تونس الشرارة.. وتونس الريادة والوفاء

د. عيدة المطلق قناة

تونس الشرارة.. وتونس الريادة والوفاء

د. عيدة المطلق قناة

كما كان الرابع عشر من يناير 2011 فاتحة الربيع  العربي.. والشرارة الأولى للحرية والديمقراطية.. فإن يوم الثالث والعشرين من أكتوبر من ذات العام كان يوماً تاريخياً واحتفاليا بالثورة التونسية ، انطلقت فيه "صافرة" التغيير .. ففي هذا اليوم انتخب التونسيون مجلسهم التأسيسي "أول مؤسسة ديمقراطية بعد الثورة، وأعلى هيئة سيادية في الدولة " ليؤدي مهمات جليلة لعل أهمها "صياغة دستور جديد للبلاد يحدد النظام السياسي وشكل الدولة ومؤسساتها وعناصر الشرعية فيها.. وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وتكريس قيم الثورة ومبادئها .. لقد كانت الانتخابات تاريخية على غير صعيد .. فهي أول انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وتعددية تجري في تونس منذ الاستقلال .. وأول انتخابات تجري في العالم العربي دون سلطة وزارة الداخلية ..

أول انتخابات تتميز بارتفاع معدلات المشاركة - في جميع مراحلها - وبنسب  فاقت نظيراتها في أعرق الديمقراطيات في العالم ..  لقد جرت هذه الانتخابات وفق نظام القائمة النسبية ( وعلى قاعدة التناصف بين الرجال والنساء) .. فتقدم للتنافس على  المقاعد الـ (217) للمجلس التأسيسي ( الأول بعد الثورة ) أكثر من عشرة آلاف مرشح على قوائم  زاد عددها عن (1519) قائمة (منها 830 قائمة حزبية و655 مستقلة  و34 ائتلافية) .. وكما كان الإقبال على الترشح مرتفعاً كذلك جاء الإقبال على التصويت مرتفعاً كذلك إذ زادت نسبة الاقتراع على  (90 % ) من المسجلين في سجلات الناخبين..  كما ارتفع معها منسوب النزاهة والشفافية بإجماع شهادات آلاف المراقبين الدوليين والمحليين !!

وبالمحصلة جاءت النتائج مبهرة في دلالاتها فقد جاءت هذه الانتخابات بتغييرات مذهلة  في المشهد السياسي التونسي كان أهمها   إعلان الطلاق البائن مع العهد البائد.. فقد أسقط التونسيون  - دفعة واحدة - جملة من الفزاعات لعل أهمها :

فزاعتي الإسلاميين والمعارضة: إذ أكدت اتجاهات التصويت  انحياز التونسيين للإسلاميين.. وللهوية الحضارية لتونس .. وكان المعيار الأهم في هذه الانتخابات لـ"الشرعية النضالية"  .. وبحسب هذا المعيار انحاز التونسيون لقوى المعارضة الجذرية المناضلة ضد الاستبداد والفساد من (إسلاميين وديمقراطيين وعلمانيين) .. فكافأوها بحسب تاريخها النضالي ضد نظام الإقصاء والاستبداد والفساد.. وبحسب الضرر الذي لحق بها من القمع المنهجي ومن أشكال الظلم والاضطهاد والنفي .. فمنحوا حركة النهضة  (41% ) من أصواتهم التي أهلتها لاحتلال ( 89 مقعداً) في المجلس التأسيسي .. كما منحوا 35 % من أصواتهم بواقع (75 مقعداً) للقوى الديمقراطية التي لم تكن على عداوة مع الهوية الحضارية لتونس،  ولم تناصب حركة النهضة العداء ؛ فحلت قوائم "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" ثانياً وحصدت تسعة وعشرين مقعداً .. وهذا الحزب (علماني ديمقراطي ) تميز بتاريخه النضالي وفي معارضته ونقده السافر للنظام السابق، كما وقع عليه الظلم والاضطهاد .. كما تميز بانفتاحه على حزب النهضة والأحزاب الإسلامية ، فضلا عن نزعته العروبية.. فشدّد في برنامجه السياسي على ضرورة التمسك بالهوية العربية والإسلامية كحامل حضاريّ لتونس .. 

