بَرْدِهَا شيني

بسام الهلسه

[email protected]

* والضمير في "بَرْدِها" عائد إلى الريح الشمالية التي يبغضها العرب لما تحمله من برد قارس وصقيع يسفع الوجوه ويضر بالزرع.

أما "شيني" فهي من "شين" بمعنى: سيئ، في مقابل "زين" بمعنى حسن، جميل..

وفي "سهل البقاع" اللبناني الخصيب، شاهدت المزارعين يضعون إطارات السيارات المستعملة بين أشجارهم وزروعهم، ثم يوقدون فيها النار لتدفئتها كي لا يقتلها الصقيع.

وكان الإله "تموز"، إله الخصب في الأساطير السورية والعراقية القديمة، يهبط إلى العالم السفلي في الشتاء، غير مكترث بتوسلات ونواح الإلهة "عشتار" -أو "عشيرة"- ويظل متوارياً من البرد لينبعث مع بدء فصل الربيع وشمسه الدفيئة.

أما القبائل العربية فقد كان لها مناطق تشتو فيها أوان البرد، لتقي نفسها وماشيتها التي هي قوام حياتها.

وظلت مداومة على رحلتي الشتاء والصيف حتى صدتها ومنعتها حدود الدول الحديثة الناشئة التي قررها المستعمرون كما حدث في اتفاقيتي "سايكس-بيكو" و"سان- ريمون" بالنسبة للشام والعراق، واتفاقية "العقير" (أو "العجير" كما يلفظها أهل الخليج) بالنسبة لحدود نجد والخليج والعراق. ثم أبطل الاستقرار والتحول إلى العيش الحضري

ويخلط عدد من الباحثين العرب في شؤون البدو –ومعظمهم من الحضر- في فهم الفرق بين "الديار" (جمع ديرة) التي هي مواطن الاستقرار الثابتة للقبائل والخاصة بها، و"النجعات" (جمع نجعة) التي هي الأماكن التي ترتادها القبائل التماساً للمرعى حسب المواسم.

*    *    *

وفصل الشتاء هو موسم الاعتكاف الاضطراري عند البدو والفلاحين على السواء.. فيفتر نشاطهم وحراكهم و"يكنُّون" (من: كَنَّ يَكِنُّ) حول المواقد والكوانين (جمع كانون) ولهذا أطلق السريان اسم "كانون الأول" و"كانون الثاني" على شهري ديسمبر ويناير اللذين شنت فيهما "إسرائيل" حربها الإجرامية على قطاع غزة، فسمَّاها الفلسطينيون "حرب الكوانين".

و"الكَن" هو "السكون" كما نعلم.. الذي رفضت "فيروز" الالتزام به –لأسباب عاطفية- وكادت تجن فصرخت:

" قالوا لي كِن               وأنا رايح جِنْ ! "

أما صاحب "خولة" التي تلوح أطلالها "كباقي الوشم في ظاهر اليد" الشاعر القتيل "طرفة بن العبد البكري" فقد هجا قريباً له أساء إليه، واصفاً فِعاله تجاهه بـ"الريح الشمالية" الصقيعية التي تهب على جزيرة العرب من صوب الشام، بعكس فِعاله نحو الأباعد التي وصفها بـ"ريح الصَّبا" المحببة الحنونة:

"فأنت على الأدنى: شَمَالٌ عَرِيَّةٌ        شآمية، تَزوي الوجوه، بَليلُُ

وبين الشعراء العرب المعاصرين كتب "محمود درويش" قصيدة "أغنية إلى الريح الشمالية".. لكننا من أن نطالعها حتى نتبين أنها بكائية ممزوجة بسخط ورجاء حزين:

.........................

"قُبَلٌ مجففةٌ على المنديل،

من دار بعيدة

ونوافذ في الريح، يا ريح الشمال!

رُدِّي إلى الأحباب قُبلتهم

                            ولا تأتي إليْ!

.....................

ديكور أغنية عن الوطن المُفَتَّت في يَدَيْ"

لكن كُرْه العرب للريح الشمالية، لم يمنعهم من الهجرة إلى الشمال كما كتب الروائي الراحل "الطيب صالح"؛ فيما اندفعت قبائل أوروبا الشمالية نحو جنوبها الدافئ الثري. وهذا سلوك طبيعي سَوِي يرفض قسمة العالم الواحد إلى "شمال وجنوب" أو "شرق وغرب" لا يلتقيان! كما قال المستشرق "روديارد كبلنغ" باستعلاء وعنصرية استعمارية غَذَّتها دعاوى "المركزية الأوروبية" وتفوقها المزعوم على سائر الشعوب والحضارات.

فنحن نعرف من دروس التاريخ المديدة والأكيدة أن أحوال الجغرافية وأقدارها متبدلة كأحوال الأمم وأقدارها.

وهي تتغير وتدور مثلما تدور الأرض التي يبقى فيها ويمكثُ ما ينفعُ الناسَ فيما يذهب الزبد جُفاءً كما جاء في الآية الكريمة.

*    *    *

شغلتنا الثقافة وطوَّف بنا الفكر عما شرعنا فيه، فكدنا ننسى ما قاله الشاعر:

"هَبَّت هَبُوب الشمالي، بَرْدِها شينيي

ما تَدْفِي النار.. لو حِنَّا شعلناها !"