تداعيات على باب اليمن

د. أسعد أحمد السعود

د. أسعد أحمد السعود

جبل نُقُم ..... :

( قال سآوي إلى جبل يعصمني...)من قوله تعالى في سورةهود -43---

اعتراني سؤال محير وهو على قدر من السهولة  ،لكنه بدى لي ممتنعاً وذلك بعد انقضاء الوهلة الأولى من ولادته  ، سيما وقد تهيأ لي أن(نقم ) كان يقاسمني ذات الشيء الذي كنت أحسّ به وأعيشه، ساعه وقوفي في ركن هادئ من أطراف بيوت صنعاء القديمة ، وجبل نقم بضخامته وعظمه وشموخه، يبعث على الهيبة من جراء تبدل الوانه من حين لآخر . أراه كاملاً جاثماً أمام ناظري ، لم أستطيع أن أصفه مباشرة، أو أن أتبينه ولا حتى الإحاطة بتقلب ألوانه ، كنت أنظر اليه تارة متوارياً بنظري ثم التفت الى جهة أخرى من البيوت الباسقة الملونة أيضاً تارة أخرى لم أستطيع إطالة التحديق  به  لفترة متواصلة مرة واحدة   . كذلك  لما كنت أطيل النظر فيه  يبدو لي ( خجلا )وأنا مستغرق في محطة حيرتي   كأن به يشاركني حيرتي، فهل كنت أبادله ذات الشعور من غير أن يعي أحدنا الآخر ؟.

كنت أقرأ حالتي وما تملكها  بساعة صدق أردد السؤال المحير، وأما عن جبل نقم فلماذا وكيف وصفته بحالة (خجل)؟

تركته في الحال ثم قدمت اليه في ساعات الصباح ، فكان ممتزجاً مع سحائب ضبابية تخترقها بين الحين والآخر خيوط ذهبية مرتدة قادمة من خلفة تعيد بضعاً من ملامحة الى زرقة البحر الفيروزية الخلابة  ، وأخرى الى عتمة الصخور الرمادية ، كأن به يتوارى خجلاً خلف ستارة ( دانتيل) تشف  منه شيئاً  ، وتخفى  آخر ، وهكذا بقي الى أن  أضاءت الشمس وألقت بأوائل خيوط أشعتها من خلفه على نتوءات قمم صخوره الهائلة ، فبدى كأنه محاط باكليل من وهج ألماسي يخلب اللب .

ولما أكملت الشمس نصف دورانها استطاعت أن تكشف بقية محاسنة المكللة بألوان الطبيعة اليمنية الفتانة  ، واستمرت حتى أشاعت على المدينة وما حولها من جبال يصغرون نقم حجماً وعلواً ألوان من أشعه غروبها الفتانة، فتبدل كل شيء وكأن كل ما كان هنا في هذه الهضبة الرحبة الفسيحة قد تبادل مع جاره الثوب، وتهيأ كل من كان هنا   لعرس مسائي رباني خلاق ، ثم ما لبث الى أن بدأت حفلة الاختفاء وتكلل الجميع بثوب الليل الأسود فلم يعد يرى من نقم غير وميض بعض الأنوار تتناوب بتواتر أخاذ من بين ثناياه العالية الشاهقة .

لا يمكن لنا حصر كثير من التباين بين ما يظهر به  لنا جبل نقم في تلك الساعات من الأيام ، مع ما تصير به حالته وملامحه عندما تدخل صنعاء المدينة كلها، وما حولها من جبال أخر ، ونقم خاصة من جهتها الشرقية، أثناء مواسم الأمطار الشهيرة بغزارتها وقوتها وكيفيتها  !؟

  ترصدت حالات ( كرمه) في السماح لبعض من أشكاله وبعض من ملامحة أن  أشاهدها في تلك المواسم فلم اوفق إلا عن مسافة لابأس بها ،ومع ذلك فلا يزال في كل تلك الحالات والأزمنة وكأنه مصر على البقاء في ( حالة خجل) ولم أسجل غيرها أبدأ ، أ و هكذا كان يخيل الي في مشاهداتي المستمرة له .

