شخصيات صنعت الوحدة

إيلاف العباسي

إن أمّة مثل أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليحير الشخص كيف له أن ينتقي منها شخصيات ونماذج منها من اولئك الذين صنعوا وحدة الأمة ورفعوا شأنها وأعزوا قدرها وأبو أن يُريقوا دماء المسلمين لأي سببٍ كان.

مثلهم كمثل بستان فيه مختلف الورود والرياحين وطُلب من شخص أن ينتقي زهرات منها تعجبه , فهكذا هم سلف الأمة المحمدية ومن نشأ على منهاج النبوة .

تعد الوحدة في شريعتنا وفي سنة ديننا مطلبا ً ربانيا ً وغاية عظمى تتكسر تحتها جميع الغايات .

فكثير من الآيات تحثنا كمسلمين على الوحدة والتآلف والتصالح .

كل ذلك ليبين لنا في وقت الأزمات والشدة والحروب والمحن التي تطحن بنا بأنه لا سبيل لنا بالنجاة والفوز والوصول لله تعالى إلا بوحدة إسلامية شاملة كاملة تجمعها جميع الأفكار والعقول والقوميات طالما انها تتوحد ب لا اله إلا الله وتجعل من منهج حياتها قال الله وقال رسوله.

ولقد طبق هذا المنهج وسار على درب التواصي بالوحدة كثير من سلف الأمة المحمدية رضي الله عنهم جميعا ً

وحتى لو حصل وإن وصلت الأمور لحد التمزق والتشرذم فسنرى بأنه سرعان ما تتوحد الأمة من جديد وتعود كما كانت بناءً على فهمها العميق للغاية التي جاء بها دينهم من الوقوف صفاً واحدا ً ضد أعداء دينهم ومنهجهم .

ولقد سار على منهاج الوحدة وكما ذكرت كثير من خلفاء هذه الأمة وعظائها حتى صار تخليد الأمة لهم بحق بسبب توحدهم ووحدتهم لهذه الأمة

ويطيل بنا المقام لو تفرغنا وذكرنا كل هذه الشخصيات العظيمة

لذا فكرت أن أقتبس نماذج قليلة من بستاننا الواسع الذي تربى على مائدة محمد صلى الله عليه وسلم لتعلم أجيالنا هذه عظمة هذا الدين وعظمة هذه الشخصيات من صحابة وتابعين.

وقفتنا الأولى مع : الخليفة الراشد الأول  أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

فحينما استلم الخلافة وبويع له بها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضيه الناس جميعا ص خليفة لهم ولم ينكر ذلك أحد بفضل سبقه للإسلام وما قدمه من تضحيات كبيرة استحق من خلالها أن يكون القريب المقرب من رسول الله  حياً وميتاً .

وجاءت الفتنة الكبرى التي كادت أن تزعزع الدين الإسلامي والدولة الإسلامية الوليدة الحديثة لو لا أن سخر الله لها أبا بكر رضي الله عنه .

إنها فتنة الردة التي حصلت في بداية تولي أبو بكر للخلافة

وكان من أسبابها الصدمة بوفاة رسول الله ورقد الدين والسقم في فهم نصوصه والحنين الى الجاهلية ومقارفة موبقاتها والتفلت من  النظم والخروج على السلطة الشرعية والعصبية القبلية والطمع في الملك وغير هذه الأسباب

وكان من هؤلاء المرتدين عن الإسلام أصناف:

فمنهم من عادوا إلى عبادة الأوثان , وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي , وصنف استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن أبا بكر ليرضى بالواقع الذي يرى عليه أمة محمد قد تفرقوا وصاروا جماعات وفرقا ً كلها تتربص وتتتشتت وتحلم بالعودة لشتات الجاهلية وتشرذمها

فجيش الجيوش وجهزا المحاربين ليُعيد هؤلاء المارقين إلى رقعة الإسلام الذي كانوا عليه

وقد قام بمهمته خير مهمة

وذلك من بعد ما تفرقت الجزيرة العربية ولم تبقى إلا مكة والمدينة والطائف على إسلامها وبعض الجماعات هنا وهناك وبعض الشخصيات المتوزعة بين القبائل الأخرى

ولكن بعزيمة الصديق وبمنهجه الذي نشأ عليه وبمدرسته التي تخرج بها من استاذه الأعظم صلى الله عليه واستطاع جمع الشتات وتوحيد الكلمة لتعود الجزيرة العربية إسلامية كما كانت  ولتنطلق بعد ذلك الفتوحات الإسلامية التي ستسقط عروش كسرى والفرس ودولة الروم وجيوشها .

