الدكتور يوسف القرضاوي : الشيخ الثائر

الدكتور يوسف القرضاوي :

الشيخ الثائر

الشيخ العلامة يوسف القرضاوي

عبد الرحمن يوسف بريك

الشواشنة / الفيوم /مصر

[email protected]

مقدمة :-

لا يمكن لعاقل أن يقرأ سيرة الدكتور يوسف القرضاوي دون أن يلفت نظره ويسترعي انتباهه الطبيعة الثائرة في كتاباته وأفعاله وفتاواه ، وليس ذلك إلا لأن الرجل - الذي جاوز الثمانين من عمره - لازال يحمل في جوانحه روح الشاب الثائر الذي لا يهدأ له قرار ولا يستريح له بال إلا إذا حقق مراده ونال ما يصبو إليه وطنه وأمته من تقدم وازدهار .

والمتابع لسيرة القرضاوي يعرف ذلك عنه منذ شبابه الأول حين كان شاباً في جماعة الإخوان المسلمين حيث جاب مصر من أقصاها إلى أقصاها حاملاً لواء الدعوة لدين الله ونتيجة لذلك  لقي كثيراً من الأذى والاضطهاد والاعتقال عدة مرات منذ كان طالباً في المرحلة الثانوية في عهد فاروق سنة 1949م ، وبعد ذلك في عهد الثورة في يناير سنة 1954م ، ثم في نوفمبر من نفس السنة حيث استمر اعتقاله نحو عشرين شهراً ، ثم في سنة 1963م .

وليس الجهاد الذي حمل لواءه فقط هو الجهاد ضد الحاكم الظالم ، بل تعداه لجهاد أشد هو الجهاد لتوحيد صفوف الدعاة ومراجعة المواقف والآراء ، فنراه لا يألو جهداً في الدعوة برفق إلى النقد الذاتي لمواقف الدعوة ، لترشيد مسيرتها وتحسين أدائها، وتطوير مناهجها ، كما دعا بإخلاص إلى التعاون مع كل الحركات الإسلامية الأخرى ، ولم ير بأسا من تعدد الجماعات العاملة للإسلام ، إذا كان تعدد تنوع وتخصص لا تعدد تعارض وتناقض ، على أن تتفاهم وتنسق فيما بينها، وتقف في القضايا الإسلامية الكبرى صفاً واحداً ، وتعمق مواضع الاتفاق ، وتتسامح في مواضع الخلاف ، في دائرة الأصول الإسلامية الأساسية القائمة على محكمات الكتاب والسنة.

وقد تجلى هذا الاتجاه النقدي البناء المنصف في عدد من كتبه وبحوثه ومقالاته ومحاضراته ، ولقاءاته الصحفية ، كما في كتاب "الحل الإسلامي فريضة وضرورة " الباب الأخير منه ، ومقالات مجلة الأمة تحت عنوان " أين الخلل؟ " وقد جمعت في رسالة مستقلة ، وكتاب " أولويات الحركة الإسلامية " الذي قدمته سلسلة كتاب الأمة في كتابها : " فقه الدعوة : ملامح وآفاق " الذي جمعت فيه مجموعة حوارات "الأمة" مع كبار العلماء والمفكرين المسلمين ، وكان حوارها معه حول : الاجتهاد والتجديد بين الضوابط الشرعية حاجات العصر " .

ولم يقتصر جهاده على ذلك فقط بل تعداه إلى سعيه الدءوب لإصلاح المؤسسات الدينية الرسمية ، فهو يرى أن المؤسسات الدينية الرسمية ـ على أهميتها وعراقتها ـ لم تعد قادرة على القيام بمهمة ترشيد الصحوة الشبابية وعلاج ظاهرة الغلو ما لم ترفع السلطات السياسية يديها عنها ، وأن الذي يعيش مجرد متفرج على الصحوة الإسلامية أو مجرد ناقد لها وهو بعيد عنها لا يستطيع أن يقوم بدور إيجابي في تسديدها وتشيدها ، فلابد لمن يتصدى لنصح الشباب من أن يعايشهم ويتعرف على حقيقة حالها .