قادني إصراره هذا الى أن أسال أحد الاصحاب من قاطني صنعاء القديمة ذات السؤال المحير :

-         هل ترى يا صديقي من خجل يسود ملامح جبل نُقٌم ؟؟

سكت صديقي قليلا ثم ابتسم  ثم تبعها بضحكة صغيرة مزجها بطيبة ظاهرة ،  ولأول مرة أرى صاحبي يتحدث بلهجته الصنعانية اليمانية بتنهيده لا أعرفها إلا بأهل الشام ، وأردف يقول :

-   جبل نقم قوي، هو قطعة من أي واحد منا ،  عزيز علينا ، الا تراه يحضن صنعاء وكأنه يحيطها بحنية ..!! وسكت قليلاً ثم تابع :

-   اذا كنت يا صديقي تراه خجلاً ، فنحن لا نرى فيه حزناً أبداً ، مثلنا تماماً ، نحن لا نعرف الحزن ، جبل نقم قوي وما نراه إلاّ ضاحكاً .!!

رحت منفرداً بعزلتي أبحث عن شئ أجده مشتركاً بين ما قاله  من كلمات وبين وصفي لجبل نقم :

وتساءلت لماذا حصر وصفه بكلمة القوة ونفى عنه صفة الحزن وأنا الزائر أراه أول مرة ووصفته كما بدى لي( خجلاً )!!:

لم أجد مرجعاً لهذه المفردات سوى ( مفردات القرآن الكريم العظيم ) عندما تحدثت آياته المباركات عن الجبال في مواضع كثيرة ، وكانت أهمها وأعظمها  عبرة الآية التي ضرب الله بها المثل  :(  لو ا نزلنا هذاالقرآن على جبل.... )الحشر-21 -،

فتأملت مفرداتها ،ولاحظت أنه تبارك وتعالى لم يضرب المثل على غيره من مكونات الأرض مفردة من بحر ماء أو أرض مستوية أو وادي عميق أو شجر أو ريح عاتية عاصفية ،واختار الجبال ، جل علمه ، ثم تبعته بسؤال ثان عن آية كبرى أخرى في سورة الاحزاب (72) " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال ...) .

-    لماذا ضرب الله تبارك وتعالى المثل بالسموات والأرض ... وتفرد بالجبال معهما بالرغم من كثرة خلق الله الأخرين الذي لا يحصى لهم حاصي غيره ؟.         وبمجرد ذكر هذين السؤالين وتثبيتهما على السطور ، تحررت معهما أسئلة كثيرة متتالية متناوبة في  الأولوية والقوة ، متزاحمة في سطوع البيان والرأي .

ولكن :

وجدت فكرة التصنيف  منفذاً لسهولة تداول المعرفة ،وسبيلا لوضع مؤشرات واضحة حقيقية ، فالأمثلة التي ضرب الله تبارك وتعالى المثل بالجبال ، وجدت منها الآتي :

1- ضرب الله بها المثل بالعبادة  .

2- ضرب الله بها المثل بالخشوع .

3- ضرب الله بها المثل بالطاعة .

4- ضرب الله بها المثل بالوهن في حمل الامانة .

5- ضرب الله بها المثل في المنعة ،فيحتمي بها المؤمنون وقت الشدة .

6- ضرب الله بها المثل في كمال الصنعة ، حتى لاتميد الأرض فهي كالاوتاد .

7- ضرب الله بها المثل للرهبة بضخامتها وعلوها ( رواسي شامخات ).

وسبحان الله وبحمده، على هذه الصفات التي اجتمعت بها، وهي تقربنا جدا من صفات اوجزها رب الخلق تبارك وتعالى في سورة الفتح الآية 29  في بلاغة اعجازية لصفات المؤمنين ،في التوراة وفي الانجيل  :

1-في التوراة :أشداء على الكفار، رحماء بينهم ، ركعا سجدا ،سيماهم في وجوههم .

2-في الانجيل :الزرع النظر القوي، صلب بسوقه، باسق بصنعته، يغيض ويرهب أعداء الله.

 ومن رؤيتنا وقرائتنا للتشابه والتقارب ،بل التماثل او بعضا منه ،مابين صفات الجبال في القرآن العظيم والمؤمنين من عباد الله تبارك وتعالى ، تقودنا للتساؤل الآتي :

-   هل لهذه الصفات التي قرأناها علاقة  بشئ اسمه خجل أو استحياء ، يهيمن على محيى جبل نقم وأمثاله من الجبال عامة ؟ .

-   هل مجاورة المؤمنين لها بكل ما تعني المجاورة من معان، وهي حاضرة ليل نهار تصدع في أجوائها التكبيرات والتهليلات ،الله أكبر،الله أكبر، علاقة بما آل اليه حالها حينما طغى عليها الوهن لعدم حملها الأمانة !! ؟.

-   هل وصف المؤمنين ب (سيماهم في وجوههم....) ينطبق كذلك على الجبال فترى الخجل والاستحياء يكلل هاماتهم العالية !!؟.

-   هل المحبة والتواد والتراحم صائر بين هذه الجبال من جهة ،وبينها وبين من يجاورهم من المسلمين والمؤمنين عامة ، ولكنهم متواضعون رغم قوتهم ورغم هيبتهم العظيمة ،خجلون لاينطقون  !!؟.

-   ان الجبال  أجناد عظيمة من جنود الله تبارك وتعالى ،تأتمربأمره وقت مايشاء وكيف مايشاء (ياجبال أوبي معه......) سبأ - 10 – وا لآية المعجزة  علامة معروفة يوم القيامة لتخويف المكذبين الكافرين ،  يستيقن بها المؤمنون (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب...)النمل-88.

-         ان حبيب الله وخاتم أنبيائه المصطفى صلى الله عليه وسلم،حينما كان يطلع عليه من على بعد نظر (جبل أحد )،تتهلل أساريره الطاهرة،فيقول:(هذا جبل يحبنا ونحبه )البخاري -4083-

-   هذه خاصية ربانية بين الجبال وبين أنبيائه المنصورين بمعجزاته وآياته، فهل ترتجى هذه العلاقة الربانية بين الجبال وبين عامة المؤمنين الموحدين،اذا ما طلبها عبد مؤمن من ربه لنصرة وحفظ دينه !!؟.

-   ان الشواهد كثيرة في التاريخ ،جاء ذكر بعضها في آيات الله ،كأصحاب الكهف، وصاحبا الهجرة المباركة في الغار ، وأخرى في السيرة النبوية الشريفة، بتعبده صلى الله عليه وسلم في غار حراء ،وكذلك في غزوة جبل أحد ، وتلك التي ذكرت في سيرة الخليفة الفاروق ،حينما صدع بقولته من على منبر رسول الله في المدينة ( الجبل..ياسارية الجبل...) .

-   ان الشواهد كثيرة ولا تحصى، وهي آيات عظيمة في حياتنا الدنيا،أن الجبال كل الجبال وبلا استثناء على ظهر البسيطة، هي في صف المؤمنين الموحدين لدين الله، وأن كل من (لجأ اليها في السابق البعيد أو القريب ،ممن عادى دين اللهم وسنة نبيه ،وحارب وشق صف المؤمنين بكل الأشكال والمقاييس ،  لجأ الى الجبال يحتمي بها،ويتخذها درعا وامنا وسكنا)،كل أولئك ،ومع مرور الدهور والسنين والأيام، لم ينالوا ،ولم يحصلوا على بغيتهم تلك أبدا ،وهم لايشعرون، وهم لايفقهون، وظلوا في غير مأمن أبدا،

-   وكان أول من ذكرته آيات الله في تلك الحالة هو ابن نوح عليه السلام ( قال سآوي الى جبل يعصمني .....) هود-43-

-   الجبال لاتعصم كافرا محاربا للأمر الله،وان استقر فيها قرنا،فسيأتي قرن آخر تلفظهم فيه ،ويجبرون على هجرتها، ويأنفون العيش فيها مرة أخرى.

-    وخلال وجودهم فيها ،ظلت أعينهم ترنوا بالغدر والانتقام  من أهل السنة والكتاب،ألذين بقوا على حالهم وحلهم يسكنون بسيطتهم ،من السهول والوديان ويجاورون الجبال من أطرافها وأبحضانها، يرفعون تكبيراتهم،الله أكبر،الله أكبر.

-   وهاهم أولئك وقد ضاقت بهم الجبال ذرعا وهم لايفقهون،وقد بدأوا من كل حدب جبل ينسلون  ،ويغزون أهل الايمان في دورهم وبيوتهم ،ويستولون على البلاد والعباد، وكلهم  يقين أن الدنيا قد حيزت لهم  بقوتهم أو بكثرتهم،أو بتدبيرهم، أو مما أكسبتهم عيشتهم المنعزلة في الجبال من قساوة وجلف وصلف وبذات الوقت ظلوا بغييهم وبجهلهم ،وقد زادهم الكفرتجبرا ،ولم يتفير بحالهم سوى ثوبهم ،وهم بهذه كالأفعى ،لايتغير فيها سوى جلدها ،والله المستعان .

-   سوف يرون أن العودة الى الجبال تكون عليهم حسرة ،ونسلهم وتمددهم وفسادهم سوف يكون وبالا عليهم ،ونذيرا بانتهاء دعواهم وامترائهم باذن الله،

-   وها هو جبل نقم في صنعاء اليمن، وقاسيون في الشام، والمكبر، والمقطم،وجبل أحد،والصفا والمروة ،وأبي قبيس ،والاخشفين، وجبل النور،وغيره مما نعرفهم وما لانعرفهم،كل هؤلاء،جند لطاعة الله.محببة قريبة من قلوب المؤمنين المجاورين لها........،

-   و جبال أخر مشهورات في الكثرة والمنعة بجمال خلقها وصنعتها ، بما آوى ولجأ اليها من حارب الله ورسوله،وقد أغرتهم الحياة الدنيا بمفاتنها التي ذهبوا بها واليها يوم ما ،وقد عادوا  ونزلوا منها الآن ، وقد انقلبت الموازين الدنيوية في معتقداتهم لصالح دعواهم وامترائه ،وسوف يعلمون اي منقلب ينقلبون..........!!.

تداعيات على باب اليمن ( 2 )

-          ( .. فناظرة بم يرجع المرسلون ... ) !!

حط رحال ( الأنا ) مختصراً عصوراً ودهوراً عند هذه البوابة الفولاذية بمساميرها ومفصلاتها وقضبانها وألواحها ، ساكنة هادئة وادعة بين كتل ( صخور الحبش ) المصاحبة لها منذ أن حط عليها القول فكانت منصاعة طيعة لينة ، وحالها من حال ما كانت فيه يوم أن كانت تحمل على كاهلها عبئاً ثقيلاً تئن في عبوديتها لغير خالقها .

وما زالت إلى هذه الساعة  التي نقف فيها أمامها في أوج قوتها لم ينقص منها شيئاً . وعادني تذكر ميزان الخلق في قول رب الأرباب تبارك وتعالى ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم...) 4 ق/حيث كان لهذه البوابة حكايتها بقوتها وكذلك ( صويحباتها ) الكتل الصخرية العظيمة ، لم يفارق بعضهن بعضا منذ أن أمتدت إليهن يد الانسان منذ العهود الأولى ، وقد كن آنذاك طائعين ليّنين عندما أرتفع وعظم (بهن) شأن ( غمدان) وملوكه في عصر انفردن بالبدعة والقوة بمناحي الحياة العمرانية والاقتصادية والاجتماعية  .

وها هي  ومنذ ذلك العهد لم يطرأ عليها تغيير يذكر سوى وظيفتهن فقط ، وأصبحن ومنذ أن سطح (نور الهدى) يحملن ويحمين بيت عظيم من بيوت عبادة الله وحده في صنعاء القديمة .

وآه ... وألف أه ايها الانسان .. أين ما كنت ومن أي مكان تكون وبأي عمل تعمل ..

تعال أسمع وأنظر وخذ ما تشاء واترك ما تشاء من هذه البوابة وصويحباتها  المهولات ، من قصص وعبر ودروس واستجع منها ومعها حكايات منابع الحكمة اليمانية التي أشاد بها حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم قال تعالى { قالوا نحن أولوا قوة وأولو باس شديد ....} . 33 النمل .

عجيب أمر هؤلاء من سادة ومستشارين وكهنة ورعية وقد أتفقوا وبما تكوّن لديهم من علم أن فيهم أمران أو عاملان كانت تقوم عليهما هيبة مملكتهم ، فتهاب لها بلاد وأقوام مهابة الى حد المهانة خاضعة خائفة في ظلها ومن حولها .

الأول  : لقد استقى هؤلاء القوم ( قوم غمدان) منعتهم من منعة الصخر وقوته جماله ونوعيته .

الثاني : وكذلك من قوة الحديد وبأسة الشديد .

وكلاً هذين العاملين هما الآن أمام ناظرينا يرقدان بأمانة يضربان المثل الصارخ الصادح كهيأتهما يوم أن (لان) كل منهما بأيدي مهرة وجعلوهما وكوّنوا منهما ( بوابة ) لقصر أو قصور لا مثيل لها لا تعد ولا تحصى تفردت بحسن صنعتها وجمال بنائها فطارت سمعتها وصيتها في الآفاق آنذاك ولا عجب من ذلك فقد أشادت آيات القرآن العظيم بكثير من تلك في قديم الزمان وخاصة جاءت بالذكر عن عرش بلقيس ملكة سبأ وأما ما يخص حديثنا عن هذه البوابة فكانت الشاهد الأيسر والأبسط لما جاء ذكرة عن الحديد في قول الله عز وجل في سورة الحديد (25) { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ...} .