إن شخصية عظيمة مثل شخصية الصديق لجديرة بالإهتمام كي نقف منها ونقتبس دروس العزة والوحدة التي علمها لنا لنعلم كم هي عظيمة تلك الأمة التي اختارت أبا بكر للخلافة من بعد رسولها صلى الله عليه وسلم ولنقتبس منه دروس الوحدة والتوحد التي علمها لنا من خلال إنجازاته وفتوحاته الإسلامية المباركة ووقفته الجادة بوجه كل من حاول تشتيت الأمة وتمزيقها من مرتدين وخارجين عن سلطان الامة او غيرهم من المنافقين.

الشخصية الوحدوية الثانية :أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه:

فما زال التاريخ يُعلمنا

ومازالت السيرة النبوية تطالعنا على عظماء الأمة المحمدية الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم من أجل دينهم

وحينما نذكر هذا الأمر فلن يطول بنا المقام حتى نتذكر عثمان رضي الله عنه

وجهاده وما قدمه للإسلام من أعمال جليلة تُذكر له بسيرته

ولسنا بصدد مآثر عثمان فلهذا الأمر موضوع آخر

ولكن ما يهمني هو استعراض آخر حياته حينما صار محاصرا ً من قبل الرعاع وسفلة القوم الذين جائوا من أقاصي العراق ومصر لقتله

فبعد أن تمادى بهم الأمر وقاموا بالإعتراض عليه وولاته قرروا الخروج للمدينة لتكون خطتهم بداية عزل الخليفة عن الحكم

تم توصل الأمر وتوصلت بهم حماقتهم وخستهم إلى قتل الخليفة

فقاموا بالدخول للمدينة المنورة وومحاصرة دار أمير المؤمنين عثمان

وكل ذلك بتخطيط وتآمر اليهودي الصنعاني عبد الله بن سبأ لعنه الله

ولم تكن شيمة الصحابة ولا خُلق ذاك الجيل ان يرضوا  ل عثمان أن يُهان بالطريقة التي عاملها بها أولئك الرعاع من أهل البوادي  وسفلة القوم كما وصفهم بذلك جميع أهل السير

وكيف يرضون بذلك وهو الصحابي الجليل مجهز جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله بعد ذلك :  ماضر عثمان ما عمل بعد اليوم

فقد حاول جميع الصحابة رضي الله عنهم الدفاع عنه والوقوف بوجه هؤلاء المارقين عن السلطة والخارجين على القانون

ووصل الامر أن بعث كبار الصحابة بأولادهم ليقفوا مع عثمان في محنته ويقفوا عند باب بيته مدافعين عنه

ولكن مع كل تلك المحاولات من الصحابة وأهل المدينة بأن يقففوا بوجه هؤلاء لم يرض عثمان رضي الله عنهم من أحد أن يحمل سيفا أو يواجه شخصا ً

وكثيرا ً ما كان يردد ((أعزم على من كانت لي عليه طاعة ألا يُقاتل))

وحينما طلبوا منه أن يقاتل هؤلاء الذين يحاصرون المدينة ويريدوا بالخليفة شرا ً أجاب: (( لن أكون أول من خلف رسول الله في أمته بسفك الدماء))

وهكذا يكون الخليفة العظيم الذي يُريد لأمة الإسلام التوحد وترك التشتت

فقد كان من حق عثمان الشرعي والعرفي أن يحارب هؤلاء المارقين من الإسلام والخارجين على الدولة الإسلامية

ولكن حلم عثمان وحيائه جعله يخجل من أن يُراق الدم بسببه

وهكذا يُعلم عثمان حُكام هذه الأمة على طول زمانها وتاريخها درسا ص بليغا ً بأن يكونوا هم فداء شعوبهم وليس العكس بأن تفنى الشعوب في سبيل حكامهم.

وما أجمل الأمر بأن نختم هذه الوقفة مع قول جميل لشيخ الإسلام العظيم إبن تيمية رحمه الله حينما قال: (( ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من  أكف  ّ الناس عن الدماء وأصبر الناس عن من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه , فحاصروا وسعوا في قتله , وقد عرف إرادتهم لقتله , وقد جاء المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم.... وقيل له : تذهب الى  مكة , قال لا أكون ممن ألحد في الحرم , فقيل له : تذهب إلى الشام , فقال لا أفارق دار هجرتي , فقيل له : فقاتلهم , فقال لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف , فكان صبر عثمان حتى قُتِل من أعظم فضائله عن المسلمين .

الشخصية الوحدوية الثالثة: الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما , سبط رسول الله وريحانته:

فحينما تُذكر الصفات الجميلة وحينما نُريد أن نشم الرائحة الطيبة

وحينما نريد أن نلتمس درسا وعبرة في حياتنا

وحينما نريد ان نتعلم علم المصطفى صلى الله عليه وسلم

فلابد لكل ذلك من أن ندخل إلى البيت النبوي الطاهر لنرى عظمة هذا البيت

وعظمة من رباهم صلى الله عليه وسلم من أهل بيته

وكم هو عظيم شأن هذا البيت الذي تعلم وعلّم

فاستحق بذلك الذكر الحسن عند الأولين والآخرين رضي الله تعالى عنهم جميعا.

