سجينُ الحرِّية

سجينُ الحرِّية

البراء كحيل

[email protected]

خلقَ اللهُ البشرَ أحراراً لا يُكبّلهم قيدٌ ولا تحتجزهم زنازين وأعطاهم حرّيَّةَ الاعتقادِ والفكر والتصرف مالم تتعارض مع القوانين الناظمة للمجتمع سواءً كانتْ قوانينَ ربّانيةً أم وضعية، وقد جَعلتْ هذه القوانينُ العلاقة بينَ الحاكمِ والشعبِ علاقة الموظفِ الخادمِ للجماعة يقومُ على رعاية شؤونِ مواطنيهِ فترةً من الزمن ثمَّ يغادرُ لبيتهِ ليتصدّر غيرُه هذه المسؤوليةَ ويضعَ على كتفيهِ تلكَ الأمانة الثقيلة.

إلاَّ أنَّ بعضاً من الحُكّام - وخاصّةً فيما يُعرف في منطقة الشرق الأوسطِ - حوّل العقد بين الشعبِ والحاكم من خادمٍ لهم إلى إلهٍ يُعبد، والشعبُ عبيدٌ لديهِ له كاملُ الحرّية في التصرفِ بأرواحهم وأموالهم وأعراضهم ضارباً عرضَ الحائطِ بمقولة الملهم العربي عمرَ بن الخطّاب:" متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟!".

عمدَ هؤلاء الحكّام إلى تقييدِ الحرِّيّات بجميعِ أشكالها وتكميمِ الأفواهِ وكسرِ الأقلامِ إلاَّ تلكَ التي تُسبّحُ وتُمجّدُ صباحَ مساء بالحاكمِ المُبجّل، وإذا ما نازعتْ أحدَهم نفسُه فتجرأ وتذكّرَ أنّه خُلقَ حُرّاً فبادرَ ليتكلمَ أو يكتبَ نقداً في حقِّ ذلكَ المتربّع على عرشِ المُلك فإنَّ مصيره سيكونُ إحدى حجرتين مظلمتين صغيرتين إمّا القبر أو السجن.

ذلك السّجنُ الذي ضمَّ عبر الأزمنة النبيَ والشاعرَ والكاتبَ وحوى بين حناياه البريءَ المظلومَ لا لذنبٍ اقترفه، بل فقط لأنّه تذكَّر يوماً أنّه حرٌّ، تلك السّجونُ التي يعمدُ الطُغاة إلى معاقبةِ خصومهم بها وسلبهم أغلى ما يملكه المرء وهو - الحرّية - جَوْراً وظلماً وقهراً، فمن أعطى ذلك المجرمَ الحقَّ في اغتصابِ حقٍّ وهبهُ اللهُ لعباده؟!

من بيتٍ واسعٍ رحبٍ منيرٍ إلى زنزانةٍ ضيّقةٍ مظلمةٍ ينتقل السَّجين، من بينِ زوجةٍ وأولادٍ إلى رفاقِ سجنٍ وسجّان، من أشعةِ الشمسِ توقظهُ بمداعبتهِ كلَّ صباحٍ إلى صوتِ سجّانٍ كالرَّعد يقصفُ بالعذاب لا بالغيث، ومن بابِ بيتهِ يخرجُ منه بالأملِ والنَّشاطِ إلى بابِ زنزانةٍ عندما يُفتَحُ كأنَّه ينتزعُ قلبهُ من بين أضلعه ليقودَهُ لحفلةِ تعذيبٍ وترهيب، من ضوءِ القمر يتسللُ عبر النَّوافذ لينيرَ المنزلَ ويزرعَ الأمل، إلى حجرةٍ حالكةِ الظلام إذا أخرجَ يدهُ من جيبه لم يكدْ يراها تزرعُ الألمَ والاكتئاب،- فهي ظلماتٌ بعضها فوقَ بعضٍ- ظلامُ السِّجنِ والتعذيبِ والفراقِ والألمِ والظلم، من رائحةِ المسكِ والعنبرِ بينَ أهلهِ إلى رائحةٍ نتنةٍ كأنّما جيفةٌ قد أُلقيتْ هنا، من فراشٍ وثيرٍ ناعمٍ إلى أرضٍ أشبهَ بالشوكِ ترسمُ في الجسدِ لوحةً للعذاب، إنّه انتقالٌ من النعيمِ إلى الجحيم.

