبنا الله .

==========

[64]

كان ذلك قبل حوالي أربعين سنة .

كان لنا جار شديد المحبة للزعيم الأكبر ، كانت كنيته أبا سمير ، وكان صديقاً لوالدي يرحمه الله ويرحم أبا سمير ، وكانا في حبهم للزعيم الأكبر متفقان ، إذ كان الزعيم أملهما ، وأمل كل الفلسطينيين في تحرير ما ضاع من فلسطين .

وحُق لهما ... آه لو رأيت هذا الزعيم وهو يجلس على منصته في العرض العسكري وتمرُّ من أمامه السيارات الضخمة التي تحمل صواريخ القاهر والظافر ، وهو يشمخ بأنفه كأنه يريد أن يطاول السماء ، إذن لأحببته ، وَلَوَضعت ثقتك فيه لتحرير ما ضاع من فلسطين .

كنت آنذاك منشغلاً بإتمام المعاملات التي يحتاجها أخي لدخول الجامعة في مصر ، وكانت الأجواء مشتعلة بنذر الحرب ، كان الزعيم يُصَعِّدُ اللهجة ، يهدد ويتوعد ، وكانت دويلة العصابات صامتة ، تعد نفسها تحت ظلال صمتها ...

دنت ساعة الخطاب المرتقب ، وأخذ الناس يستعدون ليستمعوا إلى الزعيم ، يريدون أن يطمئنوا إلى أن طريق النصر مفتوح على مصراعيه ، كيف لا يطمئنون إلى النصر وقد غدت مصر تستظل بظلال القاهر والظافر !

وخطب الزعيم ، وكنت في مدينتنا الفلسطينية إذا ما خطب الزعيم لا تجد في شوارعها أحداً ، كلهم قد اجتمع حول المذياع وصمتوا كأن على رؤوسهم الطير ، من لم يكن قد امتلك في منزله مذياعاً لجأ إلى جاره الذي يمتلك ليستمع ، ومن لم يجد هذه الوسيلة لجأ إلى المقاهي التي يحتشد فيها المئات انتظاراً للخطاب ... وقد اجتمع والدي وأبو سمير للاستماع وكنت معهم .

كان الزعيم في ذلك الوقت اشتراكياً ، قد أسلم أمره للاشتراكيين ...

وبدأ الخطاب ، وكانت خطاباته تستمر ساعات يدغدغ فيها آمال العرب في نصر قريب ، واحتشد خطابه بالغمز واللمز بالإسلام وقوانينه الشرعية ، وكان مما قاله ووعيته : إن الاشتراكية هي شرعة الله !!

كان الناس يكتفون من خطاب الرئيس بسماع صوته ، أما كلماته ، أما ما بين السطور في خطابه فلم يكن يهمهم .

قلت لأبي سمير : أسمعت ما قال الزعيم ؟ إنه يقول : إن الاشتراكية هي شرعة الله .

قال : إنه لم يقل هذا .

لم أناقشه ... ومرّ في خاطري ما قال شوقي عن الشعب :

يا له من ببغاء

 

عقله في أذنيـه

أقول : ولأن عقله في أذنيه فإنه يتبع ما يسمع !

حملت أوراق أخي الذاهب إلى مصر لأصدقها في السفارة المصرية في عمان ، فوجدت السفارة قد طبعت خطاب الرئيس على أوراق مجمعة ، وأخذت توزعها على مراجعيها ، وأخذت واحدة .

وفي رحلة العودة من عمان إلى جنين قرأت الخطاب ، ولما مررت على عبارة إن الاشتراكية هي شرعة الله ، وضعت تحتها خطاً أحمر ، وظننت أني وقعت على كنز ثمين أَحُجُّ به أبا سمير !

كان لأبي سمير بقالة بجانب بيتنا ، هرعت إليها وقدمت الخطاب المطبوع إليه وقد أريته الجملة .

هز أبو سمير رأسه وقال وهو يبتسم ويقول : هذه الأوراق طبعها الإخوان المسلمون !

ألم يقل شوقي عن الشعب :

هداك الله من شعبٍ بريء

 

يضلله المضلل كيف شاء

حسبنا الله .