الإعلام والأقلام والثورة

د. عبد الإله المالكي

الإعلام والأقلام والثورة

د. عبد الإله المالكي

[email protected]

في جو الحريات التي اقتلعها الشعب بأظافره الدامية ونحوره المخضبة دما , يجب إطلاق حركة وعي كبيرة عن طريق الإعلام النزيه والعاقل , والأقلام الواعية لتوعية الشعوب بكيفية استثمار هذه الحرية , وهذه من أهم الأعمال التي تتزامن مع إطلاق الحريات العامة , وهذا عمل صعب يجب بذل الجهد فيه لان الإعلام تمركز وربض وراء أستاره أعداء الإنسانية بمشروعهم الإفسادي لصناعة عقول المشرفين عليه حتى غدا جُلُهُ غارقا إما في مخططاتهم السياسية يبنى ليدمر، ويحمى ليتلف، ويصلح ليفسد أدواته  "المجاراة والتلميع والنفاق". وأما في فلك التطرف والانغلاق بذريعة نشر الأخلاق فينفر ويعسر ويضيق ويفرق حائدا عن الأصل , وتائها في الفروع، وأما في مستنقع الفساد يثبت الرذائل بسحق الفضائل تحت عنوانات الترفيه والفن والإبداع، وإما في مستنقع الإلهاء والتهميش والتخدير والتغييب لحماية مخططات التدمير المجتمعي من غضبة الشعوب تحت غطاء الرياضة للجميع , وهو كلام حق يراد منه باطلا.. ! لأن عملية إلهاء الشعوب وتهميشها وإفقارها واستبدال الوقت بالفراغ فلأهمية للوقت أبدأ ..! وهذا الذي نعيش فيه مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لأعداء الإنسانية , لان الفراغ الوقتي لهذا الكم الهائل من الناس المحرومين والمحتاجين يعكر صفوة الساحة الأمنية التي يسيطرون عليها ومن خلالها يسيطرون على الشعوب , ولذلك تجد في مخططات البنك الدولي التي يمليها على الدول المقهورة التركيز على مسألة البيروقراطية لتسيير الإعمال الإدارية بإعداد هائلة تفوق ما هو مطلوب بثلاثة إضعاف تحت شعار القضاء على البطالة .

والحقيقية : هو سجن كبير للطاقات والمقدرات , تستبدل فيه أسرة السجن بعدد من المكاتب والكراسي , ليقضي فيه السجين – سجين البيروقراطية- أكثر من نصف الوقت المعاش وبالتالي الحيلولة دون دخول هذا الكم الهائل في عملية الإنتاج التي تربك مخططات الهيمنة الاقتصادية على الأقوات والمكونات الأساسية للشعوب .

وإما الوقوع في فخ (حرية الكلمة) بفضح ممارسات الحكام لتوسيع الهوة بينهم وبين شعوبهم حتى يستفرد بهم الأعداء، ويدفعهم هذا الانفصال عن الشعوب إلى زيادة القهر والتغول عليهم لكي يأمنوا انعتاقها وتكسير أغلالها كذلك يدمر الإعلام بالخبر والصورة المنتقاه معنويات الشعوب المهزومة ذاتيا فيعمق جرح هذا الانهزام , وأن التدمير المعنوي للذات الإنسانية , أشد وأنكي وأضر من تأثير القنابل والصواريخ التي صبها الغرب على المسلمين بملايين الأطنان في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان وغيرها .

أضف إلى ذلك ما يبث من برامج الإرهاب والترهيب باستعراض القوة المدمرة بطريقة غير مباشرة تحت غطاء برامج يفهم منها أنها تبث الوعي وتفضح أساليب العدو وقوته وجبروته ، ناهيك عن الخدمات الجليلة التي يقوم بها لصالح مشروع التطبيع مع العدو الصهيوني والذي حُشد له كل العالم لدعمه وتطويره وإدامة أدواته وأسلحته الناعمة في التطبيع والإغراء بتقليد حياة وحضارة الآخرين واتهام حضارتنا بالتخلف والركود ...!

لان هذا السلاح يعد من أهم الركائز التي تمكنهم من بناء إسرائيل الكبرى الحلم الذي يسعى لتحقيقه جميع اليهود والنصارى المتصهينيين , والذي استغرق العمل الدؤوب لمحاولة تحقيقه قرونا عدة , وقد أضحى سرابا عندما استفاقت الشعوب من غيبوبتها , ولذلك كان الإعلام من أهم الآليات المعينة على هذا البناء , الأمر الذي دعاهم إلى السيطرة الكاملة عليه مباشرة وعن طريق الاختراق والتحكم عن بعد بكيفية دقيقة المعالم والخطط بشكل يجعل المنفذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا بما يلبس عليهم من الدسم الذي يخفي تحته السم الزعاف وها هو نص مخطط المشروع الإفسادي بالحرف الواحد يقول " لكي نبعد العوام عن أن تكتشف أي خط عمل جديد، سنلهيها بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومزجيات ملء الفراغ والمجامع العامة وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف داعين الناس إلى الدخول في مسابقات شتى من كل نوع، كالفن والرياضة، وما إليهما، وهذه المتع الجديدة ستشغل أذهانهم وتذهلهم حتما عن التفكير في المسائل التي ستضعهم في مواجهتنا إذا انشغلوا بها"

 وهو ما نراه الآن مطبقا بحذافيره في برامج وسائل الإعلام التي تشرف على جميعها هيئات التخطيط الممتطية لظهر الغرب إشرافا كاملاً إما بصورة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة أو بالاختراق وسوى ذلك  من الوسائل التي برعت في إخفائها بحكم دقة التخطيط وطول التجربة وقد جاء في البند الثاني لهذا المخطط ما نصه " بين يدي الدول اليوم قوة عظيمة هي التي تصنع أفكار الناس وتوجهها ألا وهى الصحافة وان حرية الكلام قد ولدت مع الصحافة غير أن حكومات الأميين لم تعرف كيف تسخر هذه القوة فسقطت في أيدينا فمن خلال الصحافة حزنا سلطة توجيه البشر وقوة التأثير عليهم ونحن في الظل وخلف الستار".

