العوامل الموضوعية والذاتية في أزمة عين العرب السورية

د. محمد أحمد الزعبي

العوامل الموضوعية والذاتية

في أزمة عين العرب السورية

د. محمد أحمد الزعبي

تتعلق الإشكالية التي أشعلت  داعش / الدولة الإسلامية  " أوارها بهجومها  في ١٦ سبتمبر ٢٠١٤ على مدينة " عين العرب " السورية ، والتي باتت مالئة الدنيا وشاغلة الناس  ، بعين ماء  تقع في منطقة جغرافية تتعانق عندها وحولها حدود ثلاثة بلدان اسلامية هي  : سورية والعراق وتركيا ، ويشرب من مائها الفرات كل من العرب والكرد والترك ، و يتعايش  أخوياً ، في كهوفها وتحت سقف بيوتها ، مسلمين ومسيحيين . عرب وأكراد وأتراك فما الذي تغير الآن يا ترى ، حتى باتت سماء سوريا والعراق تعج بطائرات الأصدقاء والأعداء ، وباتت وسائل الإعلام العربية والأجنبية ،  وبمختلف أشكالها وألوانها لا ترى أمامها غير شيء واحد وحيد هو " كوباني " ، وكأن الأرواح التي تزهق يومياً بالعشرات و بالمئات في كل دول الربيع العربي ، ولا سيما في سورية ومصر والعراق باتت خارج  حسابات  واهتمامات الدول الكبرى وحلفائها الصغار. وهذا ماأشار إليه السيد محمد عابش الكبيسي من هيئة علماء المسلمين في العراق بقوله :" الخبر الكوباني له الصدارة في أغلب وسائل الإعلام العربية والأجنبية، فهو مقدّم على القضية الفلسطينية والعراقية واليمنية وحتى السورية، بحيث أصبح الخبر السوري نفسه يسير في ظل الخبر الكوباني . ما هي القصة؟ وما الذي رفع من اسم هذه الناحية المغمورة وطفا بها على سطح الأحداث رغم كثرة هذه الأحداث وازدحامها؟ هناك شيء غير معقول وغير منطقي، فالضحايا الذين سقطوا في هذه المدينة الصغيرة لا يكادون يذكرون أمام الدم الذي جرى ويجري في درعا وحمص وحماة وحلب وإدلب والرقة ومحيط الشام وأحيائها بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيمياوي، أما النازحون والمهجّرون والذين مضى عليهم السنة والسنتان وأكثر فقد غصّت بهم المخيمات وضاقت بهم فجاج الأرض، فكم عدد النازحين من كوباني قياسا بهذه الملايين؟  جريدة العرب القطرية ، تاريخ 28.10.2014 " .

إذن ، فإن السؤال الذي يطرح  نقسه هنا هو : ترى ماهو سر هذا الاهتمام العالمي  بهذه المسالة ؟.  سيقولون الهجوم  الذي تشنه  دولة " أمير المؤمنين !!" أبو بكر البغدادي على  " كوباني " والذي بدأ فقط قبل بضعة أسابيع  . وبدورنا نقول لمن أيقظتهم أخيراً مدينة عين العرب من نومهم العميق ، الذي قارب نومة أهل الكهف ، بخ بخ أيها الأصدقاء ( أصدقاء الشعب السوري)  المحترمون ! ، أتظنون  أن الذين ثاروا على الظلم والظالمين في دول الربيع العربي ، لا يملكون عقولا قادرة على تمييز الموقف الصحيح من الموقف الكاذب عند الآخرين . لا يا سادة ، ( لقد أخطأتم التشخيص !)  

فنحن نعلم وأنتم تعلمون أن في سوريا وفي العراق " داعشين اثنتين " : داعش لكم وداعش عليكم ، داعش التطرف الإسلامي ، الذي يتماثل  فيه الدين الإسلامي مع كل أديان وأيديولوجيات الدنيا ، بوجود متطرفين ومعتدلين ، وداعش إيران والأسد والمالكي وغيرهم . الأولى مرفوضة دينيا من الأغلبية الساحقة من المسلمين في كل أنحاء العالم  ، وذلك بسبب تطرفها وبعدها عن الإسلام الحقيقي الذي هو الإسلام الوسطي ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، البقرة 143) ،  والثانية مرفوضة دينيا وقوميا ووطنيا بسب كونها جزءا من شبيحة نظام الأسد في دمشق ، والمالكي في بغداد ، وولي الفقيه في طهران . هذا مع العلم أن النظام السوري قد ساهم أيضاً بتشجيع مثل هذا التطرف الديني بصور وأشكال مختلفة  معروفة ، من جهة ليكسب تأييد وتعاطف الأنظمة والحكومات الغربية ، ( ومن ضمنها إسرائيل ) ، ولاسيما الدول التي تشترك معه في عدائها للإسلام  والمسلمين  ، ومن جهة أخرى  ليضحك على ذقون بعض الأقليات في سوريا والوطن العربي، في أن بقاء الأقلية العلوية في السلطة  في سورية , هو أمر ضروري لحمايتها من بعبع " الأكثرية السنيّة " ! ، وشاهدهم على ذلك ماتقوم  به  دولة " أمير المؤمنين " في العراق والشام من رجم وجلد وقطع للرؤوس ، متجاوزة حتى فتاوى أقرب الناس زماناً ومكاناً إلى رسوالله  ( ص ) كعمر ابن الخطاب ، الخليفة الثاني ، رضي الله عنه .

