سلوكيات

نعمان فيصل

[email protected]

وأنا أكتب تلك السطور في مفكرتي، أعطي مثالاً على حادثة واحدة من حوادث الإهمال والتقصير الحكومي، التي عشتها لدى سلطة الأراضي في غزة، بعد الانقسام الذي وقع عام 2007، وإن كان الكلام في هذا الموضوع يتعب البال ويزعج الخاطر، ويحمل في طياته قدراً ملحوظاً من الحقيقة المرة.

تقدمت في الأول من حزيران 2014 بمعاملة تسجيل قطعة أرض تخص أحد أفراد أسرتي، لدى سلطة الأراضي في غزة. وكان العاملون فيها يتخبطون في عملهم، ولا يعرفون لهم نهجاً يسيرون عليه، وهو نهج رأيت فيه أنه بعيد جداً عن قواعد الكفاءة والإنجاز الجيد واحترام المؤسسات، خاصة بعد مضي أكثر من ستة شهور على تقديم المعاملة دون إنجاز، وبدأ القلق يُساورني على مصيرها، عندما ترامى إليَّ أنباء مماطلة المهندس المسؤول، وصممت على إبلاغ رئيس سلطة الأراضي يومها الوزير/ إبراهيم رضوان، بهذا التقصير.

وبالفعل توجهت يوم الخميس 20 تشرين ثاني 2014 إلى مكتب رئيس سلطة الأراضي، وطلبت منه بكل كياسة ولباقة إنجاز المعاملة في أسرع وقت ممكن؛ غير أن الوزير قابل طلبي بالرفض الشديد، ثم تطور رفضه وتفاقم إلى تصرفات شاذة، عندما جرَّ الكرسي الذي يجلس عليه نحوي، وقال باستعلاء: (شو رأيك تجلس مكاني لإدارة شؤون سلطة الأراضي)! ولم يقف الأمر عند هذا الحد الخطير، عندما أطلق العنان لنفسه في السباب والانزلاق إلى ألفاظ نابية، مثل كلمة (أحّيني)!! وكان عملاً غير لائق لا يصدر عن (رجل عادي) فما بالك بوزير.

تألمت في نفسي لجريان هذا الكلام على لسانه، بل ذهلت مما رأيت وسمعت واستهجنته، فلم أطق صبراً، ولم أقف مكتوف اليدين أمام هذا الموقف، الذي يدلل على انعدام الكفاية وانهيار الأخلاق، واقتضت الحاجة الرد، وكان ردي عليه يتناسب مع بذاءته، وقلت له: إنَّ الذي نسيته في مجال الإدارة تحتاج إلى عمر لكي تعرفه، ومن العيب أن يقول وزير مُحترم ألفاظاً مشينة، وكنت أتوقع منك الرقة في القول، والاستجابة لمسألتي، ورعاية مصالح الناس، لكن لم تعد الأشياء هي الأشياء، ولم تعد لها المعاني نفسها. وكانت صدمة ذلك الحدث ما تزال تترسب في نفسي.

وفي المقابل، فإن استقلاليتي في عرض القضايا، تحتم عليَّ أن أذكر واقعة أخرى عشتها، كانت متزامنة مع الموقف الذي تقدم ذكره، تنم عن تواضع أحد قادة العمل الفلسطيني، علينا أن نعيها أشد الوعي، حتى يصبح حكمنا على الأشياء حكماً يقوم على الأصالة والحق، مُتجنباً الميل والهوى. تبدأ تلك الواقعة، عندما كنت أقود سيارتي، عند الساعة الرابعة تقريباً، من عصر يوم الاثنين 22 كانون أول 2014 في طريق عودتي للبيت، وكان يجلس بجواري ابني أحمد، ذو الرابعة من عمره، وكان كعادته يطل على الناس والعالم الرحب من شباك تلك السيارة، وفجأة قطعت ثلة من الرجال الشارع، أمام محطة ترزي للبترول في منطقة أنصار، فأوقفت السيارة لعبورهم، وكان هؤلاء الرجال تعلوهم المهابة، يتوسطهم رجل طويل القامة، وسيم المنظر، يرتدي ملابسه الرياضية، فدققت النظر فإذا به السيد/ إسماعيل هنية (أبو العبد)، يحيط به رجاله. لم يتوان ابني الصغير، الذي اعتاد أن يداعب الحجر والشجر بفطرته، أن يصرخ بأعلى صوته ببراءة الأطفال، أن يقول لهؤلاء الرجال (كيف حالكم)، فإذا بالسيد/ هنية يركض نحو صوت الطفل، ويمسك يده ويقبلها، ويمازحه ويثني عليه ثناء مُستطاباً، ثم لاطفنا بسماحته ولباقته، وشكرناه بحرارة. شعرت أن هذا الرجل أنيس ودود لا يعرف الغطرسة أو الغرور، يحترم جميع الناس، ولا يتكبر على أحد برغم ما له من مركز مرموق، مُستلهماً فيها أولاً وأخيراً من ضميره الحي. وهو موقف يستحق مني كل إعجاب وتقدير.

وإن كان ذلك الموقف قد خفف عني بعض ما كنت أعانيه من آلام مما حدث مع الوزير إبراهيم رضوان، إلا أن هذا لا يمنعني من التعرض لتداعيات الانقسام الفلسطيني؛ لرسم صورة حية عن الأفراد والمجتمعات والأحداث السياسية، في حقب تاريخية معينة. إذ كانت الوظائف الإدارية العليا في ظل الانقسام وقفاً على قيادات في حركات بعينها وأبنائها وحدهم يدينون لها بالولاء، حتى كادوا يشغلون جميع مناصب السلطة، ولم تكن لهم دراية مسبقة بشؤون الحكم. حيث إن خلفية الثقافة للأغلبية منهم هي أنهم إما أساتذة جامعات وأئمة مساجد، أو أطباء أو مهندسون، أي أن القاسم المشترك بينهم هو أنهم ليست لديهم ثقافة الإجماع الوطني، التي تؤهلهم لقيادة شعب كبير، ما زال يناضل للتوصل إلى جميع حقوقه.

بهذه المناسبة، حري بي القول: في ظل الأحاسيس الموجعة، والأوضاع القاسية، التي نعيشها في رحاب مدينة غزة الصابرة، فإننا في أمس الحاجة إلى رجال مسؤولين، قوامهم القلب المفتوح والباب المفتوح، يخففون من آلام المتعبين في الأرض، والأخذ بيدهم نحو مدارج الفضائل العامة. ويجب ألا ننسى قول ميكيافلي: (ليست الألقاب هي التي تكسب الناس المجد، بل الناس هم الذين يكسبون الألقاب مجداً).