الاستثناء والواجب

ونستثنى هنا كل إعلام حر ونزيه وكل قلم مخلص وهم قليلون، فهؤلاء القلة المخلصة هم المعول عليهم في التكاثر وإعادة بناء هيكلة المنظومة الإعلامية ببروز بدائل سليمة الأسس والمناهج للمساعدة على نشر وعي مرحلة التحرر وثقافة التنمية الحضارية بمفهومها الشامل وثقافة الحماية لان المرحلة دقيقة ويجب التعامل معها بحكمة بالغة وإلا سوف يكون الانعتاق وهمياً وتطول مدة الهيمنة على الشعوب بطرق جديدة تبدو حضارية بـِـطـُـعْـمٍ سلسٍ يسهل ابتلاعه كما ابتلعت الشعوب من قبل طـُـعـْـمَ الاستقلال ورقصت فوق أمواج تصفية الاستعمار، فخابت آمالها وتبخرت أحلامها وهذه هي فرصة من أعظم الفرص لاكتمال الانعتاق التام وبناء أسس الاستقلال الحقيقي الذي سيكون حجر الأساس لاستقلال شعوب العالم بما فيها الشعوب الغربية الخيرة في عموم توجهاتها الذاتية والمأسورة بطريقة تبدو حضارية في سجون الشراذم الضالة المعروفة والتي تقودها إلى الهاوية وهى لا تدري...!

 وقد لعب الإعلام الممنهج دورا مهما في عملية أسرها واختراق عقلها وتوجيه مسارها , وهي عند العقلاء ليست أفضل حالا من شعوبنا المقهورة بالاستبداد الهمجي. وخوفنا الشديد هو أن يُلتف على ثورة الشعوب ويُغير الغرب آليات حكمه إلى استبداد بلا رائحة ولا طعم ملفوف في قوالب حضارية كما هو حاله الآن مع شعوبه المأسورة والتي نتوهم نحن أنها حرة نتيجة الخلل الذي أحدثه الاختراق المعلوماتى فى عقولنا.

هذه رسالة مختصرة أرسلها إلى عقول المخططين لإستراتيجية مرحلة التحرر والانعتاق....

التنبيه

ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أنبه أصحاب الاديولوجيات إلى أن التلويح بالشعارات العاطفية والثورية الجوفاء والخالية من الخطط العملية لحل الإشكالات والمآزق التي تعصف بالمجتمع وتعوق تقدمة الحضاري هذه الإشكالات ليست فقط مختزنة في تحسين الوضع الاجتماعي وإطلاق الحريات فهنالك آليات أساسية مساعدة على النهوض العام  الذي لن يتم إلا إذا وقع إعادة بناء منظوماتها حيث كانت هذه الآليات محلا لتنفيذ المخططات التدميرية الغربية المعيقة لنهضة الشعوب وهى مسالة الهوية العربية الإسلامية و المنظومة الثقافية والإعلامية ومنظومة التعليم وهذا المثلث المتحكم في الهزيمة والنصر لمبادئ الثورة سوف يشهد صراعا سلميا أكثر حدة من الصراع السياسي , وبالإمكان تجنب هذا الصراع المعيب بتخلي أصحاب الاديولوجيات عن مواقعهم الحزبية والفئوية والانخراط في المشروع الإصلاحي للشعب التونسي المسلم من مواقع خبراتهم، وعليهم أن ينتبهوا ويفتحوا أعينهم وعقولهم ليتيقنوا أن عملية التغريب التي كُرست على الشعب منذ عقود من الزمن لم تؤثر في جوهر إسلامه وإنما غيرت بعض القشور , وسترجع المياه إلى ينابيعها الأصلية لتخرج صافية زلالا في ظرف وجيز ولذلك فإن مراهنة الفئة القليلة جدا على الاستمرار في طمس هوية الشعب المسلم هي خاسرة ولم يعد لها مكان في تونس لا سيما وأن هذا الشعب بدا يستفيق من غيبوبته وسوف يعرف معرفة اليقين ماهية من يقفون وراء هذه الأطروحات , ولم تعد تنفع الآن قضية الاستيلاء على المواقع والفضاءات  للتأثير في الانتخابات وفي المسار العام , فهذه آليات كانت نافعة في موازنات النظم الاستبدادية إما الآن فتونس أصبحت بيضاء ناصعة ليلها كنهارها تظهر فيها بجلاء كل نقطة سوداء مهما صغر حجمها وقل ضررها.

ونحن نستغرب من غياب هذه الحقائق عن عقول (فرسان الحركة الثقافية) وخاصة منهم أزلام النظام الإجرامي الاستبدادي الذين يُعُدُّهم القانون مشاركين مشاركة فعلية في كل الجرائم التي ارتكبها (بن علي ) وهم الآن يحاولون إعادة الانتشار مستغلين وجودهم في الأماكن الخلفية لدفة الحكم المؤقت ، كيف يغيب عنهم أن في كل بيت تونسي شاب واعٍ من شباب الثورة، فعلى ماذا يراهنون؟! سؤال يحيرني وليس له من جواب...! إلا النداء الذي قدمته في مقال سابق إلى القوى الاستعمارية الغربية بأن يكفوا أيديهم عن الثورة التونسية في بدايتها و(مشوارها) فنفسها طويل...