لاشك أن الموقع الجغرافي لمدينة عين العرب ( كوباني ) , وهو عامل موضوعي ، خارج عن إرادة الناس ورغباتهم ، هو من أعطى ثلاثي ( الأتراك ، العرب ، الأكراد /  تركيا ، سوريا , العراق ) المرتبط بهذا الموقع الجيوسياسي دورهم في هذه المسالة ، ولاحقاً دور الآخرين المتحالفين مع هذا الطرف أو ذاك ، وهي أدوار تتسم بالغموض والازدواجية والتناقض ، وبالتالي هي بحاجة إلى تفسير علمي ، يشير ليس فقط إلى ظاهر الأمور ، وإنما إلى ماخفي منها أيضاً ، وهو ماسنحاوله في الفقرات التالية  :

1. سقوط قناع المقاومة والممانعة عن نظام عائلة الأسد ، تلك الكذبة الكبيرة التي طالما صدع رأسنا بها كل من الأب ( حافظ ) والإبن الوريث ( بشار ) ، وذلك عندما أعلن وزير خارجية بشار قبل بضعة أسابيع ، بأن نظام المقاومة والممانعة ، يقبل بقيام " التحالف / أمريكا " بانتهاك حرمة الوطن ، بشرط واحد فقط ، ألا وهو " أن ينسق معنا ؟!" ، فياله من شرط تعجيزي مضحك ومبك في آن واحد . إن أكذوبة المقاومة والممانعة ، هي عملياً الوجه الآخر للميدالية، التي يمثل وجهها الأول الأكذوبة الثانية ، ألا وهي تعامل دول الفيتو الخمس وإسرائيل وإيران وبعض الدول العربية ، مع نظام عائلة الأسد على أنه نظام مقاومة وممانعة فعلاً ( !! )، وذلك في إطار توافق هذه الأطراف على تضليل وخداع الجماهير العريضة في كل من سوريا والعالمين العربي والإسلامي ، بهدف المحافظة على استمرارية حكم عائلة الأسد المعادية لبعضهم شكلاً ، والموالية مضموناً لهذا البعض .

2. يمثل الدين الإسلامي الوسطي (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ،البقرة 143 )، الزاد القيمي والأخلاقي لمعظم الجماهيرالسورية في نضالها السياسي والاجتماعي من أجل الديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والمواطن ، وفي رفضها لحكم الاستبداد والفساد الذي تفرضه عليها الصواريخ والطائرات والدبابات والبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي ، وأيضاً في رفضها للتطرف الإسلامي ، الذي كان وجوده ضرورياً للنظام السوري وحلفائه، وذلك للتغطية على التدخل الطائفي المضاد ، والمسكوت عنه ،والذي استدعي( بضم التاء )  لقمع ثورة آذار الوطنية في سوريا. إن رأس الإسلام الوسطي ( وليس رأس الإسلام المتطرف )هو المطلوب تطبيقيّاً اليوم سواء عربياً ( الأنظمة ) ،أوغربياً ( وهو مايعكسه تصريح أوباما بأن الحملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية / داعش ، سوف تستمر ثلاث سنوات !!)، أو إيرانياً . إن الحملة المسعورة على ثورات الربيع العربي، والتي بدات قبل عامين ، ولا سيما في سورية ومصر والعراق، إنما هي ، عملياً ، حملة ضد التعايش الأخوي بين أبناء الوطن الواحد ، والأمة الواحدة ، وضد الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان بل وضد مبدأ المواطنة نفسه ، علم البعض بذلك أم لم يعلموا ، ويظل الفارق ،على أية حال ، بين من يدري ومن لايدري هنا ، هو فقط في حجم  المصيبة  وليس في وجودها .

