جردة حساب لثورة سيزيف في بداية شهرها العاشر

جردة حساب لثورة سيزيف

في بداية شهرها العاشر

محمد خليفة

دخلت ثورتنا شهر ها العاشر بزخم أقوى مما سبق ,  وتمدد جغرافي أوسع ,  مترافقة مع إضراب عام  متنام , وقابل للاستمرار والاتساع حتى الان , مما جعلها تفرض نفسها على اهتمام العالم عربيا ودوليا . لذلك فإنني أرى في ذلك بحد ذاته وبصرف النظر عن أي شيء أخر  اتجاها مضطردا نحو النصر  . وأمام هذا المشهد البياني لا أرى مبررا لنشر خطاب التألم والنواح والاحباط , وكأننا  في "كارثة" ألمت بنا ,  وتستثير البكاء والتفجع . نعم نحن نعاني ونتألم ونخسر أحباء ,  وننزف دما ونتكبد خسائر مادية , ونعاني مرارات متعددة وعميقة , لكن هذه الخسائر والعذابات هي تضحيات ثمينة نقدمها طائعين وقانعين , لأننا نشتري كرامتنا  وحريتنا ,  ونفتدي أنفسنا , لكي نتخلص من العبودية  والقنانة التي خضعنا لها طوال نصف قرن . 

لقد اخترنا طريق الثورة , لأنه لا بديل لنا سواه , واستعدينا لبذل الدماء , لأن هذا هو أحد أهم قوانين الحياة والتاريخ : لا تؤخذ الدنيا إلاّ غلابا . وكنا نعلم منذ البدء : أنه ليس لنا  إلا الله  حليف أو معين نعتمد عليه , ولم نكن نعلق أمالنا على العرب أو على غير العرب , هذا ما كنا نعرفه منذ البداية , وهذا هو ما تأكذ لنا بعد تسعة شهور  , نراه  اليوم بالعين المحردة , بعد أن رأيناه بالعين القلبية والعقلية  , ولكن شعبنا رغم كل ذلك ثابت , ويزداد ثباتا , ويزداد فداء وشجاعة واستعدادا للبذل والعطاء .

إذن لا بد أن نجري جردة حساب واقعية , ونحن على طريق الثورة , وفي بداية الشهر العاشر .

أولا :  المعارضة السورية بكل أطيافها , وأخص بالذكر المجلس الوطني , لم تثبت لشعبها أنها بمستوى الشارع السوري , قوة ووحدة وتضحية . بل أثبتت أنها ليست قوة مضافة للثورة , بل هي قوة خصم من رصيد الثورة , ومن حسابها . لم تستطع المعارضة إنجاز الوحدة , رغم ضغوط الثوار والمتظاهرين وسائر الشعب السوري في الداخل والخارج . وهي ليست مسألة هينة أو كمالية ولكنها مصيرية وجوهرية . ولا شك أبدا أن الأضرار التي نجمت عن هذا الفشل , أو التقاعس عن القيام بالأولوية الكبرى والاولى هي أضرار فادحة , ربما كانت غير منظورة , لكن المراقبين والخبراء يستطيعون إدراكها وتقديرها , وأهمها  أن الدول الكبرى التي كانت تريد مساعدة الشعب السوري , وتلبية مناشداته , لم تفعل لأنها لم تجد معارضة وطنية موحدة تتعامل معها , وتستند إليها في أي دور أو مهمة تقوم بها . ولا بد أن نذكر بمقال نيويورك تايمز يوم التاسع من الشهر الجاري الذي حملت الصحيفة فيه المجلس الوطني مسؤولية إطالة عمر النظام نتيجة فشله في توحيد المعارضة , وبناء كتلة سياسية ووطنية تمثل الشعب السوري بكامل مكوناته . 