فحينما يُذكر الحسن بن علي فأول ما يتبادر للذهن وحدة الأمة على يديه

وعام الجماعة الذي صنعه بعلمه وفطنته وحنكته السياسية

فهذا الوحدوي الكبير علم الأمة جميعا ً بأن البقاء على العرش ليس غاية خلق الله تعالى لها أحداً

فحينما رأى ما حصل للمسلمين في معاركهم الإجتهادية التي حصلت بين الصحابة من بعد إستشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه وخصوصا ً في معركتي الجمل وصفين

أبى أن يواصل سكب الدماء وزيادة الجروح

وهو يرى أن الفتوحات الإسلامية قد توقفت

وأن الأمة ق ضعفت

حتى باتت على شفا حرب ٍ جديدة

لن يخرج منها إلا مزيد من الدماء التي طال كثرة انسيابها في العراق والشام

فقرر الخليفة العظيم هذا وسيد شباب أهل الجنة أن يوحد المسلمين ويتنازل عن عَرَض الدنيا الزائل ليبقى إسمه هو الخالد

فيتنازل عن الخلافة لمعاوية  ويقرر أن يبايعه ويدخل تحت أمرته

رضا ً منه رضي الله عنه بوحدة المسلمين وجمع كلمتهم وترك التفرقة والخلاف

الذي لن يعود على الأمة المحمدية إلا بمزيد من الضعف والتفرقة

هذه الأمة التي جاء بها جده صلى الله عليه وسلم واقامها لم يكن هذا الحفيد البار بأن يرضى بتفرقتها أمام أعدائها

فقام بما فعل بناءا ص على هذه العقيدة الراسخة

وهذا يوحي بفقهه الكبير الذي تعلمه من جده صلى الله عليه وسلم.

وكان مما قاله في خطبته التي تنازل فيها لمعاوية:  .... إما كان حقا ً لي تركته لمعاوية  إرادة صلاح  هذه الأمة.

وقد كان هذا الصلح والإخاء الذي عمّ بين المسلمين هذا العام بناءً على ماورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال : (( إن ابني هذا سيداً ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين)).

وقد كان كذلك والحمد لله

وليبقى ذلك الوسام الخالد الذي تقلده الحسن بن علي رضي الله عنهما طوال التاريخ

وسيبقى يُذكر دوما ً بأنه من أصلح شأن الأمة وجمعها على كلمة ٍ سواء

غير مبالي بآراء المعترضين ولا بأقوال المضعّفين له .

وقد  قام الحسن رضي الله عنه خطيبا ً في إحدى مراحل الصلح فقال : (( أيها الناس إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة , وإني ناظر لكم كنظري لنفسي, وأرى رأياً فلا تردوا علي رأيي , إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفُرقة ..)).

إن فقه الوحدة يحتاج لمدرسة عظيمة نقف عند أعتابها لنتعلم منها ونقتبس الدروس التعليمية

ولن نجد مدرسة أفضل من سليل بيت النبوة سيدنا الحسن رضي الله عنه الذي علم الدنيا كلها كيف تكون الوحدة وكيف تتحقق.

وليت حكام هذه الأمة بمرور تاريخها يتعلموا من سيدنا الحسن حقارة المناصب والكراسي والعروش الزائلة مقارنة بالهدف العظيم والغاية السامية المتمثلة بوحدة الأمة وجمع كلمتها.

فرضي الله عن خامس الخلفاء الراشدين وجعلنا على سنته ونهجه وفكره.

........

وفي ختام ما أريد قوله , أن الوحدة لن تكون لهذه الأمة إلا بأن تجتمع كلمتها

ولن تكون كذلك حتى تصفى قلوبها

وتترك ما بينا من أحقاد وضغائن

وتستعد لوحدتها بأن تقدم كل غالي ونفيس من تضحيات كي تُعيد الأمة على ماكانت عليه من وحدة وقوة وعزة.

لقد وقفنا عند شخصيات ثلاثة من شخصيات هذا الدين العظيم وإن كان هناك الكثير غيرهم

ولكن تعمدت أن أقتبس تاريخ هؤلاء الثلاثة الاوائل من بعد رسول الله ليرى الجميع عظيم ما خرّجهم صلى الله عليه وسلم من مدرسته الربانية وليعرف العالم كله هذه الشخصية الفذة التي استطاعت أن تعلم العالم جميعاً بعِظم شخصيته.

 

إن الوحدة التي ننشدها ونرجوها لن تقوم على حساب الوطنية والقومية والحزبية والطائفية ولا المذهبية المقيتة

أن على الذي ينادي بالوحدة بين المسلمين ليل نهار عليه أن يتحد تحت راية لا اله الا الله محمد رسول الله ولا يزيد على شعار هذه الراية أية عبارة ثانية .

وإلا لن تكون أية وحدة هناك إلا بعز الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .