نصرة فلسطين رؤية انطباعية

جمال المعاند * -إسبانيا

[email protected]

-  في مهارق البشارات التي تنتظر أوانها القدري، تتشوف النفوس المؤمنة للنصر عبر سجف الغيب ، شعورٌ يحدوهُ نور القرآن، ويعضده الهدي النـبوي الشريف، ذلك هوالحديث عن فلسطين،  فمرارة إحباطات الواقع تمذق عنـد كل مؤمن بالله سبحانه بحلاوة الآمال .

هذه السنة كانت لي مشاركة مع اللجنة الخيرية لمناصرة فلسطين في فرنسا، سبقتها مشاركات خجولة عبر كلمات في بعض المراكز الإسلامية، أو عبر الإذاعة المحلية، اعتذرت فيها لرب العزة جل شأنه عن أداء واجب لازمني فيه التقصير، معاناة تنبع من الوجدان،  ويغذيها الإقتناع العقلي، أن ما قدمته أقل بكثير من الواجب .  

ففرحي بهذا التكليف أزاح عن كاهل ضميري عبئاً، وهو الذي يؤرقه أكثر من جرح نازف في جسد الأمة، والوهن الحاصل في الجهد المبذول، أما أن تتدخل الأقدار لتملي عملاً فكرياً وجهداً دعوياً ولمدة شهر كامل، فتلك نعمة تتسق وما يعتلج في الوجدان، وتتفق مع ما يقتضيه العقل .

والأقدار الربانية تأبى أن تجيـّر في خانة التكليف المحض، فما من قدر إلا ويحمل في طياته هبات، تغذو سير المكلفين، ذلكم التكليف الذي حظيت به في العشر الأواسط من رمضان، تمثل برفقة عالم عامل انتدب للمهمة نفسها، فكانت معايشات دعوية، تحنثتُ فيها في محراب القضية الأم لكل المسلمين قضية فلسطين .

وقبل تلمس إشراقات الحظوة الربانية، لا بد من الإشارة إلى أن إتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا بعمله المدروس والدؤوب، يسفر على كر الأيام عن جهد منظم، ينم عن سعة أفق، ودربة دعوية تفرض نفسها في انجازات لمسيرة العمل الدعوي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، فهي لفتات تربوية ومعالم طريق لمن يبحث عن الإسوة العملية والقدوة الميدانية .

وانطلاقاً من بقعة العمل الذي تم، ورصداً للمحسوس من الآليات، من مدينة مرسليا قلب عمل إتحاد منظمات الإسلامية في الجنوب، الذي يشرف على ساحة عمل تمور بالأنشطة الدعوية، رأس الاتحاد  هو داعية فطري قبل أن تجمل خصاله الخبرة وتعضدها المدارسة، هو الأستاذ عبد الفتاح جبلي، كأن قيادة إتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا عجمت أعواد رجالها في الجنوب الفرنسي، فاختارت للعمل الدعوي داعية يتأسى بالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، فثمة توجيهات قولية، وأخرى فعلية يقوم بها بنفسه، وثالثة يقرها سكوتاً وإجازةً، وإن كانت دماثة أخلاقه وتربيته الإخوانية تميل للثالثة أكثر من غيرها، فطالما رقبته يلاحظ العمل أو النشاط الدعوي، فلا ينبس ببنت شفة فضلاً عن قول أو فعل .       

وقلما تناقشت معه في عمل إلا وأشار للأبعاد التربوية أو العلمية، والحديث عن سجايا داعية مرسليا الأريب يحتاج الكثير، و دفعتني تجربتي معه على مدار عام كامل، لملاحظة إقراراته أولاً، ذلكم المنحى الدعوي النادر بين الدعاة ندرة الكبريت الأحمر كما يقال، ومما تتبعتُ نظره الدعوي، عمله حول لجنة مناصرة فلسطين، فوقفت على الأتي:

أولاً اختياره لرئيس مكتب مناصرة القضية فلسطين، الأخ الأستاذ ميلود زناسني فرنسي من أصول مغاربية، لا يـرتاح ولا يدع من معه يذوق طعم الراحة، هو كتلة متحركة أشك في سكونها حتى على الفراش أثناء النوم، يدخل مكتبه في ساعات النهار الأولى، وخلال عملي معه في الشهر الفضيل، لا نعود للمكتب حتى آخر الثلث الأخير من الليل ، فجل ليالينا ندرك السحور في البيوتات فقط، أما عائلة الأخ ميلود، المكونة من زوجة وخمسة أطفال، فلله در زوجته وصبرها على مثل هذا الوضع .

ثانياً : أخ أخر من الثلاثة الذين يرافقون أي داعية يفد إلى مرسليا، هو الأخ الشاب محمد بن مختار الطويل الوهراني، شاب قلبه معلق بالعلماء مجالسة ومهاتفة، يرقب أحوالهم المعاشية، ونطقهم النفيس، وعلاوة على ذلك بحاثة من طراز لم أصادف مثله بين الدعاة من قبل، خلال ما يقارب من ثلاثة عقود حيث بدأ اهتمامي بطلبة العلم والعلماء، فقلما تذكر له موضوعاً شرعياً ولا يتحفك بمراجع تبدأ من أمهات الكتب حتى آخر ما أنتجته المطابع،  وما كتبت عنه الدرويات الإسلامية، كأن الأخ عبد الفتاح رأس الهرم الدعوي المرسيلي، دفع بالأخ محمد من حيث لا يشعر نحو مزيد من الاحتكاك بالسادة العلماء، بغية اكتساب دربة حالية وعلمية .