3. يمثل الإخوة الكرد جزءاً أصيلاً من النسيج الوطني في كل من سورية والعراق ، ولا نجد من جهتنا مثلباً سياسياً أو اجتماعياً ، سواء في انقسام موقفهم بين نظام عائلة الأسد، وثورة آذار 2011 ، أو في مطالبتهم بحقوقهم الثقافية والسياسية والقومية بما هم إثنية كردية خاصة ، يجمعها مع العرب النضال المشترك وطنياً وإسلامياً ، ضد الغزاة والأعداء ، وليس أسماء صلاح الدين الأيوبي ، وابراهيم هنانو ، ويوسف العظمة ، عنا ببعيدة. إن مانرغب التوقف عنده هنا ، هو أن تضارب وتكالب المصالح الأجنبية على الوطن العربي عامة ، وعلى سورية والعراق خاصة ، سمحت لعوامل الفرقة بين القوميتين العربية والكردية أن تطل برأسها ، على حساب انتمائهما المشترك إلى نفس التاريخ ونفس الجغرافيا ، وبالتالي على حساب نضالهما الوطني والقومي المشترك ضد أعداء العروبة والإسلام . إن عين العرب ، هي ذات كوباني ، وهي ذات مرشد ينار ، وإن سكانها من العرب والكرد والأرمن وكل الآخرين إنما هم أخوة تجمعهم روابط التاريخ والجغرافيا ، قبل أن تفرق بينهم المخططات الداخلية والخارجية ، التي لابد وان تكون في نهاية المطاف ضد مصالح الجميع ، وبالذات ضد مصالح العرب والكرد في آن واحد.

4. تتناقل الأقلام والألسن وسائل الإعلام المختلفة ، آراء وتقويمات مختلفة حول الموقف التركي من الصراع المسلح الدائر في عين العرب وحولها . ويمكن التوقف ، بما يتعلق بهذا الموضوع ، عند ثلاث محطات  : الأولى هي  الموقف الإيجابي الثابت والمستمر لنظام حزب العدالة والتنمية الإسلامي من ثورة آذار السورية 2011 ، سواء فيما يتعلق باستقبال مئات آلاف الفارين من جحيم الأسد وشبيحته ، أو بفضحه المستمرللممارسات الديكتاتورية والطائفية لنظام الأسد  ، والثانية  هي التخويل الذي منحه البرلمان التركي بتاريخ 2.10.2014  للحكومة التركية بإمكانية إرسال جبشها خارج الحدود إذا اقتضت الضرورة ، وذلك من أجل التصدي لهجمات إرهابية قد تتعرض لها تركيا من سورية أو العراق ، وهو تخوبل صوت ضده حزب الشعب الكردي ، ثم عاد لمطالبة الحكومة التركية بضرورة التدخل قي عين العرب السورية (!!) لحماية الأكراد من هجوم داعش عليهم .وهو موقف ، أقل مايمكن وصفه به ، هو أنه موقف متناقض وغريب في أن واحد .أما المحطة الثالثة فهي شروط الحكومة التركية على الولايات المتحدة الأمريكية لدخولها التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش )  ، وبالتالي إمكانية تدخلها العسكري في عين العرب ، والتي ياتي في طليعتها أن تكون ضربات التحالف موجهة بالإضافة إلى داعش إلى نظام بشار الأسد أيضاً ، والذي هو السبب الرئيسي  في وجود داعش ، بل وفي تنمية الإرهاب في المنطقة العربية كلها . وإذا جاز لنا استعارة تشبيه جون كيري ، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ، في مؤتمر جنيف 2 ، لنظام بشارالأسد ، فإن هذا النظام يعتبر بمثابة المغناطيس في جذبه للمتطرفين إلى سوريا من كل أنحاء العالم . إن شروط النظام التركي للدخول في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد داعش ،هي برأينا شروط منطقية وأخلاقية وسليمة ، على الأقل فيما يتعلق بالحالة السورية .

5. إن مانريد أن نختتم به هذه المقالة ، هو تقديرنا الخاص ، بأن كلاًّ من : عاصفة الصحراءعام 1991 ( حلف حفر الباطن الثلاثيني )، والغزو الأوروأمريكي للعراق عام 2003 ، وانقلاب السيسي على محمد مرسي عام 2013 في مصر ، والفزعة العالمية بقيادة أمريكا لمساعدة الأكراد في كوباني ( عين العرب ) 2014 ، وتجاهل اركابات نظام عائلة الأسد الوحشية والهمجية ضد الشعب السوري من عام 2011 وحتى هذه اللحظة ، إنما تصب جميعها في طاحونة مراسم " دفن الربيع العربي " ، وإعادة تقسيم دول ودويلات سايكسبيكو، إلى مايدخل الوطن العربي عامة ، وسوريا ومصر والعراق خاصة في مرحلة انعدام الوزن ، وانعدام القدرة على الفعل  ، وبالتالي في مرحلة  " الله يجيرنا من أعظم".