الثائر لفلسطين :- 

إن موقف القرضاوي من الجهاد الفلسطيني موقف مشرف ، لم يرضخ فيه لضغوط حكام – كما فعل البعض – أو توازنات إقليمية ، بل هو موقف استمده من كتاب الله وسنة المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ، فالقرضاوي يرى " إن فلسطين ليست ملك الفلسطينيين وحدهم ، والقدس ليست قدسهم وحدهم ، والأقصى ليس أقصاهم وحدهم ، إنها ملك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وليست ملك هذا الجيل وحده ، بل ملك الأجيال الإسلامية إلى أن تقوم الساعة ، فإذا وهن الفلسطينيون أو طائفة منهم لما أصابهم من لأواء وضعفوا واستكانوا ، فواجب المسلمين في كل مكان أن يهبوا لإنقاذ القدس ، فريضة من الله ، والذي أنقذ الله على يديه القدس قديمًا ، لم يكن فلسطينيًا ولا عربيًا ، بل كان بطلاً إسلاميًا كردي الأصل ، عرّبه الإسلام " .

كما يرى القرضاوي " إن المعركة بيننا وبين بني صهيون مستمرة ، نقاتلهم ويقاتلوننا ، حتى تأتي المعركة الفاصلة التي نبأنا بها من لا ينطق عن الهوى ، وهي التي يكون كل شيء فيها معنًا ضد يهود ، حتى الشجر والحجر ، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تقاتلكم اليهود، فتسلَّطون عليهم، حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر، فيقول الحجر: يا عبد الله ، هذا يهودي ورائي فاقتله " . ، ويضيف : إن الرباط مستمر، والجهاد ماض ، في أرض النبوات ، ومسرى الرسول الكريم حتى يأذن الله وحده بالنصر، وينجزه وعده .

الثائر مع الثورات العربية :- 

لكن الجهاد الأبرز في المرحلة الأخيرة هو جهاده لنصرة الثورات العربية في الأقطار التي هبت شعوبها تطالب بحقها الأصيل في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ، فأيد ثورة تونس ، ووقف وقفة المجاهد في صف ثوار مصر حتى أذن الله لطاغيتين من كبار طغاة العصر بالزوال عن سدة الحكم وهما زين العابدين بن علي وحسني مبارك ، ووقف وقفة شجاعة في صف ثوار ليبيا ضد القذافي الذي أذاق شعبه صنوف التنكيل والقتل بدم بارد ، وأيد – ولا يزال – موقف ثوار اليمن السعيد وسوريا الشقيقة ضد بطش الحكام وجبروتهم .

وقفته بجانب ثوار تونس الخضراء :-

وقف القرضاوي وقفة شجاعة بجانب ثوار تونس ، وكانت وقفته الشجاعة حينما دعا الله أن يعفو عن محمد بو عزيزي الذي أقدم على حرق نفسه ففجر الثورة في تونس ، حيث أكد القرضاوي أن الشاب التونسي محمد بو عزيزي الذي أقدم على إضرام النار في نفسه في منتصف ديسمبر الماضي مفجرًا انتفاضة شعبية بتونس أدت إلى الإطاحة بحكم الرئيس زين العابدين بن علي جاء نتيجة شعوره بامتهان كرامته واحتجاجًا على الجوع ، وفي ظل حالة ثورة وغليان نفسي ، لا يملك فيها نفسه وحرية إرادته ، بعد مصادرة عربة الخضار التي كان يتكسب منها .

وقال إنه يدعو الله أن يعفو عنه ، ونصح في الوقت ذاته الشباب الساخط على أوضاعه الاجتماعية والمعيشية بأن يلجأ إلى طرق احتجاجية أخرى غير اللجوء إلى إزهاق أنفسهم ، وذلك بعد تعدد محاولات الانتحار حرقًا في مصر والجزائر وموريتانيا ، على طريقة البوعزيزي ، مشيرا إلى أن هناك وسائل مقاومة أخرى ضد الظلم والطغيان بعيدًا عن قتل النفس والانتحار بالحرق .

وقال القرضاوي : " إني أتضرع إلى الله تعالى وأبتهل إليه أن يعفو عن هذا الشاب ويغفر له ، ويتجاوز عن فعلته التي خالف فيها الشرع الذي ينهى عن قتل النفس ، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، ودعوت الإخوة في تونس والمسلمين عامة أن يدعوا الله معي، ويشفعوا عنده لهذا الشاب " ، وقال إن البوعزيزي- وهو خريج جامعي ( 26 عاما ) كان يتكسب من عربة خضار بمنطقة سيدي بوزيد وسط غرب تونس أقدم على الانتحار بعد أن صفعته شرطية على وجهه ، عندما احتج على مصادرة العربة التي كان يتكسب منها- " كان في حالة ثورة وغليان نفسي ، لا يملك فيها نفسه وحرية إرادته ، فهو أشبه بحالة الإغلاق التي لا يقع فيها الطلاق ، " لا طلاق في إغلاق " .

ولم يعف القرضاوي الأنظمة الحاكمة من المسئولية عن اللجوء إلى التخلص من حياتهم بالانتحار ، في ظل حالة السخط التي انتابتهم ، وقال : " أنا هنا أوجب على الأنظمة الحاكمة أن تسأل نفسها : ما الذي دفع هذا الشباب أن يحرق نفسه ، وتحاول أن تجد لمشكلته حلا " .

ونادى القرضاوي " شباب العرب والمسلمين في مصر والجزائر وموريتانيا وغيرها ، الذين أرادوا أن يحرقوا أنفسهم ، سخطا على حاضرهم ، ويأسا من مستقبلهم : أيها الشباب الحر: {لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف:87]، وإن مع العسر يسرا، وبعد الليل فجرا، وأشد ساعات الليل سوادا وظلمة هي السويعات التي تسبق الفجر "  ، وتوجه إليهم بالقول : " أيها الشباب : حافظوا على حياتكم ، فإن حياتكم نعمة من الله يجب أن تشكر، ولا تحرقوا أنفسكم ، فإن الذي يجب أن يحرق إنما هم الطغاة الظالمون ، فاصبروا وصابروا ورابطوا ، فإن مع اليوم غدا ، وإن غدا لناظره قريب ، ولدينا من وسائل المقاومة للظلم والطغيان ما يغنينا عن قتل أنفسنا، أو إحراق أجسادنا. وفي الحلال أبدا ما يغني عن الحرام " . 

وحقاً قال القرضاوي ، فما هي إلا أيام حتى هبت الثورة في مصر ، وأطاحت بأكبر ديكتاتور عربي هو محمد حسني مبارك الذي جثم هو ونظامه فوق قلوب الشعب المصري طيلة عقود ثلاثة .

 

 

القرضاوي وثورة 25 يناير في مصر :-

حينما بدأ شباب مصر ثورتهم في 25 يناير ، لم يكن أكثر المتفائلين يظن أن تلك التظاهرات قد تطيح برأس النظام ، لكن القرضاوي الذي يحمل قلب شاب ثائر كان يرى أن تلك المظاهرات لن تحقق هدفها إلا بالإطاحة بالنظام ، في وقت كان الكثيرون يرون أن بعض الإصلاحات كافٍ لأن تهدأ ثورة الشباب .

إن الدور الذي قام به القرضاوي في دعم ثورة مصر يستحق أن نتوقف أمامه ؛ نظرًا لعظم هذا الدور ، ورسوخ خطابه الشرعي ، وتميز منهجه الذي ارتضاه ، وآثار هذا الخطاب وتأثيره داخليًّا وخارجيًّاً .

