المقامة الوعظية

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

حدثنا نبهان بن يقظان قال: كنتُ في سَفَر، عليّ عَفَر. أضربُ في الأرض، لِرزقٍ وعِرض. فأدركني العصر، بجامع القَصر. فأنهيتُ البيعَ إلى أجل، على خفّة وعَجل. وقلتُ ساعة وساعة، ثم أديتُ الفرض مع الجماعة. ولما هممتُ بالانصراف، والجامع غاصٌّ بالأشراف. قام رجلٌ واعظا، متنبّها يقظا. فحمد الله وأثنى عليه، وجأر بالدعاء إليه. ثم قال: أما بعد فيا معشرَ الزنادقة! لا فرسان ولا بياذقة. زادُكم قليل، ونظرُكم كليل. وبصرُكم حسير، وحسابُكم عسير. وشأنكم حقير، وذنبُكم كبير. شهادتُكم زُور، وعملُكم بُور. حجُّكم مأزور، غير مبرور. أتفحشون بالليل، لكم الويل! وتأتون الجامعَ بالنهار، تغسلون الحوبَ والعار؟! أمسجدٌ هذا أم حمّام؟ أجيبوا يا أنعام! لا يغرنّكم أن بابَ التوبة مفتوح، وقد اشتهرت الفُضوح! أيُغفَر لكم وما فيكم غيرُ خَسيس، وأنتم بين خَبّ ودَردَبيس؟ يا معشرَ من غضبَ الله عليهم! تُقبِلون إنْ ألْفيْتم غُنما، وتُدبرون إن وجدتُم غُرما. تَكثرون عند الطمع، وتَقلّون عند الفَزَع. أما تروْن أنكم ترفعون الدعاء إلى السماء، ولا يُستجاب لكم، قبّحَ الله سعيكم! أفتعجبون أن ينقطعَ عنكم المطر، ولا يُقضى لكم وَطَر؟ كيف ومالُكم حرام، ومَطعمكم حرام، ومَشربكم حرام، يا أبناء الحرام؟ وهل تُقبل صلاة بغير طُهُور، أجيبوا يا أهلَ القبور! أما علمتم أن الله طيّب لا يقبل إلا طيّبا، فانكحوا ما شئتم بِكرا أو ثيّبا! لكنّ السِّفاح سفاح، والنّكاح نكاح. ألا وإنّ العَصا قُرعت لِذي حِلم. وأنّى تُغاثون، أو تُجابون، وقد تركتم الصلاة، ومنعتم الزكاة؟ أنّى فلاحُكم؟ وكيف صلاحُكم؟ وقد رفَثتُم في رمضان، وهجرتم القرآن، صومُكم وفِطرُكم سيّان! يا إخوانَ إبليس، ورَوْث العِيس! أرْضَيْتم الشيطانَ بما تَحقرون من الأعمال، وأكلتُم الرّبا وأسرفتُم في الأموال. لَأنتم أقبحُ خَلق، وأشبه بغصّةٍ في حَلْق.

أيها العصاة الجفاة! إنْ أنا زَهّدتُكم في شيء تشوّفتُم إليه، وإن نهيتُكم عنه أقبلتم عليه. والمرء يعشق ما حُرم، سيّان الفتى والهرِم. يا أخسّ الناسِ أحسابا، وأوضعهم أنسابا، وأقبحهم وُجوها، زادَكم الله تِيها! يا أعداءَ الله، ومن كفر بأنعم الله! قد أذاقكم الله لباسَ الجوع، والخوف والنُّوع. ليس لكم أمان، وقد أغراكم الجُمان. وخُنتُم العَهد، ويا لضمّة اللّحد! يا معشر اللئام، وشرَّ الطَّغام! رفقا بضعفائكم رفقا، وإلا فسُحقا لكم سحقا! واعلموا أن صلاةَ التّباهي، وقتَ الدّواهي، لا تنفع ولا تشفع، ولا تُجزي ولا تَدفع!

يا معشر الجَوقة، والرِّجرِجة والسّوقة! إنما الدنيا أمل، وقد فاز أهلُ العمل. فلا تُلهِيَنّكم الحدائق، وفوقكم سبعُ طرائق. لكن هيهات، أنّى لكم التّدبر، والأوبةُ والتفكر؟ واعلموا أنْ ليس أحدٌ يدفع أجلَه، أو يجعل آخرَه أوّلَه. وما تُؤَخَّرون إلا لأجلٍ معلوم، وما كان رَغَدُكم لِيدوم. لكنْ ألْهاكُم الأملُ فسوف تعلمون، وسُكّرت أبصارُكم أيها المجرمون! نعوذ بالله من الغَفلة، وفرحٍ بجُفْلة. ونستعيذه من الحَوْر بعد الكَوْر، وفتنةٍ وجوْر. وعجزٍ وخوَر، وعيٍّ وعَوَر. ولستُم بأهلٍ لِشيء، أويَصلح رجيعٌ أو قَيء؟ فأبشروا بنارٍ سَموم، وبلايا وهُموم! أتصلّون الجمعة، وتشربون الجِعَة؟ ذهبت أيامكم أدراجَ الرّياح، وما أحوجَكم إلى الصّلاح! أنفقتم أعمارَكم سُدى، وبلَغتُم المدى. فإلى أين المسير؟ وبئسَ المصير!

