خليك ايجابي-4

حملة ( خليك ايجابي )

4

جمال سعد حسن ماضي

[email protected]

4ـ كيف تكون ايجابيًا ؟

أولاً : من معانى الايجابية

هل الذنوب والمعاصى تؤثر على ايجابية الفرد ؟

هل ضعف الثقة بالنفس تؤثر على ايجابية الفرد ؟

هل الانشغال بالدنيا يؤثر على ايجابية الفرد ؟

هل الانفصال عن واقع الأمة يؤثر على ايجابية الفرد ؟

هل الجهل يؤثر على ايجابية الفرد ؟

هل الجمود وعدم التطوير يؤثر على ايجابية الفرد ؟

بالتأمل فى هذه الأسئلة ، نجزم من مشاهد الدين ووقائع الشخصيات وحركة الحياة ، أنها تؤثر تأثيرًا مباشرًا على ايجابية الفرد ، والسبب واحد في أنها تشكل حياة الشخص ، بحيث يكون : شخص المعصية , أو شخص الضعف , أو شخص اللامبالاة بالآخرين ، أو شخص الجهل , أو شخص الجمود .

1ـ فالذنوب والمعاصى : تجلب الفتور ، وتوهن العزائم وتحجب عن المعالى ، وتدعو إلى القعود ، وتصرف الفرد عن الخير ، يقول بعض السلف : ( لا نعرف أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنبه ) ، فمن اشتغل بأعراض الناس ابتعد عن الذكر ، ومن اشتغل بالغناء لا يجد لذة فى القرآن ، ومن اشتغل بالذنوب لا أنيس له .

2ـ وضعف الثقة بالنفس : أو قل ضعف الإرادة مثل كلمة : ( لا أستطيع ) ـ ( صعب ) ـ ( ليس مستواى ) ، مما يضعف إرادة الإنسان ، وهو المفطور على العمل والسعى والتنافس والمسارعة ، يقول تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض } آل عمران : 133 ، ويقول تعالى : { وفى ذلك فلينافس المتنافسون } المطففين : 26.

3ـ  الجهل : هذا السلاح الفتاك بالإنسان ، الذى يجعله عدوًا لنفسه ، فأساس العمل عامة العلم ، وأساس العمل الصالح كذلك العلم ، حتى يكون بعيدًا عن البدعة ، وأساس القول الصحيح أيضاً علم ، حتى لا يقع صاحبه فى المحظور ، وأساس المشاكل كلها من الجهل ، فالعلم هو حسن التصرف وأساس النجاح فى الحياة ، يقول تعالى : { قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون } الزمر : 9 .

ويقول تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } المجادلة : 11 .

4ـ أما الجمود : بمعنى عدم تطوير المهارات المطلوبة للحياة والعمل ، فهو انطماس وعمى عن الكنوز التى خلقها الله فى كل منا ، فهو للأسف لا يكتشفها وبالتالى لا يستخدمها ، وذلك فى كافة مجالات الحياة : فى الرياضة والفن والكتابة والتأليف والخياطة والديكور والطبخ ومخاطبة الناس والخطابة والشعر والأدب والرسم والتنمية والتربية والتخطيط .

حيث لا فرق بين موهبة وأخرى ، ما دامت منضبطة بالشرع ، وقد أنعم الله بها على الإنسان ، المهم أن نكتشفها ونطورها , سواء كانت ثقافية أو علمية أو فكرية أو اجتماعية ، خاصة فى مرحلة الشباب .

5ـ الانشغال بالدنيا : بمعنى الانقطاع التام لها ، ولذلك كانت دعوة النبى صلى الله عليه وسلم , على من انشغل بها عن الله , فيقول : [ تعس عبد الدينار ، تعس عبد الخميصة ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ] ، فحياته كلها تعاسة لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم عليه ، فهو فى حقيقته ليس انشغال فقط بالدنيا ، بل انزواء وابتعاد عن كل صور الايجابية السابقة ، والعجيب أنه يبدأ بالانشغال بشيء واحد ، ويجر غيره , فربما كانت سيارة فينشغل الفرد لإحضارها وغيرها ، أو ملبسًا فينشغل لجمع الملابس بأنواع مختلفة , وهكذا ...

