الانفلات الإعلامي في مصر... إلى متى؟

انه مزيج نادر من الفوضى والعشوائية والسوقية والسب والقذف والاختراق الامني، ذلك الذي اصبح يميز اغلب وسائل الاعلام في مصر اليوم سواء المرئية او المقروءة. بعض المحسوبين على الاعلام، ولا نقول الاعلاميين، لم يعودوا يتورعون عن قول او عمل اي شيء على الشاشة. الفاظ نابية يعاقب عليها القانون حتى اذا قيلت في خناقة في شارع وليس على الهواء، اقوال او افعال بذيئة، وشتائم وتهديدات للخصوم لا تستثني الامهات والزوجات، في تناقض صارخ مع تقاليد المجتمع المصري وقيمه التي تضع «خطوطا حمراء» حتى في اشد حالات الخصومة والاشتباك. 
مخبرون معروف تاريخهم في العمالة لاجهزة الامن تحت غطاء «العمل الصحافي» يوظفون منابرهم الاعلامية في توزيع التهديدات والاتهامات او الصراع مع جهات داخل النظام او خارجه، ويصبون اللعنات على ثورة يناير باعتبارها «مؤامرة» او «نكسة اسوأ من هزيمة عام 67»، ويشتمون كل من ايدها باعتباره «عميلا للامريكان او الاخوان»، فيما يكيلون المديح لعهد الرئيس الاسبق حسني مبارك، مبشرين ببراءته المرتقبة. حملات من السب والشتم والاغتيال المعنوي لم تعد تقتصر على حزب او جماعة او دولة معينة، بل تشمل كل من يخالفهم الرأي، في تحريض مباشر على القتل احيانا، يستوجب مساءلة قانونية، اذا كانت هناك دولة قانون حقا. 
انها حالة معقدة من الهستيريا الانفعالية والبارانويا، التي لاعلاقة لها من قريب او بعيد بمهنة الاعلام، ولا يمكن تبريرها حتى في مواجهة «اعلام تحريضي او منحاز» على الجانب الآخر.
ان استمرار هذه الحالة يستدعي اسئلة مشروعة بشأن الموقف الحقيقي للنظام مما يحدث؟ والتعهد بتطبيق ميثاق للشرف الاعلامي، الذي قطعه الرئيس عبد الفتاح السيسي على نفسه وضمنه في «خارطة الطريق» في الثالث من تموز/ يوليو 2013؟
ويدرك الذين يعرفون الواقع الاعلامي في مصر انه اذا اراد النظام ان يمنع ظهور اي برنامج او مذيع او يوقف هذا السيل من الاسفاف الاعلامي، فانه يستطيع ان يفعل هذا خلال ساعات او دقائق معدودات. وتتباين التفسيرات لهذا الصمت الرسمي المريب تجاه كل تلك الجرائم الاعلامية. اذ يعتقد البعض ان النظام يظن انه مازال في حاجة الى هذه «الابواق الاعلامية» لحشد التعاطف مع الجيش والشرطة بشكل خاص عبر ابتزاز مشاعر المصريين، وهو ما يوفر غطاء سياسيا ويشتري وقتا للنظام في الوفاء بتعهداته السياسية والاقتصادية، وخاصة في ظل تفاقم عدد من المشاكل في التعليم والصحة والنقل والعمل والاسعار وغيرها. 
ويرى اخرون ان السيسي لا يوافق على التجاوزات الاعلامية، خاصة عندما تتحول الى هجمات شخصية، وهو ما يفسر اعتذاره للشيخة موزا بنت المسند لدى لقائه مع امير قطر في نيويورك مؤخرا. الا انه يعتبر بعض اولئك الاعلاميين قاموا بدور مهم في الحشد الشعبي قبل الثلاثين من حزيران/يونيو، ناهيك عن قناعته بأن «الاعلام يسهم بتشكيل نحو ثمانين في المئة من الرأي العام في مصر، وان عبد الناصر كان محظوظا لان الاعلام كان معه»، وهي قناعة تحتاج الى مراجعة لعدة اسباب منها:
اولا- ان هيمنة مبارك شبه الكاملة على وسائل الاعلام لم تمنع قيام ثورة يناير.
ثانيا- ان تلك الجوقة الاعلامية فاقدة المصداقية والاحترام عند الاغلبية الساحقة من المصريين فشلت في حشد الناخبين ابان الانتخابات الرئاسية.
ثالثا- ان الغضب الشعبي خلال الايام الاخيرة من التدهور في مجالات الامن والخدمات الصحية والتعليمية، اثبت انه اقوى من قبضة تلك الجوقة، حتى انها اضطرت الى مجاراته والمطالبة باستقالة بعض الوزراء. 
وبغض النظر عما يظنه النظام، فان المحصلة النهائية تتناقض تماما معه، اذ ان توريط الرئيس السيسي نفسه مع تلك «الجوقة الاعلامية» من المنافقين والفلول والمخبرين لا يمكن الا ان يضر صورته عند كثير من مؤيديه، الذين لم يمنحوه ابدا شيكا على بياض، بل ربطوا دعمهم له بتحقيق اهداف الثورة، وليس تشويهها والقضاء عليها.
وايا كان التفسير، فان المسؤولية عن استمرار هذه الحالة الاعلامية التي لا تليق بمصر وتاريخها ومكانتها على اي حال، انما تقع حصريا على الرئيس السيسي الذي لم يحفظ تعهده للمصريين بميثاق شرف اعلامي، ولم يطبق ما جاء في الدستور المعدل من نصوص واضحة بشأن اصلاحات شاملة لوسائل الاعلام جميعها.
وللانصاف فان مشاكل الاعلام المصري قد تكون اكبر من غياب الميثاق او الشرف، وان ثمة صراع مصالح بين «حيتان ومليارديرات» يفرض اجندته، الا انه بدون ضمان حد ادنى من المهنية والموضوعية والاحترام للقيم المجتمعية، فان الآثار العكسية لهذا «الاسفاف الاعلامي» الذي يستفز المصريين في كرامتهم، وشهدائهم، قد تكون «لعبا بالنار» واشد خطورة على النظام من اي جماعة او حزب او حتى المشاكل الاقتصادية التي يواجهها.