يا أهلَ الغِيبةِ والنّميمة، وكلّ خَلّة ذميمة! هيّجتم القُروح، ونكأتم الجروح. إنّ مالَكم حادِث، وله وارث. فما لكم تُمسكون؟ أخشيةَ الإملاق، وانقطاعِ الأرزاق؟ قد كنتم كِراما ومالُكم قليل، والجَدْبُ أمْرَأ للهَزيل. ألا وإنّ المالَ لا يصنع شرفا ولا أدَبا، ولا يَهب حسبا ولا نسَبا. ورُبّ أشعثَ أغبرَ لو أقسمَ على الله لأبرّه، وما من ملِك إلا ترك قصرَه وأُودعَ قبرَه. يا معشرَ السِّفْلَة والرَّعاع، وسيّدُهم عبدٌ لا يُبتاع! ما لكم لا تُحرّمون حراما، ولا تُحلّون حلالا؟ أتأمرون بالمنكر، يا أهل النّكثِ والمكْر؟ وتنهون عن المعروف، وللدّهرِ صُروف؟ اتّبعتُم أهواءَكم، وأعجبَتْكم آراؤكم. فعلامَ فخرُكم؟ وممَّ شرفُكم؟ ألا وإنّ في الأَنعام لَعبرة، ولَنِعم المركبُ الهنيءُ أنتم! أينما كنتم وحيثما حَلَلتم.

قال نبهان بن يقظان: فعجبتُ من سِحر بيانه، وسلاطةِ لسانه. وكيف جمع عِلما إلى سَفالة، وصِدقا إلى نذالة! ثم إنه مازال يعِظ تارة ويسبّ حينا، وقد صيّر السّبَّ والفحشَ دِينا. ويتقلّبُ بين العِظة والسِّباب، ويلعنُ آباءهم والأنساب. وقد جعلَ بين الشّتم والوعظِ نسبا، وبين الصّدق والوقاحةِ سببا. كلُّ ذلك وما تَنحنح، ولا تلكّأ ولا تَزحزح. وإنه ما تركَ معنى حتى يُتمّه، ولا هَمّ بغيره إلا أمضاه. ثم إني استطلتُ خِطابه، واستقبحتُ سِبابه. فهَممْتُ أن أكسرَ أضلاعَه، وأصرفَ أشياعَه. ولولا أنه خلط خيرَه بِشرّه، ما تصبّرتُ لتعرّف أمرِه، ولا تشوّفتُ لكشفِ سرّه. ولما أكثرَ اللوْم، وسخِرَ بالقوم، استأنف يقول: ألا وإني نصحتُ لكم، لو كان يُطاع لقصيرٍ أمر، ولستم تَرعَوون إلا بجَلدٍ وجَمْر. ألا وإنّ كثيرَ القول يُنسي بعضُه بعضا. وإنما لك ما وُعي عنك. وعلامَ أخطب، وأحضُّ وأندب؟ إنما أنتم قيعانٌ لا تمسك ماء، وحشيشٌ لا يُبرئ داء. وليست لكم آذانٌ تسمع، ولا عيون تدمع، ولا قلوب تخشع، ولا أنفس تتوب، ولا أرواح تؤوب. وإني داعٍ فأمِّنوا: خيّبَ الله ظنّكم، وردّ دُعاءكم، وقطع أرحامَكم، وطمسَ على أموالكم، وطبع على قلوبكم، وأغشى على أبصاركم. وضُربت عليكم الذّلة، وجعلكم الله قِلّة. يا أبناءَ القردة والخنازير، يا أجسامَ البغال و أحلامَ العصافير! كلُّ ذلك والقوم يُؤَمّنون، ويَهرِفون بما لا يَعرفون. ثم لما أنهى سِبابه، جمع إليه ثيابه. ثم قعد على الخُمْرة، بلا خجلٍ ولا حُمْرة. فالتفَّ حوله العباد، الأقنانُ منهم والأسياد. يُلقون بين يديه، كلُّ امرئٍ مما لديه. فاجتمع له من الدراهم والدنانير، ما دلّ أن للقوم ألبابَ البَعوضِ لا العصافير؟! وأدركتُ أن الرجل وقع على غنيمة، سمينة سليمة. وأن القومَ صُمٌّ بُكم عُميٌ لا يفقهون، وإن كانوا في قَصْرهم يتنعّمون. ثم إني خلوتُ بالواعظ فسألته: لمَ تَفجرُ ولا تَبرّ؟ وتجهلُ والحِلمُ كله خير؟ فقال: إنما أنا كما قال الشاعر:

لئن كنتُ محتاجا إلى الحِلم إنني ؞؞؞ إلى الجهلِ في بعضِ الأحايين أحوجُ

وما كنتُ أرضى الجهلَ خِدْنا وصاحباً ؞؞؞ ولكنني أرضى به حين أُحرجُ

فإن قال قومٌ إن فيه سماجةً ؞؞؞ فقد صدقوا، والذلُّ بالحُرّ أسمجُ

ولي فرسٌ للحِلم بالحِلم مُلجمٌ ؞؞؞ ولي فرسٌ للجهلِ بالجهل مُسرجُ

فمن شاء تقويمي فإني مقوّمٌ ؞؞؞ ومن شاء تعويجي فإني معوّجُ