فقد تميز دور القرضاوي – من خلال أحاديثه ومحاضراته وكتاباته عن الثورة المصرية – بمنطلقات عدة هي :-

- حق الأمة مقدم على حق الفرد .

- لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .

- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

- المشقة تجلب التيسير .

- الأمور بمقاصدها .

- حقوق الله مبنية على المسامحة والمساهلة ، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمضايقة .

- للوسائل أحكام المقاصد .

- تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة .

- كل ما خالف أصلا قطعيًّا مردود .

- درء أعظم المفاسد بارتكاب أخفها، وجلب أعظم المصالح بتفويت أدناها .

( اقرأ : القرضاوي : الإمام الثائر / وصفي عاشور أبو زيد )  

لقد بلغ من فرط اهتمام الشيخ بثورة مصر أنه كان يواليها بالخطاب والخطب والكلمات والبيانات ، بل كان يتابع أحداثها لحظة بلحظة ، وهذا للأمانة كان شأن العالم كله ؛ فضلا عن المصريين بله العلماء والدعاة ، وكان لا يتحدث حديثًا خاصًّا أو عامًّا إلا تكلم فيه عن الثورة .

وفي الملتقى العلمي الثاني لتلاميذ القرضاوي المقام في الفترة 1-8 ربيع أول 1423هـ/ 4-10 فبراير 2011م لم يترك جلسة من الجلسات ، في بدء أو ختام ، أو في تعقيب أو توضيح ، أو حتى على طعام أو شراب إلا تحدث عن الثورة ، وتطوراتها، وأخلاقها ، وشرفها ؛ تشعر في حديثه بالحرقة ، وفي لهجته بالصدق ، وفي مشاعره باللهفة على إخوانه وأبنائه وأحفاده هناك ،  فكانت الثورة تظلل حياته كلها ؛ أحاديثَ خاصةً وعامة ، وخطبًا ومحاضراتٍ ، وبيانات وتصريحات ، حتى استغرقت حياته كلها ؛ ليلا ونهارًا وسرًّا وجهارًا .

وقد كلل الله جهاده بنجاح الثورة ، ووقف القرضاوي – بعد أكثر من ثلاثين سنة من منعه من الخطابة في مصر – وسط ميدان التحرير خطيباً في المصريين جميعاً ( مسلمين ومسيحيين ) في جمعة النصر حيث قال وسط الحشود المليونية " إن اليوم هو يوم أبناء مصر جميعاً مسلمين وأقباطاً ، وأضاف إن هذه الثورة لم تكن ثورة عادية بل ثورة ملهمة ومعلمة للعالم أجمع ، مؤكدا أن الشباب الذى حقق النصر فى هذه الثورة لم ينتصر فقط على النظام السابق بل على الظلم والباطل والسرقة والنهب والأنانية ، وأضاف أن الشباب الذى قام بهذه الثورة لم يكن ليخذل أبدا " حيث إن الله وعد بنصر المؤمنين وإقرار الحق على الباطل ..فللباطل ساعة ودولة الحق الى قيام الساعة ، مشيرا إلى أن جميع فئات المجتمع المصرى شاركت فى تلك الثورة بتوجهاتهم الدينية والفكرية والمهنية والسياسية وفئاتهم العمرية فى بوتقة واحدة حققت انتصار الثورة " .

الأغرب أن القرضاوي – في جمعة النصر – حذر من سرقة الثورة وانحرافها عن مسارها ، وكأنه كان يقرأ من كتاب مفتوح ، لكن هذا إلهام من الله لمن اصطفاهم من عباده .

هذا هو القرضاوي الشيخ الثائر ...... فليت للشباب اليوم قلوباً نابضة مثل قلب شيخنا .... وليت للشيوخ حكمة مثل حكمته ....... وليت للفقهاء فقها كفقهه ....... أطال الله عمر شيخنا ... وحفظه لنا زاداً زمعيناً لا ينضب أبداً.