و كذلك الحال مع "تيار العريضة الشعبية" التي تبنت خطاباً توفيقياً إسلاميا وتقدمياً، والاقتراب من التيار "الإسلامي العروبي" مع التركيز في برنامجها الانتخابي على الهوية العربية الإسلامية فحلت ثالثاً وحصدت ست وعشرين مقعداً

وأما بالنسبة لحزب "التّكتّل من أجل العمل والحرّيات".. الذي عرف بنضاله في الدفاع عن حقوق الإنسان في تونس وموقفه الرافض للديكتاتورية.. فهو رغم علمانيته إلا أنه منفتح على التيارين القومي والإسلامي ..وركز في برنامجه على ضرورة بناء ائتلاف وطنيّ يضمّ مختلف القوى السّياسيّة.. فحل رابعا وحصد عشرين مقعداً

أما باقي النتائج فقد جاءت صادمة للأحزاب العلمانية التي ركزت في حملتها على إقصاء الإسلاميين والتخويف منهم .. فكانت النتيجة ثلاث وخمسين مقعداً توزعت على ثلاث وعشرين قائمة منها ستة عشر مقعداً للحزب "الديمقراطي التقدمي"  ، وعشرة مقاعد للقطب الديمقراطي الحداثي وحزب المبادرة بواقع خمسة مقاعد لكل منهما

"فزاعة الحزبية" : لقد  أسقط التونسيون هذه الفزاعة وبقسوة فلم تنل  قوائم المستقلين (البالغ عددها حوالي 655 قائمة ) أي وزن تصويتي يؤهلها لحصد بعض المقاعد في المجلس التأسيسي .

 فزاعة تزوير الانتخابات لدفع الناس لمقاطعة الانتخابات : فقد سقطت هذه الفزاعة وبشهادة وإجماع آلاف المراقبين الدوليين والمحليين على نزاهتها وشفافيتها وصدقيتها..

فزاعة عدم جاهزية الشعوب العربية للديمقراطية :

لقد أبطلت – هذه الانتخابات - أسطورة جرى ترويجها وتعميمها على كامل الأمة – سواء بحسن أو بسوء نية – مفادها "أن شعوب الأمة العربية غير مستعدة للديمقراطية كما أنها غير معنية بالشأن العام أو المشاركة السياسة .. فهذه الشعوب تركت مقاليد أمورها لحفنة من الحكام يتسلطون على مقدراتهم كما يشاءون".. ويدللون على هذه الأسطورة بانكماش الحالة الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني ..

فجاءت مشاركة الشعب التونسي المرتفعة - ترشيحا وتصويتاً وشفافية ونزاهة - مفاجئة وصادمة لمروجي هذه الأساطير .. إذ أكدت توق شعوب هذه الأمة للمشاركة والاختيار  وأشواقها للديمقراطية واستعدادها للانخراط في عملياتها على كافة الصعد والمستويات  مهما بلغت الصعوبات والتحديات ..على أن هذه المشاركة تظل مشروطة بتوافر مناخات الحرية والشفافية والنزاهة ..!!

لقد استعاد التونسيون عبر  صناديق الانتخاب "هويتهم الحضارية الإسلامية" ..  وأكدوا بأن سنوات العلمنة الإلحادية بكل عنفها وقمعيتها وما مورس خلالها من إقصاء واستئصال وتجفيف منابع .. لم تفلح في إبعادهم عن دينهم ولا في استئصال التدين من حياتهم  .. وحين أتاحت لهم ثورتهم المجيدة الفرصة والمناخ المناسب نهضوا ليغيروا "مجرى التاريخ" (بحسب أوباما)..  وأوجدو المثال الذي يجب الاقتداء به ( بحسب أندرياس غروس/ البرلماني السويسري الذي ترأس فريق من المراقبين الأوروبيين لمتابعة سير الانتخابات التونسية ) ..

 شكّل نجاح العمليّة الانتخابيّة في تونس مدخلًا مشرّفا لعمليّة التّحوّل الدّيمقراطيّ في الوطن العربي .. إذ دشن التونسيون – في انتخاباتهم كما في ثورتهم الرائعة - ربيعاً عربياً استثنائيا.. فاستحقت هذه الانتخابات أن تكون فاتحة لائقة للزمن العربي الجديد .. زمان يحظر فيه الترهيب من أي حالة فكرية وفي مقدمتها الحالة الإسلامية ..

إن انتخابات بهذا الزهو تقتضي التوقف عند التحدي الأكبر الذي يواجه  نواب المجلس التأسيسي الجديد وفي مقدمتهم أعضاء  "حركة النهضة" بعد أن تحقق فيهم  قول الحق تبارك وتعالى {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }.. هذا التحدي يكمن في قدرتهم ومصداقيتهم في تكريس التوافق والانفتاح بين مختلف التيارات السياسية في الساحة التونسية .. وإدارة مرحلة - بل معركة – اجتثاث الفساد.. وبناء الدولة على قواعد العدل والمساواة والنزاهة.. دولة المواطنة والتعددية واحترام حقوق الإنسان.. دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية.. دولة الحرية والكرامة لجميع مواطنيها !!