6ـ الانفصام عن واقع الأمة : فلا يعرف الفرد مصاب المسلمين فى أمته ، ولا يستشعر آلامهم ولا يعى قضايا أمته ، ولا يدرك أدنى مسئولية له تجاه ذلك ، فهو مقطوع الصلة ، منزوع الاهتمام ، خارج دائرة أمته ، وهذا ما يجتهد الخصوم لتحقيقه ، ليتسنى لهم العيش فى أمتنا , ونهب ثرواتها , وسرقة مقدراتها فى غفلة من أبنائها .

وللخروج من هذه السجون ، وكسر هذه القيود ، وتحطيم هذه الأغلال ، كان سؤالنا المطروح : كيف تكون ايجابيًا ؟

ولكن قبل أن نخوض الأمواج ، ونبحر فى محيطات الايجابية ، أو نحلق فى سمائها ، هذه وقفه قصيرة ، قبل الرحلة ، نتعرف من خلالها ، على معالم الرحلة , وأسرارالسفر ، فهل أنتم مستعدون ؟! .

وأول البداية : من معانى الايجابية :

1ـ فى اللغة

نقول : ( أوجبه إيجابيًا ) بمعنى : ( لزمه وألزمه ) ، والإيجاب بمعنى القبول ، وعلى هذا فالإيجابية تتضمن : الإلزام والالتزام ، أو بالمعنى العصرى اليوم , كما قال أهل التخصص : ( إيجاب المرء على نفسه , ما ليس بواجب ، لهمة عالية ، ورغبة عارمة فى البذل والعطاء ) .

ومصطلح ( الإيجابية ) و ( السلبية ) ، فى حياتنا اليومية كثيراً ما نستعمله إذا توفرت معاني معينة , فنقول :

( المحادثات إيجابية ) ، ( النتائج كانت إيجابية ) ، ( العمل الإيجابى  ) .

والايجابية كمصطلح يعنى التلبية والاستجابة ، والطاعة والمسارعة إلى الخير ، يقول تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) الأنفال : 24 ، وبالجمع بين المعنى اللُغوى والإصطلاحى , اتفق العلماء على أنها واجبة ، وعليه فالإيجابية ضرورة شرعية وحياتية بمعنى الاستقامة فى الحياة .

وصوّر القرآن الايجابية , بمعنى الاستجابة , ثم دعوة الغير للاستجابة ، كما فى موقف الجن الايجابيين , الذين استمعوا إلى القرآن , فقالوا لقومهم : { يا قومنا أجيبوا دعى الله } الأحقاف : 31 .

2ـ الايجابية = الطاقة

فالايجابية تشحذ الهمم ، وتوظف الطاقات ، وتذكى الطموح ، ودافعة للعمل ، ودافعة للبذل ، وتحسن انتهاز الفرص ، وهي استثمار جيد للواقع ، فلماذا لا نساوى إذن الايجابية بالطاقة ؟ , وهل هي فعلاً كذلك ؟ تعال نرى :

1ـ تشحذ الهمم :

 يقول ابن قيتبة : ( ذو الهمة إن حطّ ، فنفسه تأبى إلا علوًا ، كالشعلة من النار يٌصوبها صاحبها ، وتأبى إلا ارتفاعًا ) ، ولذلك همة المؤمن أبلغ من عمله ، يقول صلى الله عليه وسلم [ من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشة ] .

فبقدر ما تتعنى تنال تتمنى :

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها             تنال إلا على جسر من التعب

فكبار الهمم لا ينقضون عزمهم ، ولا يندمون لحظة ، ولا يضرهم قلتهم ، ولا يرضون إلا معالى الأمور .