ثانيا : الجامعة العربية فشلت أيضا في القيام بدور  يتكافأ وحجم الأزمة وتضحيات الشعب السوري , ويرتقي إلى مستوى الأمال التي علقها هذا الشعب على الجامعة  وعلى الدول العربية . لقد تعاملت الجامعة مع الازمة السورية تعاملا بيروقراطيا ونمطيا , في حين أن المطلوب وقفة ثورية وتعامل استثنائي يستجيب  لروح العصر  وأحكام  الضرورة , وسرعة التغيرات العاصفة التي تضرب العالم العربي من غربه إلى شرقه , ومن شماله إلى حنوبه , بقوة تسونامي أو زلزال بقوة ثماني درحات وما فوق ! المبادرة التي تطوعت الجامعة وقدمتها خلقت تفاؤلا عميقا وعالي المستوى , سرعان ما تحولت إحباطا وخيبة أمل  مريرة , بعد أن نجح النظام السوري بتدويخ القائمين عليها , والتلاعب بهم وبالوقت , بفضل تواطؤ بعضهم على الاقل معه , وبفضل تراجع عدد من الدول العربية عن منسوب مواقفها السابقة , ومفاجئتنا بوجود حلفاء سريين للنظام السوري , أسفروا عن وجوههم القبيحة بالتدريج , وعلى رأسهم القادة العراقيون ,  وبخاصة الطاقم الشيعي منهم , العملاء لإيران . يبدو الامر الان كما لو أن العقوبات القاسية التي فرضتها الجامعة على النظام السوري , كانت وسيلة لإقناعنا بجدية الجامعة , والمجموعة العربية , بينما في الحقيقة كانت وسيلة قاسية في الظاهر , ورحيمة في الباطن  لصالح النظام السوري , لأنها وفرت له مكاسب هامة جدا , إذ شكلت حماية شرعية له من اي دور دولي ,  وأعطته مهلا متتالية استمرت أكثر من شهرين ونصف استغلها في محاولاته الاجرامية لإخماد الثورة بواسطة ألة القتل والقمع  , والاهم أن العقوبات الاقتصادية  لم تنفذ , وخاصة من الدول المحيطة , وعثرت كل منها على سبب للتهرب من الالتزام بها .

 الدول العربية الكبرى : مصر , السعودية , المغرب مشغولة بصد رياح الربيع الزاحفة عليها , الدول التي انجزت ثوراتها  تونس وليبيا ومصر منكفئة على معالجة جراحها وبناء مؤسساتها , ولم يعد سوى الدول الصغيرة . وهذه هي التي تقود المبادرة الخاصة بسوريا , ولم يعد لها من حظ سوى إحالة الملف إلى مجلس الامن الدولي , فإذا قامت بذلك في الأيام  الأربعة القادمة نجحت بالحد الادني , وإذا فشلت أو تقاعست لأي سبب , فستخسر هي والجامعة كل ما تبقى لها من رصيد .

ثالثا : المجتمع الدولي , يتخبط في مواقف متذبذبة , ومواقف تتسم بالجبن والتخاذل , بل والتواطؤ المفضوح , تذكرنا بما جرى في السنوات الثلاث الأولى من أزمة البوسنة  1992 - 1995, حين تصرفت الدول الاوروبية بطريقة توحي في الظاهر بعدم القدرة على وقف مذابح الصرب للمسلمين , بينما تبين لاحقا وباعترافهم أنهم كانو يوفرون الوقت للصرب للإجهاز على البوسنيين المسلمين , وقد تحقق ذلك بنسبة سبعين في المائة , قبل أن تتدخل أمريكا لإنقاذ ما تبقى لهم . يتكرر اليوم المشهد في سوريا , وبطريقة مشابهة , خاصة الموقف الروسي البشع . أما أمريكا وأوروبا اليوم فقد تبادلا المواقع والمواقف , ويبدو الموقف الأمريكي  اليوم مفتقدا للارادة , والرئيس أوباما يذكرنا بالرئيس كارتر قبل خمس وثلاثين عاما رئيس ضعيف يحسن الحكي ولا يحسن الحزم . هناك تراجع فاضخ رغم أن إجرام النظام السوري يتصاعد ويتعاظم , وهذا التراجع والضعف , مضافا إليه التراجعات العربية هي السبب وراء تعنت بشار الاسد وزمرته , وعدم خوفه , وتصعيد معدلات القتل اليومية وهو مطمئن  .  

****************

إن الثورة السورية تبدو ترجمة فعلية لأسطورة سيزيف , شعبنا يستمر في حمل صخرة أماله إلى القمة , ويواصل دفع التكاليف الباهظة بأريحية كبرى , بمقدرة وشجاعة تبدو أشبه بالأساطير فعلا . ورغم ذلك فإننا نرى مشارف النصر وملامح الغد الجميل من موقعنا الصعب ..المرير  ..القاسي  .. الدامي حاليا . رغم كل الحسابات السابقة , وهي صورة  واقعية لما يجري على الأرض , نعتقد بثقة أن ثورتنا سائرة إلى محطتها النهائية , وإلى عنوانها  الأخير الصحيح : النصر والحرية والانعتاق . لأننا كنا منذ البدء نعلم كل هذه الظروف , وكنا نعلم أننا نواجه عدوا متوحشا لا مثيل له في هذا العصر , ونعلم أننا بلا حلفاء ولا أصدقاء مستعدين للوقوف معنا بقوة وشهامة ,  كنا نعلم أن هذا قدرنا وعلينا أن  نقبله ,  وقد قبلناه , ووطدنا العزم على خوض المجابهة اعتمادا على قوانا الذاتية , واعتمادا على الله وحده . ولا حول ولا قوة إلا بالله .