يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي

يخرج الحي من الميت

ويخرج الميت من الحي

الشيخ نور الدين قره علي

في ليالي منى من هذا الموسم في الحج ، ومن خلال الندوات التي تجري في ساعاتها المباركة ، وقفت سيدة في مقتبل عمرها ، واستأذنت في إبداء مشاعرها حيث كنا نتداول ذلك ، وذكرت هذه السيدة أنه كانت تمر مواسم الحج عليها في السنوات السابقة فتلسع شيئا من أحاسيسها ومشاعرها ، ولكن سرعان ما تصرف ذلك باعتذارات تحضرها سراعا ، مثل انشغالها بولد ، أو تعب يعتريها ، وامثال ذلك ،

ثم قالت : حتى جاء هذا الموسم ، ولكنه جاء على غير الحال الذي كانت تمر به المواسم السابقة ، جاء هذا الموسم وصور الدماء في سورية لا تفارق خيالها كيفما تحركت ، ودوي القنابل تهدم بيوت أهلها ومواطنيها تصك مسامعها أينما وجدت  ، واخبار الشهداء من شباب الثورة يُقطفون من حدائق أسرهم ورودا لم تنفتح بعد على الوجود ، ولا زالت أكماما في بساتين الوطن ، أخبار هؤلاء لا تنقطع عنها في ليلها ونهارها ،

وتذكرت السيدة كل ما تحس به من آثار هذه النكبة المتواصلة ، وقالت بعد ذلك : فدفعني هذا كله إلى أن اتحرك في الاتجاه الصحيح ، وأن انضم إلى المشاركة الفعلية والوجدانية مع أبناء وطني في ثورتهم المباركة هذه ، التي يقدمون فيها أغلى التضحيات لنيل حريتهم وكرامتهم ، وكما يتركون ويفارقون الأهل والأولاد ويبذلون الروح والمال ، فلا مجال للاعتذار بعد الآن ،

وقررت أن تبدأ الحياة هذه بأداء فريضة الحج ، لترفع صوتها حول البيت الحرام ، وفي السعي ، وفي وقفتها في عرفات ، متضرعة إلى البارئ أن يكون مع وطنها وأبنائها ، وأن يغفر لها ، ويجندها لنصرة دينه وشريعته ،

إنني وحتى هذه اللحظة لا زلت في غاية التأثر من كلامها ، وهي التي لم تكن بهذا الحال قبل هذه الثورة ، بل كانت كبقية اقرانها في عالمها الدنيوي ، تعيش ترفها وعاداتها في إطار المظاهر ضمن مقاييس عادات معينة ، لا ترى في الدين إلا إطارا يمكن الالتفات إليه في مناسبات الأحزان والأفراح ، يمكن أن يأخذ من هؤلاء التفاتة مشاركة طقسية بعيدة عن كل مضامين هذا الدين ،

وهذا يؤكد حقيقة أوضحتها هذه الثورة بكل تفاعلاتها ، بأن هذا الدين العظيم عندما يترجم بهذه التضحيات ويتحقق في أرض الواقع لهذه البطولات ويحدد المسار الإنساني في هذا الاتجاه لنيل المكرمات ، ويرفض أتباعه الخنوع أو الخضوع للباطل بكل أشكاله ، ويؤثر الموت على حياة المذلة ،

إن هذا الدين إذا ترجم كل هذا فإنه سينفخ هذه الروح في أولئك الذين حُنطوا بالتقاليد وأسروا بالعادات وجمدت إنسانيتهم في الشكليات ، فيعودون خلقا جديدا ويدركون في أعماقهم معنى الحياة ،