2ـ توظيف الطاقات :

فالأمة فى حاجة إلى كل عطاء مهما كان قليلا ، ولذلك فالايجابية تعمل على توظيف هذه الطاقات وبالتالى تختفى فى جسد العطاء لأمتنا هذه الصور المتخلفة : قصر العطاء فى جانب واحد ، أو توظيف الطاقات فيما تجيده الإدارة التربوبة دون النظر إلى طاقات المربين ، أو نسخ كربون من القيادات حتى ولو كانت ضعيفة .

فليس هناك من سبيل لإتقان فن توظيف الطاقات , إلا فيما تحسن أن تعطى هى فيه ، ولا يكون ذلك إلا بالايجابية ، فلنا قدوة فى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يوظف طاقة حسّان الشعرية ، وفنون الجهاد عند خالد بن الوليد ، وحفظ القرآن كأبى بن كعب ، ولم يطالب أحدًا منهم بأن يتقن طاقة الآخر , أو يمتلك مهارة غيره .

3ـ تذكية الطموح :

 الحياة تمضى ولا تتوقف ، والفائز من قام بدوره , فى تقبل قدر الله والإيمان به ، فهو فى سباق ومبادرة ومسارعة ، فهذا الطموح ينسيه ما فى الماضى من جروح ، حيث ينطلق بايجابية لتحقيق حلمه فى الحياة ، كواقع ملموس ، وباستثمار كل لحظة ، ليكون فى تقدم دائم ، فيحق له أن يذوق طعم النجاح , ولذة الطموح .

4ـ دافعة للعمل :

فالايجابية هى التى تكوّن فى الفرد إرادة العمل ، بل إنجاز العمل بإتقان ، لحديث النبى صلى الله عليه وسلم : [ إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ] ، فالايجابية تعتبر وقود العمل لدى الإنسان ، وطاقة للسعى ، فالأقدارلا ترتب لنا شئون الحياة ، والسنن الالهية لا تقبل المحسوبية أو المحاباة ، فدرجة كل إنسان بسعيه , ونسبة سمو عمله فى الحياة بايجابية .

5ـ دافعة للبذل :

 والبذل هو الدرجة التى تعلو العمل ، وهى ترجع إلى إيجابية الإنسان ، وهذه الدافعية لا تتحقق إلا بالتوازن والاعتدال ، ففى اليابان مثلا عندما زادت ساعات العمل عن حدّها تحولت الايجابية إلى موت ، ففى إحصائية تقول : إن 10 % من الذكور البالغين الذين يموتون فى كل عام , يقتلون أنفسهم بكثرة العمل .

والبذل المتوازن هو ما توفر فيه أمران ، الأول : دوافع السلوك , والثانى : دوافع القلب ، أما دوافع السلوك ، فهي التى أمر بها الاسلام فى قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } البينة : 5 ، أما الأمر الثانى : فهو طهارة القلب من أمراضه ، فالبذل بما وقر فى القلب وليس فى السلوك ، يقول صلى الله عليه وسلم : [ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم , ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ] رواه مسلم ، فرب عامل ليس له من عمله إلا الجهد والتعب .

6ـ انتهاز الفرص :

 قول الإمام على رضي الله عنه : ( الفرصة تمر مر السحاب , فانتهزوا فرص الخير ) ، فاللحظة الايجابية هي التى يتخذ فيها الفرد ، اغتنام الفرصة ، وهى التى تغير حياته إلى الأفضل ولا ينساها ، والايجابية تعنى انتهاز فرص الخير ، فهى الصالحة والممتدة ، فبعد أن تستوثق من ذلك , فلا تتردد فى اغتنامها ، ولا تتهرب من مواجهة الصعاب , وتحمل المسئولية .

والبعض يسمى لحظة الايجابية هذه : ( النظرة الايجابية ) للحياة ، فمن الواجب على الفرد ، أن ينظر إلى الحياة بطريقة ايجابية ومتفاءلة حتى يستطيع أن يتطور ويتقدم وينتج الأفضل ، فالحياة جميلة وحلوة ورائعة .

7ـ استثمار الواقع :

هو جزء من التخطيط , كأسلوب علمى للانتفاع بالواقع , الذى يعيش فيه الفرد والمجتمع ، من أجل تحقيق أهداف معينة فى فترة زمنية محددة ، ومن ثم فهو يتضمن عدة عمليات واقعية : بدءاً من تحديد الأهداف ، ومروراً باختيار الأنشطة ، إلى عملية التنفيذ ، ومن هنا يأتى دور الايجابية فى استثمار كل لحظة من الواقع ، سواء كانت فى التخطيط أو التنفيذ .

ويطلق البعض على ( استثمار الواقع ) : ( فقه الواقع ) بمعنى : فهم وإدراك الأمر الواقع أى الحادث والحاصل , أو ما يجدٌّ من أحداث ووقائع ، وبذلك فالمعنى الاصطلاحى لفقه الواقع : فهم النوازل والمتغيرات الجديدة فى حياة الأفراد والمجتمعات ، وفق أحكام الشريعة الإسلامية .

وبهذه الايجابية يترسخ هذا الفهم في النفس , نحو الإفادة وحسن الاستثمار .

وأخيرًا :

وللاستثمار الجيد فإن طاقاتنا تحتاج إلى إمكانات ايجابية ، حتى تنطلق فى الحياة ، ونلخصها فى : عمل يمنع الكسل ، وحيوية تمنع السليبة ، وعطاء يمنع الشح , ومبادرة تمنع القعود .

3ـ مروحة الايجابية

المروحة لا تعمل ، ولا تحقق ترطيبًا فى الأجواء ، إلا إذا توفر فيها ثلاث ريش ، وكذلك مروحة الايجابية إنها لا تعمل إلا بثلاث ريش :

الأولى : دافع نفسى

قد يتساءل الكثيرون هذه الأسئلة :

هل الأمومة غريزة أم دافع نفسى ؟

هل وراء كل جريمة دافع نفسى بالضرورة ؟

هل فى ترحيبك للآخرين دافع نفسى لهم ؟

هل نلتزم بالعادات والتقاليد لأنها دافع نفسى ؟

هل الانتصار فى الحياة يحتاج إلى دافع نفسى قوى ؟

هل التحفيز دافع نفسى ايجابى للنجاح ؟

هل الايجابية تعتمد على الدافع النفسى ؟

والذى يهمنا من كل ذلك , إذا كان الدافع النفسى له دور أساسى فى هذه الأحداث التى ذكرناها ، أليس يكون أيضًا هو أساس من أسس وجود الايجابية ؟!!.

فالايجابية تحتاج أولاً للدافع النفسى المحرك القوى , الذى يقود إلى السلوك المطلوب ، يقول الشاعر :

وما كنت ممن يدعى الحب قلبه             ويحتج فى ترك الزيارة بالشغل

فلو كان صادقًا فى حبه ما ادّعى الانشغال كمبرر لعدم الزيارة ، فالدافع النفسى يأتى من قوة الإرادة , وعلو الهمة ، وجهاد النفس ، والايجابية تعني تكوين دافع نفسى يعتمد على المسئولية الجماعية ، وليس لذات الفرد فقط ، وهذه القناعة تقويها الأهداف المجتمعية المحددة والواضحة ، بحيث تتحول إلى عادة ايجابية وطبع عملى .

حيث القاعدة النبوية : (لا رهبانية فى الاسلام ) ، والفرد هنا هو الفرد الايجابى التواق إلى نهضة جماعته ومجتمعه وأمته ، وليس الفرد العالة أو المائع أو الانعزالى .

والدافع النفسى الذى نحن بصدده هو الدافع المكتسب من البيئة مثل : الانتماء والإنجاز والبحث والتحصيل والتأليف والسيطرة وحب الاستطلاع ، فوراء أى سلوب دافع قوى ، لذلك رسموا هذا المعادلة :

سلوك ايجابى = ( الاستعداد ـ الإعداد ـ الدافع )

 وبهذا تؤكد هذه القاعدة على أن الدافع هو مجموعة من العمليات مثل : إثارة السلوك ، وتوجيه السلوك ، وتعزيز السلوك ، وكلها تهدف إلى تحقيق الهدف المرسوم أو بمعنى آخر : الايجابية .