وكذلك يوم بعث نبي الله داود عليه السلام وسخر الله له الحديد { .... وألنا له الحديد .. } . 10 سبأ.

ويبدو أن معاصرة حياة النبي داود عليه السلام مع حياة قوم مملكة سبأ ورعيتها كما أشارت إليه أيات الله عز وجل لم تكن مثارتساؤل أو استغراب هو يبعث على المضي في تتبع أيام ( القوة والبأس الشديد ) وأن جزءاً أو كلاً من (صنعة لبوس ) و ( قدور راسيات )  وبوابات فولاذ وعدة حرب كان صانعها ملهم بالعلم والعمل والقوة  ، مثار جدل وتأكيد وأن أقواماً هنا كانت تتبا يع وتقتات  مع أقوام هناك، وأن انتشار ( الحكم العدل ) والسلم والأمان اللذان كان يرخي ظلالهما من الأرض المبارك حولها بقيادة نبي الله داود الى كل الأطراف صدحت بشريعة ذاعت فائدتها وأصبحت قبلة لكل مناشد للأمن والأمان والعدل كالذي حدث أيام حكم نبي الله يوسف عليه السلام فتكونت من خلالها جيوشاً بعددها وعتادها وقامت على أثرها أمم ومنها هذه التي ستذكرها هنا وآثارها ماثلة أمام ناظرينا الأن ، بنيت القلاع والقصور من أقسى الصخور وأصلبها فاختاروها بعناية ودراية حتى تمكنهم من المنعة والصمود ولم يكتفوا بذلك فحسب بل وانتقوا منها الأجمل بالألوان الاخاذة المتعددة كالحمراء والصفراء والخضراء والسوداء والبيضاء ومنها صخور الرخام باشكالة وأبدعه حتى أنهم وصفوا الشفافة منها ما تشبّه بالزجاج الصافي كما وصفته آيات الله تعالى { ودخلت الصرح فحسبته لجّة ...) النمل .

ومسار حديثنا ينعطف على تساؤل بأنه كيف التقى الوصفان ( وصف قوله تعالى عن الحديد ( فيه بأس شديد ) وقول رعية الملكة يصفون حالهم ( نحن أولو قوة وبأس شديد ) .

وكأنهم يكررون القول ويشبهون أنفسهم وحال مملكتهم بالحديد تماماً فكيف توصلوا الى  ذلك :

ولا شك أن هؤلاء القوم أهل كفر في عبادة غير الله كما قال عنهم طائر الهدهد بقوله الله تعالى : ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) .24 النمل .

ولذا كانوا يعدوا العدة ويهيأ الجيوش الجرارة المسلحة بالدروع والسيوف والحراب والخوذ والسلاسل والأدوات الحديدية ومن هذا شملهم القول ( نحن أولوا قوة ) و( بأس ) .

باللفظ والمعنى بآن واحد ، ويعقب من أشار على مليكته بلفظ ( الشدة ) مؤكداً على ذلك .

ويقول أهل التفسير أن المراد هنا بالبأس الشديد هو القهر والأذلال ، كما هي صفة الحديد بطبيعه خلقة وصنعته ، وبالمعنى الذي تصير اليه حرب الجيوش القوية بالتدريب وبالعدد والعتاد الكثير تصير اليه نتائج الحرب بينها بالانتصار للأقوى أولاً أي نزع النصر من العدو بالقوة ولا يكتفي المنتصر هنا بالانتصار فقط بل ويتبعه بقهر المنهزم قهراً يصل به الى إهانتة وذله واستعباده واسترقاق البقية الاحياء ولذا قال عنهم عز وجل ( بأسمهم بينهم شديد ...) الحشر 14

أي بين الكفار بعضهم لبعض فكيف آلت الحكمة بالرد لمن قال نحن أولوا القوة والبأس . ؟!

وقد سبقنا بالجواب والتساؤل قول النبي سليمان عليه السلام حينما جاءته رسل سبأ قال تعالى { ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجهم منها أذلة وهم صاغرون ) 37 النمل .

ونرجع بالقول الى سبأ قبل هذا كيف ساست الحكمة مليكتهم وتدبرت الأمر الجلل الذي خيم عليهم جميعاً .