في  منزلٍ  كالليلِ  أسودَ  فاحمٍ          داجي النواحي، مظلمِ الأثباجِ

يسودُّ  والزهراءُ  تشرقُ   حولَهُ        كالحبرِ  أُودعَ  في  دَوَاةِ  العاجِ [1]

إنَّ ذلك السّجنَ ليَعْمدُ إلى قلبِ السّجينِ فيغرسُ فيه كآبةً وقهراً، وينصرفُ إلى دمهِ وكأنّه مَصَّاصُ اللَّيْلِ غادرَ القبرَ ليمتصَّ دمَه، ويعبثُ بآلةِ الزمنِ فيتوقفُ الوقتُ لدى السَّجينِ ولا يُميّزُ النهارَ من الليلِ وتُصبحُ الدقائقُ ثقيلةً صعبةً وكأنّها دهر(السِّجنُ نقطةُ سكونٍ في عالمٍ متحرك)[2] ، السِّجنُ يتخللُ العِظَامَ فيضعفها ويتسللُ إليها بصمت، فيسرق قوَّتها ويسلبُ صلابتها فيغدو السَّجينُ وكأنّه خيالٌ لا يقوى على الوقوف، الشيءُ الوحيدُ الذي يعمدُ السِّجنُ إلى تنشيطه لدى السَّجينِ هو الذَّاكرة فيبدأ ذلك المسكينُ يَتذكّرُ بَعدَ الأهلِ والأصحابِ كلَّ نعيمٍ كان يعيشه حتّى لقمةَ الطعام عندما كانَ حُرّاً تلاعبُ فمه، وهذا مايزيدُ من عذابهِ وآلامه ولربَّما كانَ أشدَّ إيلاماً من العذابِ الجسدي.

إنّها ضريبةُ الحرِّية وثمنُ الكلمةِ الحرّة التي رفضَ هؤلاء أنْ تبقى أسيرةً في صدورِهم فأطلقوها مدّويةً في وجهِ ذلك الطاغيةِ مع علمهم أنَّ مهرها سيكونُ غالياً جداً فهو أعوامٌ من العُمرِ تمضي خلفَ القضبان، ومع ذلك فما وهنوا لما أصابهم في سبيلِ نيلِ الحرِّيةِ وما ضعفوا وما استكانوا ولسانُ حالهم يقول:

والليثُ لنْ تحنيَ الأقفاصُ هامتَهُ        وإنْ  تحكّمَ  فيهِ  أَلْفُ   سَجَّانِ[3]

إنّهم يرونَ من نافذةِ السِّجنِ الصغيرةِ مُستقبلاً مُشرقاً يرسمونه لأطفالهم ليسَ فيهِ قيدٌ ولا سجنٌ ينعمونَ به بالحرِّية والكرامةِ بعد أن يُمرِّغوا أنفَ سجّانهم بالتراب، فهم قد علِمُوا أنَّ السِّجنَ لا يُمكنه أن يأسرَ أحلامَهَم أو يُقيّدَ أفكارَهَم ومهما طالَ ظلامُه لا بُدَّ يوماً أنْ تخترقَ أشعةُ الشمسِ جدرانَهُ وتهدّ بنيانَه، وإنَّ ضوءَ النهارِ لينسلخُ من ظلمةِ الليلِ البهيم.

وعسى الذي أهدى ليوسُفَ أهلَه        وأعزَّه  في  السِّجنِ   وهْوَ   أسيرُ

أنْ  يستجيبَ  لنا  فيجمعَ   شملنا        واللهُ     ربُّ     العالمين     قديرُ[4]

إنَّ سجينَ الحرِّية لهو ذلك الكوكبُ الفخمُ الذي غابَ عن سماءِ النضالِ بعضاً من الوقت، وإنّهُ لبدرٌ أصابهُ الخسوفُ أو شمسٌ نزلَ بها الكسوف، إنّهُ السَّيفُ الصارمُ المُغمّد.

هل  الرّياحُ  بنجمِ   الأرضِ   عاصفةٌ        أمِ  الكسوفُ  لغَيرِ  الشمسِ  والقمرِ؟

إن طال في السِّجنِ إيداعيْ فلا عجبٌ        قدْ يوْدعُ  الجفن  حدّ  الصارمِ  الذّكَرِ[5]

ولا ريبَ أنَّ بعدَ الكسوف والخسوف ضوءً ونوراً ومن المُحالِ أن يبقى السَّيفُ في غمدهِ فلا بُدَّ يوماً أن يتحررَ ليقطعَ نِيرَ العبوديةِ ويكسرَ أصفادَ السِّجنِ.

إنَّ الذي منَّ على يوسفَ عليهِ السّلام ونقلهُ من زنزانةٍ مظلمةٍ إلى عرش الحُكم وجمعهُ بأهلهِ بعد أن طالتِ الغربةُ وأعمى الفراقُ والده لقادرٌ أنْ يمنَّ على سُجناءِ الحرِّيةِ بالخلاصِ وينقلهم من محكومينَ إلى حاكمينَ ولنا مَثَلٌ قريبٌ في "نيلسون مانديلا".

ومن أصدقُ من اللهِ حديثاً:

"وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)" [6]

               

[1] الشاعر الطليق ( مروان بن عبد الرحمن الناصر)     [2] نيلسون مانديلا

   [3] يوسف القرضاوي   [4] إبراهيم بن المهدي   [5] ابن زيدون   [6] سورة القصص