2ـ جهد بشري

هذه الريشة الثانية فى مروحة الايجابية ، فكل جهد بشري له تأثيره الإيجابى على الحالة النفسية ، سواء كان هذا الجهد على الصعيد العملى أو الدراسى أو الأسرى أو المهنى أو الوظيفى ، ولكن المحصلة النهائية لهذا الجهد هى السعادة النفسية ، لأن الفرد يستمتع كلما بذل جهدًا أكبر ، خصوصًا إذا كان هذا الجهد المبذول مرتبطًا بعلاقة صادقة مع الله ، يقول تعالى : { من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون } النحل : 97 .

وهذا الجهد هو الذى يأخذ بكل الأسباب , ويوظّف السنن الإلهية فى كون الله ، يقول تعالى : { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته , ولكن كره الله انبعاثهم , فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } التوبة : 46 .

ويطلق البعض على هذا الجهد البشرى : ( سنة الجهد البشرى ) ، وهى أن يعمل الإنسان ويبذل كل ما يملك من طاقات وقدرات ، ويقدم أعلى استطاعته من التضحيات ، انتظارًا لثواب الله تعالى ، غير عابيء بالنتائج ، لأن النتائج كلها بيد من بيده ( كن فيكون ) ، وهذه مشيئة الله فى خلقه ، أن ربط النجاح ببذل المجهود ، وكذلك النصر بمقدار ما يقدمه الإنسان من نصرة وأخذ بأسباب النصر ، يقول تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملككم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) التوبة 105 .

وخير مثال في ذلك قدمه القدوة صلى الله عليه وسلم , وهو يقدم التضحيات , ويدعو المسلمين إلى استفراغ جهدهم لنصرة دين الله , فتحمل الإيذاء ثم الحصار لمدة ثلاث سنوات , ثم الدعوة نهاراً والعبادة ليلاً , ثم عملاً متواصلاً مستمراً لم يتوقف لحظة .

وهذه لقطات قرآنية تؤكد على هذه السنة الإلهية , فمع أن الأمر أمر الله , ولكنه تعالى ربطه بالجهد الذي يقدمه الإنسان :

-  في قوله تعالى عن مريم : ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً ) مريم 25 .

- وفي قوله تعالى عن نوح : ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) هود 37 .

- وفي قوله تعالى عن موسى : ( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر , فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) الشعراء 63 .

-  وفي قوله تعالى عن القرآن : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) التحريم 9 .

-  وفي قوله تعالى لموسى : ( واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء ) طه 22 .

-  وفي قوله تعالى عن الطاعة : ( إنما يستجيب الذين يسمعون ) الأنعام 36 .

فكل مجهود واعي , أو بذل طاقة , أو جهد حركي , يبذله الإنسان من أجل تحقيق هدف معين , هو يعتمد اعتماداً مباشراً على الجهد البشري , وهذا هو مفهوم الإسلام عن الطاقة البشرية , فالإنسان وحدة حياتية قائمة بذاتها , حيث يصرّف الفرد هذه الطاقة فيما أمره الله تعالى , بالتفاعل مع غيره من الموجودات , عقلياً وفنياً وحركياً , وبهذا فهو يعتبر ضرب من ضروب العبادة , وتحقيق إرادة الله وحكمته في أرضه , وبناء حياة متجددة , وفق مشيئة ربانية .

   يقول صاحب الظلال :  إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية , يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية ؛ وفي حدود الواقع المادي حينما يتسلم مقاليدهم , ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية ، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة.

3 – اقتناع عقلي :

وهذه هي الريشة الثالثة في مروحة الإيجابية , وهي المكملة لعمل الإيجابية في الحياة , حيث كانت الخطوتان السابقتان بمثابة منهجاً للاقتناع , فالاقتناع هو ثمرة الفكرة الناضجة , وهو اقتناع يتجلى خاصة في المحاورات الأولى مع المناوئين والمشككين والمستهزئين , لينقلب حال الفرد إلى ثقة قوية بنفسه , ويمارس مهامه بقوة , حيث يختفي أدني شك عقلي , فكل مايراه , وما يسمعه , وما يشعر به , وما يفهمه , يتفق مع الحقيقة الواضحة في ذهنه , فيزداد رسوخاً , ويثبت سلوكاً .

وفي اللغة كما جاء في المعجم الوسيط : ( مادة قنع ) , قنعت الإبل والغنم قنعا مالت لمأواها ، وأقبلت نحو أصحابها ، وفلان قنوع : رضي بالقسم واليسير، فهو قانع وقنيع وقنوع أيضا ، وقنعه رضاه , واقتنع بالفكرة أو الرأي قبله واطمأن إليه .

وفقه الاقتناع : فهم حقيقة الأمر وتدبره ، ليس بالعقل فقط ، بل بالكيان والوجدان ، إذ مصطلح الفقه أعم وأشمل ، فالفقه يساوي العلم العقلي والعلم القلبي , وفق هذه القاعدة : فقه = علم عقلي + علم قلبي , وبذلك لا يرتبط الاقتناع بقوة الحجة والبرهان فقط ، فإنها لا تؤدي بالضرورة إلى الاقتناع ، فالاقتناع بالفكرة ، بالموقف ، بالرأي ، بالسلوك ، هو شيء خارج عن ذلك كله ، ولا يتأثر به , لأن مكان الاقتناع ليس العقل ، بل النفس ، فإن أعطت الإشارة للعقل اقتنع ورضي واستجاب ، وإن لم تعطه امتنع ، والمانع الذي يحول دون ذلك , هو هوى النفس : حيث تصبح الصورة ( عقلٌ يسلم للدليل والرأي , ونفس تمتنع فيها هوى غير راض ) .
فتجد صاحب هذا الرأى متلعثماً في كلامه ، كثير الاستدراك ، غامض الفكرة , عازفاً على وتر العموميات من المسائل ، حريصاً على ترك الجزم ، كثير اللف والدوران ، خارجاً عن الموضوع , ودينامو للكلام ... ذلك حفاظاً على أنانيته ، فيكون الحوار تبعاً لذلك مملا ًعقيما , تركه أفضل وأفيد من الخوض فيه.

العبرة إذن ليست في قوة الحجة ، بل العبرة في حمل - الكلام أو الموقف أو السلوك - محملَ الصدق واليقين ، والتأشير عليه بالقبول ، وبذلك تصبح أوهى الحجج أقواها ، وجميل الكلام فعالاً ومقبولاً , ومصدر هذه القابلية ، ونبعها النفس , أو القلب فهو الذي يعطي السلوك أوالكلام أو الفكرة ... القابلية ، ويفتح المجال للعقل , للتعامل معها , والاقتناع الحقيقي بها , دون أي عنف مادي كالضرب أو الحبس ،أو عنف معنوي كعرض الرأي على الآخر بالقوة , فالإقناع لا يكون بالإكراه أوالإجبار , يقول تعالى : ) لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) البقرة/256 .

وهذا المفهوم هو ما أطلق عليه العلماء : اليقين , وهذه هي طريقة القرآن الكريم وهو يخاطب الإنسان , لينطلق في إيجابية مع الحياة , وهو ما سلكه الله تعالى مع الأنبياء , في قوله تعالى , لشيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى , قال : أولو تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي ) البقرة 290 , فإبراهيم عليه السلام يؤمن بالله , ولكنه يبحث عن الاطمئنان القلبي , فالأدلة التي يعاضد بعضها بعضاً , أدعى إلى سكينة الفؤاد , واقتناع العقل , كما في قول موسى عليه السلام : ( رب أرني أنظر إليك ) الأعراف 143 .

وهذه بعض الخطوات العملية التي أوصي بها خبراء هذا الفن

لامتلاك مهارة الإقناع :
 -
استحضار الأفكار وترتيبها : قال المنصور لبعض ولده : ( خذ عني اثنتين , لا تقل من غير تفكير، ولا تعمل من غير تدبير) .

- ينبغي في هــذه الخطوة تجنب التفكير الأحادي : الذي يجعل المتحاور سجين فكرة واحدة , دون النظر لمنظومة الأفكار الأخرى .
 -
حسن العرض للحجة : فالعبرة ليست بحشد الكلمات والألفاظ وسكب الأفكار في ذهن المتربي.
 -
نقــض الــدوافع أو إثارتها : وهناك فرق بين محاولة إقناع المتربي باعتبار ظاهر فعله وكلامه وبـيـن إقـنـاعه بالنظر إلى دوافعه ؛ فالتعامل معه في الثانية أشد أثراً وعمقاً ، ولنا في رسول الله صلى الله عـلـيــه وسلم أسوة حسنة ؛ ففي محاورته مع الشاب الذي جاء يطلب الإذن بالزنا مثال عملي على ذلك.
 -
التدرج : وهو قاعدة هامـــــة تندرج في معظم وسائل التربية ، بل هو أصل من الأصول الهامة ، فعلى المربين مراعاة ذلك , فليست القناعة تتكون دفعة واحدة ، دون نقاش أوحوار , فالصحابة  وهم أفضل هذه الأمة ؛ نزلت عليهم الأحكام مُنجَّمة ؛ بل أحياناً كان الأمر الواحد يُحرَّم عليهم بالتدريج - كما في الخمر – فما بالك بغيرهم ؟! .
 -
إتقان الصمت والاستماع : فذلك يعطي المربـي فـرصـة لكشف أفكار المتربي ومنطلقاته ، وكذا فرصة للتفكير والتركيز, ومن المقولات التي يرددها خبراء اللغويات النفسية أننا نفكر بأضعاف السرعة التي نتكلم بها، ولذلك فإننا حين نـنـصــت تـكــون عقولنا في سباق، فحسن الاستماع يتخطى مجرد الصمت وهز الرأس، بل يستلزم قـدرات خاصة باستيعاب ما يُقال وتخزينه في الذاكرة بصورة منتظمة لاسترجاعه في الوقت المناسب في الحوار .
- عدم الاكتفاء بسرد الأشياء المجردة عن أدلتها وحكمها وأسبابها :  وعن التعليل والبيان وتأمل في القرآن الكريم على لسان الحكيم المربي لقمان : لم يكتف بمجرد النهي، بل بين السبب وأوضح العلة وشرح الحكمة , فقال: (لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) وقال أيضاً: (يا بني اقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك) ثم علل ذلك بقوله: (إن ذلك من عزم الأمور) وقال أيضاً: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً) ثم بين السبب بقوله (إن الله لا يحب كل مختال فخور) وقال: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك) ثم علل ذلك بقوله (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير).
- التنوع في الوسائل : العقلية ، والعاطفية , والمادية ، وكل الوسائل المعاصرة , ولكن مع ملاحظة عقول المتربين , فإقناع المربي ينبغي أن يكون شاملا لجميع ما يحتاج اليه المتربي , من خلال خطة زمنية , ومن خلال فقه الأوليات ، ولذلك شملت وصايا لقمان لابنه : الجانب العقدي ، والجانب الاخلاقي ، والجانب العملي ، كما أنها راعت فقه الأوليات , حيث بدأ الحديث بالتركيز على العقيدة الصحيحة .

- المزج بين العقل والعاطفة : يقول الله تعالي , عن مؤمن آل فرعون : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ , اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ  ,  وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يس 20 -22 , وكيف بدأ بهذا النداء الرقيق : ياقوم , زمافيه من خطاب مباشر للعاطفة , ثم ساق الأدلة العقلية : ( اتبعوا ما لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ) , ثم وجه الحديث عن نفسه , بعيداً عن اتهامهم : ( ومالي لا أعبد الذي فطرني ) , ثم اتجه بالخطاب إليهم , عند ذكر حقيقة الموت , التي لا ينكرونها , فقال : ( وإليه ترجعون )  .