اولاً : الحكمة الأدبية في معاني اللغة واختيار المفردات الموجزة : وهذا مرده يرجع إلى تأدب الملوك في التخاطب .

ثانياً : الحكمة السياسية ( إدارة المملكة ) ويرجع الى اليقظة والفطنة وتحمل المسؤولية : مسؤولية مملكة بكل مؤلفاتها بلاد وعباد وخيرات مقومات .

ثالثاً : التدبر والاستعداد وأخذ الحيطة : وهذا يأتي بالمشورة مع أهل الخبرة والحل والعقد جميعاً.

والحقيقة أن الأمور الثلاثة جاءت كلها ملخصة بقول ملكة سبأ : ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون )

لقد قرأت الخطاب الموجز البليغ الفريد الجديد المفاجئ لها ولرعيتها ، وأنه قد أبتدا واستعان ( بالله ) أولاً : وهي ولا شك تعرف يقينا من هو ( الله ) الذي ابتدأ باسمة الملك سليمان خطابة ولكنها كانت تصد عنه بغرور قوة أهل مملكتها .

وثانياً : أنه أوجز علمة المسبق بما يمتلكون من قوة وبأس ولا يسعنا هنا إلاّ أن نؤكد أن الله عز وجل قد أطلعه من علم الغيب كنبي مرسل ، بأحوال سبأ وبما أخبرة طائر الهدهد المأمور بأمر الله ، ولذا فقد علم سليمان عليه السلام وسبقهم بلفظ واحد في خطابة المؤدب الموجز :

( ألاّ تعلوا عليّ ...)  وهذا اللفظ ( تعلوا ) يشمل المعنى الشرعي والمعنى اللغوي معاً ، ولا يجتمع المعنيان إلاّ عند كافر مشرك بالله حينما ( يؤمّر بالحاكمية ) أي بالمعادلة التالية :

-         مشرك أو كافر + قوة وبأس = علوّ في الأرض .

-         مؤمن بالله (حاكم) + قوة = عدل في الأرض .

ومليكتنا قد أحاطت بالخطب القادم إليها من خلال خطاب سليمان الذي سبقها بالعلم فعقبت مباشرة موجهة حمل المسؤولية للجميع محذرة رعيتها منذرتها بالعاقبة القادمة لا محالة : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية ...)

والمقارنة التي أجرتها مليكة سبأ بحكمتها وحصافة رأيها كالتالي:

الملك سليمان = حاكم بأمر الله يأتيهم بجنود يأتمرون بأمر الله فلا غالب لهم أبداً .

الملكة سبأ = حاكمة بالشرك وطاعة الشيطان وقوة مملكتها وبأس جنودها مهزومون ولا ناصر لهم .

ولذا قالت  قولتها وهم لا يفقهون : إذا دخل عليكم سليمان وجنوده قريتكم الكافرة سيجعلني ذليله خاضعة أمام أعينكم وكل ما تملكونة يصبح غنيمة له ولجنوده .

ولم تصرح بتفاصيل محكمتها أمام مستشاريها بالقول الصريح ولم تكن قادرة على قطعه لخوفها على نفسها أولاً وحتى تضع البرهان الساطع أمام أعينهم ثانياً ولسان حالها يقول ( أسلموا قبل أن ....) !!

ولكن صدّها ما كانت تعبد من دون الله ورعيتها .

وقالت : إني ناظرة معكم بم يرجع المرسلون ..

ولقد علمنا من آيات الله المباركات بأحسن الحديث في سورة النمل ،  بم رجع المرسلون وما آلت اليه مليكة سبأ مع نبي الله سليمان .

وها هي البوابة بكل تفاصليها وأركانها وأجزائها ( تركن بهدوء )

تحمل ( أسمى وظيفة لها ) ( بمجاورتها) المحراب الذي اختطة الصحابي الجليل ( وبر بن  يحمس الخزاعي الانصاري ) بأمر من رمز العدل والحكمة رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم .

ولزائر مسجد صنعاء القديمة الكبير وقاصده حق الصلاة فيه وفي محرابه المبارك بإذن الله ، ووقفة أمام البوابة لفولاذية التي كانت يوماً ما بوابة لقصر غمدان العابر الذكر وكيف أًصبحت مع صويحباتها قطع الصخر حاملة وزر الأمانة بأذن الله تعالى الى يوم القيامة تشهد صباح مساء الله  أكبر الله أكبر .

وللحديث بقية انشاء الله .