وثالثاً :  ثالث الثلاثة كاتب هذه السطور، فمنذ أن وطئت قدماي أرض مدينة مرسليا، واختلطت بركب دعاتها، وهو إما يكلفني بمرافقة العلماء الزائرين، أو تقديمهم في المحاضرات والندوات، ومتابعة شؤونهم .

وعودة للمنحة الربانية خلال الشهر الفضيل، حيث كان من نصيب الجنوب ودعاته ورواد مساجده، عالم فاضل وقامة باسقة شكلاً ومضموناً،  ذلكم هو الدكتور الشيخ تيسير الفتياني، مقدسي الأصل، مرابط المسكن، عمل أستاذاً جامعياً في الخليج العربي، ويعمل الآن مدرساً في الجامعات الأردنية، له مؤلفات في فنون الشريعة، وعضو توحيد المناهج للحركة الإسلامية الدولية، وكان عضواً في مجلس النواب عن الحركة الإسلامية في المملكة الأردنية، وهوحركي الفهم والعمل، حديثه ينطلق دائماً من التأصيل الشرعي، إلى فضاءات الممارسة الدعوية،  رغم كل سيرة حياته السالفة- أمتع الله به- وتقلبه بين النعم، إلا أن تواضعه لا تخطئه عين، لا يتأفف من طعام، ولا يناقش حول نزل اختير له، كأن الطلبات الخاصة مفقودة من قاموسه الشخصي، ورأيت دعاة يشارطون حول نجوم النزل الذي يقيمون فيه، ونوعية الطعام، ومواعيد الحركة الدعوية، أما الشيخ الدكتور تيسير فأحسست به عازفاً عن الدنيا عزوفاً شبه كامل، فلا تخطر له ببال، ولا يكترث لها إن أقبلت أو أدبرت، وتَمثل به قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه – يادنيا غري غيري-، والحديث عن سمات الشيخ تيسير يحتاج لأكثر من هذه العجالة، وحسبي توضيح أثره الدعوي في عشرة أيام كنا معه سحابة النهار وزلفاً من الليل، فالكتاب رفيقه الأدنى في حله وترحاله، ولا يتحدث إلا ويتحف مستمعيه بلمعة عقدية، أو نكتة فقهية، أو لفتة تربوية، حديثه الجد وفكره العزم، كنا نطوف الجنوب الفرنسي من حدود إيطاليا إلى حدود إسبانيا، وإذا كان ثمة أكثر من مركز إسلامي في البلدة التي نزورها افترقنا، أما إذا كان  ثمة مركز يتيم، فأعمد لتقديمه، وآخذ مكاني أستمع وأستمتع بشهد حديثه، لكن ملاحظة دفعني لها فضولي كانت تكاد تخرج من عقلي فأجهد في لجم لساني تأدباً مع العلماء، بيد أن أريحيته ومبساطته في آخر يوم أبطلتا جهادي، كنا يومها في مدينة نيس وبعد انقضاء صلاة التراويح، دعانا الأخ ميلود على عادته لشرب القهوة، ويعتبر ذلك من طقوس انتهاء العمل فحدثته قائلاً :

شيخنا الفاضل من خلال حديثكم في المراكز الإسلامية، سواء ما كان منها بعيد العصر، أوقبيل التراويح، أراكم تفيضون بالحديث عن بيت المقدس والمسجد الأقصى، أترى هو لهدف غاب عن فكري، أما هو الومق المقدسي ؟ .

نظر إلي مستغرباً، كأن سؤلي لم يرق له. وقال :

تقصد  الاقتصاد في الحث على الصدقات ؟ .

فأومأت برأسي أن نعم .

فأكمل حديثه لي ومن معنا، أنتم تقومون بهذه المهمة بشكل طيب، ولاذ بالصمت، وشُغلت جلسة شرب القهوة بأحاديث جانبية، كنت أرقبه خلالها مطرقاً، فحدثتني نفسي بالاعتذار له عن التسرع بالسؤال، وتمنيت وقتها أن كلامي بقي حبيس صدري . .

وقتها قرر الأخ ميولود أن نقضي دقائق على شاطئ مدينة نيس الفرنسية، بعد الثانية ليلاً، لأنها كانت ليلتنا الأخيرة مع الشيخ تيسير، فسيغادرنا إلى العمرة مباشرة في العشر الأواخر من رمضان .

وأثناء المشي دنا مني وهمس في أذني، وقال :

قضية فلسطين أكبر من جمع دريهمات معدودة، مع إقراري بحاجة أهلنا في فلسطين، نحن يأخي في هيئة علماء بيت المقدس لنا وجهة نظر أخرى، حول فلسطين أوسع بكثير من البعد الإنساني، فهي برأينا قضية عقدية لكل مسلم، وعندما نتحدث للمسلمين فإننا نتبنى هذا المفصل من القضية الفلسطنية .

وما محاولات العلمانيين ومن لف لفهم، إلا حصر القضية بالبعد الإنساني، وهو مرمى صهيوني بامتياز، يوحون به إلى أتباعهم، ومكمن الخطورة في هذه الفكرة أن القضية بتأطيرها بالبعد الإنساني تفقد الزخم الإسلامي، وبعد فترة تتحول من قضية عقدية إلى إنسانية من القضايا التي تلد يومياً من تعسف البشر، وبالتالي تفقد قدستها .

ثم حدجني ببصره وقال: هل أدركت لماذا أفيض بالحديث عن القدس والمسجد الأقصى .

كنت خلال الشهر الكريم أعمد لحقيبتي المحمولة، فأدون ملاحظات انطباعية، وهذا أهم مادونته .

مهارق: الصحف البيضاء .

                

* عضو مركز علم المقاصد الشرعية الجزائري .