إن ما يحدث اليوم في بلادنا من امجاد لم يعرف التاريخ الحديث لها مثيلا ، حقق في أرض الواقع وفي زمن تتطاول أيامه بأثقال تضحياتها ، ويتقاصر امتداده ببشائر نهضتها ، هو الذي هزّ هذه السيدة وبعثها من رقادها وأيقظها من غفلتها ، حيث أصغت للموعظة التي مثلتها دماء الشهداء والفتيات والأطفال ،     وقرأت الآية القرآنية التي تتلوها مواكب الأحرار وهي تسير على الجمر من النار وتجرح الصخور بثبات أقدامها وعزائمها ،

هذا هو الذي يبث الحياة في أمة يطول رقادها ، أو في إنسان تحنطه أهواؤه عن قضايا أمته ، والعجب أن الآية القرآنية ذكرت في المقابل أن هناك من يخرج من الحياة إلى الموت ، وقد يكون بالسبب نفسه أحيانا أو بغير ذلك مما يشابهه من الأسباب ،

فهذه الثورة كما رأينا ونرى ، كما أخرجت أجيالا من موت المذلة إلى حياة الشهادة ، رأينا أيضا انها قد كانت فتنة للذين في قلوبهم مرض ، تخرجهم مما يبقى لهم من أنفاس البقاء أحيانا إلى ساحة الموت خوفا أو رعبا ، يدفع بهم إلى الخروج من مراسم حياتهم على منابرهم ، أو يستل الأقلام التي تظهر نوعا من الحياة في كتاباتهم ، أو تقلعهم من كراسيّ وعظهم وهو يحركون الشفاه ببعض نصائحهم ،

نرى كيف عملت هذه الثورة المجيدة على إخراجهم من جباب معارفهم إلى أكفان مماراتهم ونفاقهم ، هذا هو الخروج من الحياة التي مارسوا مظاهرها ، وتحركوا بأنفاسها زمنا ، ليصيروا بعد ذلك أمواتا تنطفئ بموتهم جذوة تأثيرهم ، وتبدد بها آثار كلامهم ، وتحرق ما يتبقى من مصنفاتهم وتأليفاتهم ،

ذكرت كل هذا في منى ولم أجد إلا ولساني ينطق ، سبحانك " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي "، اللهم عفوك ، اللهم غفرانك ، اللهم أحيي قلوبنا وأحسن عاقبتنا وتوفنا مسلمين ،

ما أحوجنا اليوم والأحداث تتمخض عن نصر قريب بإذن الله ، وتحول هائل يتجه نحو الرشد بفضل الله ، نقول هذا تفاؤلا أمام أصوات المتشائمين المرجفين المهددين بويل وثبور إذا ما تغير النظام  ، وإذا ما أذن الفجر بزوال ليل دامس طال خمسين عاما ، أهلك الحرث والنسل ، وغيب الأمة عن حضورها العالمي وتأثيرها الإنساني ،

نقول إن الفجر سيطل مهما كان الثمن بزوال هذا النظام العسكري الغاشم ، وسيزول الوهم من رؤوس الكثيرين الذين قتلتهم حكم الهمود والموت وهم يرددون في فرش استرخائهم لا بديل ، ومن هو البديل ، وليس في الإمكان أفضل مما كان ، بتأويلات إرجائية تؤجل بعثهم من الرقاد ،

إننا ننادي ونقول لمن يعيشون في برزخ المواقف هامدين جامدين ،  نقول هيا تداركوا أمركم واستجيبوا لنداء ربكم برفض الظلم الذي حلّ بكم ، هيا ارتقوا على درجات العمل الإيجابي خطوة خطوة ، إلى ان تجدوا أنفسكم بعد أن فقدتم كيانكم نصف قرن من الزمان ، هيا انضموا لمواكب الأنوار التي ستضيء مشاعلها مستقبل وجودكم ، واخرجوا من موت ترف ، أو هلاك قرف ، وحطموا قيود التخم والتعفن ،    فقد آن الأوان للخروج من القبور إلى ساحة البعث والنشور ، واملأوا صدوركم من هواء الحرية ونسائم الكرامة ، ورددوا .. لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير