رحلة صورية إلى سورية

صورية مروشي

صورية في سورية !!

بدت لي هذه الجملة غريبة رغم تناغم كلماتها و تطابق اسمي مع اسم الحبيبة سورية التي تمنيت دوما زيارتها ، فماأكثر الأمنيات التي – و لفرط البعد عن تحقيقها – تبقى أحلاما تدغدغ مشاعرنا ... لكن هاهو ذا الحلم يصبح حقيقة ،

وهاهي الأقدار تنسج أسبابها كي تطير بي إلى بلد سمعنا عنه فأحببناه وعرفناه من خلال أجهزة التلفزيون فتعلقت قلوبنا به .

في أوائل شهر مارس من عام 2011 شددت الرحال من الجزائر العاصمة إلى دمشق . تركت الربيع قد حل ضيفا بأرضنا من خلال طيور اللقلاق التي حطت باكرا هذا العام معلنة بقدومها عن مقدم هذا الفصل البديع ، ثم البساط الأخضر الذي بدأ يدثر حقولنا ومزارعنا مع نسمة الربيع الحالمة التي أخذت تطرد رياح الشتاء الباردة .

ظننت أني بذهابي إلى دمشق سأجد الحرارة في استقبالي ،فقد اعتقدتها بلادا حارة لا شتاء فيها ، لكننا – وبعد ساعات من الطيران – نزلنا لنجد الأمطار في استقبالنا ومعها كان برد كبردنا يلفح وجوهنا و تنكمش له أجسادنا .إذن جو دمشق يشبه جونا و ليس هو كما اعتقدته ، ثم إننا وجدنا نفس علامات الربيع قد زينت ريف دمشق و غوطتها ... فكان هذا أول خطأ صححته في مخيلتي و أول شيء أدركته بنزولي بأرض الشام .

سلام من صبا بردى أرق            و دمع لا يكفكف يا دمشق

من يزور دمشق ، و يمر بالقرب من نهر بردى و لا يتذكر هذا البيت الشعري ؟ ثم من يصل دمشق و لا يشم رائحة الأقصى ؟ إذ يكفينا – نحن سكان المغرب العربي – أن نتواجد بأرض الشام كي نشعر بأننا أقرب ما نكون إلى أرض الرسالات ، فإذا كثير من الأنبياء و الرسل والصحابة والأمراء والسلاطين

والعلماء والحكماء ممن عرفتهم هذه الأرض الطيبة أمامنا نلمس ما تركوه من آثار لا يزال كثير منها باقيا ، وأكثرمنها قصصهم التي وصلتنا قد دبت الحياة فيها من جديد .

ربما لو ذهبت إلى الفندق مباشرة كأي زائر يزور مدينة لأول مرة ولا يعرف أحدا فيها لاختلف ما كتبته هنا ، لكن كان من فضل الله تعالى علي أن عرفني بفتاة سورية حضرنا معا ملتقى معماري بقسنطينة العريقة وأقمنا بغرفة واحدة بالفندق ، سرعان ما تآلفت قلوبنا فكأننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن بعيد .وهكذا هي الأرواح المتشابهة في طبيعتها تتآلف بسرعة مثلما تتنافر الأرواح المختلفة بسرعة أيضا ... سنة الله في خلقه ... لم أكن أعلم - وأواصر صداقتنا تنسج أولى خيوطها - أن هذه الفتاة الطيبة ستكون سببا لزيارتي سوريا لأول مرة في حياتي، فكانت هي ووالدها في استقبالي عندما حططت بمطار دمشق الدولي وكانت الوجهة بيتهم الذي يقع في ريف دمشق على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة. وجدنا الوالدة قد أعدت لنا فطورا تمنيت لحظتها، وأنا ألتهمه بعيني قبل أن يتذوقه لساني ، لوأخرج آلة التصوير التي في حقيبتي وآخذ صورة عن هذا النموذج من الفطور السوري الذي طالما رأينا مجسدا في الأفلام والمسلسلات وهاهو الآن أمامي ، لكنني استحييت أن أفعل ذلك وأنا الضيفة الغريبة التي جاءت من بلاد بعيدة ولما تعرف العائلة عنها شيئا بعد .

ومثلما تآلفت روحي سريعا مع الابنة فقد تم الأمر نفسه مع العائلة ، فكما يقولون هذا الشبل من ذاك الأسد ، فما الفتاة إلا صورة عن أهلها في طيبتهم وكرمهم

ونبل أخلاقهم ... وأنا أحظى منهم بدفء عائلي بدت لي الفنادق الفخمة بغرفها الباردة مجرد قبور للعواطف البشرية والمشاعر الإنسانية التي لا يمكن أن تحيا إلا في ظل دفء عائلي تجمعهم قلوبا واحدة تقلق وتسأل وتعاتب في ود أحد أفرادها إن غاب أو تأخر ، وتظللهم مشاعرلا يمكن أن يقدرها إلا من افتقدها أو فقدها للأبد .ثم إني تساءلت و أنا أحظى برفقتهم بهذا الدفء العائلي و أشعر

 - منذ وصولي عندهم - أنني فرد منهم : ما الذي يدفعهم لذلك؟ ما سبب هذا الكرم والطيبة ورحابة الصدر وبشاشة الوجه والتي تدل كلها على سعادتهم بوجودي بينهم ؟ ما أسهل الجواب حين تكون صافي السريرة ، صادق النفس ،

وطيبا مثلهم : إنه الإسلام ... الدين العظيم الذي من الله به علينا جميعا ... الذي علمنا أن نفعل الكثير من الأمور الرائعة في حياتنا إيمانا بالله و رسوله  ، منها إكرام الضيف...أن نفعلها بكل الحب والصدق و التفاني وربما بكثير من الصبر أيضا ، ولا ننتظر جزاء أومقابلا لأننا نرجو الجزاء من رب العالمين وطمعا في جنة عرضها السماوات والأرض .وبالطبع عندما نقابل بكرم لا مشروط فإن كلمات الشكر تعجزنا فلا نملك إلا أن ندعو لهم بما يحقق أمانيهم الغالية في الدنيا والآخرة ، فإذا رفعنا دعواتنا لرب العالمين مخلصين أيقنا بالإجابة و لو بعد حين !

*****

لأننا نوقن أن أيام بقائنا بدمشق معدودة وأنها ستمر في لمح البصر فقد حاولنا استغلال كل لحظة ، وما أكثر ما ينتظرنا مما لابد من زيارته ...وكانت البداية من حيث كانت بداية المدينة ... دمشق القديمة التي لا يزال السوريحضنها كي يحميها من تقلبات الزمان وتغير الأحوال ، تاركا لبواباتها العتيقة أمر السماح لكل

الزائرين والفضوليين ، والمتعلقين بالماضي والدارسين للتاريخ و الباحثين في مختلف مجالات العمارة والتراث العمراني ، والذين يحنون لزمن العزة و البطولات ... تسمح لكل هؤلاء ، ولغيرهم أيضا ، بالدخول والتجول عبرجنبات المدينة القديمة لدمشق و التي هي قلبها النابض بالحياة والذي يمد الدماء لسوريا الحديثة كي تستمربالحياة .

الجامع الأموي يقف مهيبا يحدث العالم عن حضارة عربية إسلامية ممتدة الجـذور ، قوية لا يمكنها أن تموت ، شامخة في عزة و كبرياء ...ولا يمكن أن يختلف اثنان في الانبهاربهذا المبنى الرائع . ويكفي أن يجلس أحدنا في باحته يمتع ناظريه بعمارته وزخارفه كي يسافر بذهنه بعيدا عبر الزمان فيستعيد التاريخ المشرق للإسلام وما أنجزه المسلمون في كل مجالات الحياة ناهيك عن حضارة الهندسة والبناء والعمران .

وكيف لنا أن نعدد باقي مساجد دمشق وكنائسها ومدارسها وأسواقها وحماماتها وقصورها ، ثم حاراتها القديمة و بيوتها الدمشقية الرائعة التي تحول أغلبها إلى مطاعم و فنادق حديثة فاخرة على قدر ما تمتع الزوار بخدماتها على قدر مايتأسف المقدر لقداسة التراث على التحولات الجبرية التي شوهت كل ما كان يجب أن يظل على حاله شاهدا على حلاوة وعظمة الزمن الخلي في عصر قل فيه الشواهد وكثر فيه اللئام والناكرون .

كل شيء في دمشق حلو وجميل ، بل ساحر ، حرك شغاف قلبي وجعلني أتعلق بهذه المدينة التي يدل كل شيء فيها على حضارة عريقة حتى في نمط غذائها المميز وعاداتها الجميلة وعلاقات أفرادها الراقية ولهجتهم المحببة التي تنفد إلى القلب مباشرة في رقتها وعذوبتها والحنان المتدفق من كلماتها فكأنها موسيقى ساحرة تدغدغ الأذن ...ثم إن لأهلها علما و دينا و فقها هي سبب ما يتميزون به من عراقة ومايعرفون به من رقي أخلاقي تظل هي سمة كل سوري  لا يمكنها أن تنسلخ عنه .

عندما عدت إلى بلدي ، حاولت أن أنقل بعض ما تعلمته من رحلتي إلى هناك ، أن أنتحل بعض سماتهم وأقلد بعض ما استهواني عندهم ، لكنني فشلت ... فلكل أمة حضارة خاصة بها ومميزات تميزها عن غيرها و سمات تتناقلها الأجيال تلو الأجيال و يتوارثونها كالجينات التي تورث من الآباء للأبناء ...واكتشفت أن ما نراه اليوم في أي أمة من الأمم أو شعب من الشعوب ليس وليد اليوم أو الأمس ، بل هو بناء عظيم بدأ منذ الأزل و تكون عبر عشرات السنين بعد أن مر بالكثير من الأحداث أصقلته ، و ربما دمرته ليعاد بناؤه من جديد مرات عديدة ، لكن فـي كل الأحوال ، كل ما نراه اليوم هو نتاج لكم هائل من الأحداث و العلوم

والمعارف والحيوات والتجارب والخبرات والحب والحرب ... قديمة قدم التاريخ ولا يمكن انتحاله أو تقليده أو نقله . فحضارة كل أمة ملك لها وحدها وما تركه التاريخ على أرضها أو في ذهن شعوبها فهو لها وحدها لا يمكن أن يقاسمها فيه أحد .

وهل كنت لأكتشف ذلك كله لو أقمت في فندق كئيب كأي مسافر غريب ؟

إقامتي مع عائلة سورية كريمة ومشاركتي لهم حياتهم عدة أيام جعلني أقف على هذه الحقائق وأقدر حقا الحياة السورية التي مست شغاف قلبي .وكم هي كثيرة الأمور التي تقف الكلمات عاجزة عن كتابتها والتعبير عنها لفرط تأثرنا بـها

و تأثيرها علينا ... وتبقى أقدس المشاعر وأعمقها بعيدة عن متناول القلم لا يعلمها إلا العليم الخبير .

أدركت ، بعد عودتي ، أنني أغرمت بسوريا و أهلها ، وأن سفرا آخر لها سيكون من دواعي سروري و سعادتي حقا ... فهنيئا لأهلها بها وطوبى لهم بالإقامة لهم على ترابها .