قومية التضامن وقومية التهديد

قومية التضامن وقومية التهديد

علي الصراف

هل من سبيل لمكاشفة صريحة بشأن المسار الذي اتخذه المشروع القومي على يد القوتين الرئيسيتين اللتين مثلتا هذا المشروع؟

البعثيون والناصريون، بانواعهم وتياراتهم الشتى، قادوا هذا المشروع لعقود طويلة. وظلوا يمثلون الإطار السياسي والفكري الرئيسي لهذا المشروع. وهم حكموا أقطارا عربية عدة لسنوات طويلة. وخاضوا سلسلة طويلة من المحاولات الوحدوية الفاشلة، والتجارب التنموية المتعثرة، حتى وصلنا الى ما نحن فيه.

وها نحن هنا. نعيش في ظل الخراب والإرهاب والفوضى.

من المسؤول؟

إذا كان من الجائز للنهايات أن تُصدر حكما، فالحقيقة التي لا مفر من الاعتراف بها، هي أن ما انتهينا اليه قد كان من ثمرات ما بدأنا به.

لقد زرعنا الريح، فحصدنا العاصفة.

استخدم البعثيون والناصريون هذا المشروع للقول: نحن الشرف، وكل الباقي خونة. نحن الإيمان، وكل الباقي كفر. نحن الخير، وكل الباقي شر. نحن القوميون الحقيقيون، وكل الباقي عملاء.

من هذه "الثقافة" ولدت أولى مظاهر التكفير التي ستأتي تنظيمات من قبيل داعش، لتقطع على أساسها الرؤوس.

ومن هذه "الثقافة" تولد لدى أصحاب المشروع القومي الشعور بأنهم على حق دائما وغيرهم على باطل دائما. وهو ما أجاز لهم بالتالي أن يرتكبوا كل يشاؤون من انتهاكات وجرائم ضد أعداد لا تحصى من البشر.

فصاحب الحق المطلق غالبا ما يجيز لنفسه كل شيء: القتل والتعذيب والمحاكم العشوائية. ومن أجل هذا أقاموا نظام أمن ومخابرات سرعان ما تحول الى بديل فعلي للدولة. حتى انتهينا الى دول فاشلة بكل معنى الكلمة؛ فاشلة الى درجة انه لا شيء يعمل فيها من دون أن يمر عبر ممر الأمن والمخابرات.

ومن هذه الدولة الفاشلة نشأت أولى الأسس التي بررت للإرهاب أن يُنشئ دولته الدينية البديلة، القائمة أيضا على القتل والتكفير. وهي ذاتها "الدولة القومية" التي أقامها البعثيون في سوريا والعراق.

وعلى غرار الدواعش الذين يعلقون فشلهم وهزائمهم على شماعة القدر والإرادة الإلهية، فان صاحب الحق القومي المطلق، دأب على أن يبرر لنفسه الأخطاء، ويعلقها على شماعة الغير، ولا يعترف بالفشل. وإذا مارس نقدا، فانه يمارسه كنقد مزيف، غايته تلميع الذات، من أجل المزيد من الرضا عن النفس، وليس من أجل التخلي عن النهج الذي قاد الى الخطأ.

الشعور بأنهم وحدهم يمثلون الطهر والنقاء، منحهم القدرة على "الاستعلاء بالحق"، وهي ذات الفكرة التي ستأتي تنظيمات تكفيرية مثل الإخوان المسلمين لتعتمد عليها في التعالي على المجتمع.

أكثر من كل ذلك سوءا، وإنطلاقا من أنه ممثل الحق المطلق، فلقد ظل المشروع القومي العربي على امتداد سبعة عقود من الزمن يتصرف كتهديد داخلي لأطراف شتى من الأمة العربية.

البعثيون استخدموه، على طول الخط، كتهديد لدول الجوار. والناصريون فعلوا الشيء نفسه. ودائما ما كانت المواجهة "القومية" تدور بين حاملي لواء القومية من جهة، وبين من يعتبرونهم "رجعيين" و"محافظين" و"تابعين" من جهة أخرى. الأمر الذي جعل الأمة العربية، بكل دولها، تخوض ما يشبه الحرب الأهلية مع نفسها، لا مع الخارج.

الدواعش فعلوا الشيء نفسه بالضبط: قتلوا مسلمين، وسبوا وشردوا أبناء جلدتهم، بزعم أنهم يُعدون العدة لكي يحاربوا دول الكفر الصليبية (أو الاستعمار والامبريالية، بلغة القوميين).

وحيال التهديد الداخلي المتواصل، تحت غبار الأديولوجيات القومية الطاحنة، فقد دفع الخوفُ تلك الدولة القومية الى أن تنشغل بأمنها لا بمشكلاتها الحقيقية المتعلقة بالتقدم والتنمية.

ولقد دفعنا على امتداد تلك العقود أثمانا باهظة من التخلف وانعدام الأمن، وحوّلنا المنطقة الى مستنقع للتدخلات الدولية، قبل أن تتحول، بفضل التفكك المتواصل، الى مستنقع للإرهاب، يستدعي بدوره تدخلات أشد.

من المسؤول؟

ما هي الثقافة التي تقف وراء كل هذا؟

إسأل نفسك هذا السؤال وستجد ان دواعش المشروع القومي العربي كانوا هم السبب.

ولكن ثمة ظاهرة جديدة تنشأ الآن مع تراجع الدور التخريبي الذي كان يؤديه القوميون.

فمع إدراك كل دول المنطقة أنها أصبحت تحت تهديد مشترك، استعاد مفهوم الأمن القومي العربي مكانته، وشرعت القومية العربية لتعمل، للمرة الأولى في التاريخ المعاصر، كمشروع للعمل المشترك بين أبناء الأمة الواحدة.

للمرة الأولى أيضا، صار بوسع القوميين في مصر أن ينظروا الى أشقائهم في الخليج كعون وسند. وللمرة الأولى باتوا يقولون إن مصر لا تصارعهم على دور، ولا تنافسهم على مكانة. وبدلا من نشر المخاوف والتهديد بإنقلابات ثورية، بدأت تسود لغة الشراكة والتعاون والتضامن بين الدول العربية، بل وصار من أسمى معاني التضامن أن تجد مصر نفسها معنية بحماية أمن واستقرار دول الخليج وغيرها من دول المنطقة.

وحتى مع وجود اختلافات هنا أو هناك، حيال هذه القضية أو تلك، فانها ظلت اختلافات بين أخوة يحتاجون الى بعضهم، لا خلافات بين أخوة متعادين يخشى أحدهم الآخر.

لقد صنع القادة الخليجيون، بتضامنهم مع مصر، موقفا قوميا غير مسبوق بقيمته الاستراتيجية وأهميته التاريخية. فأقالوها من العثرة، وأقالوا معها المنطقة بأسرها من مصير كاد أن يكون شديد البؤس.

ولقد كان موقفا قوميا عميقا، عندما قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إن مصر لا تريد أن تلعب دورا، ليضع بذلك حدا للمخاوف القديمة التي صبغت المشروع القومي الناصري تجاه دول الخليج.

ولقد كان موقفا قوميا واعيا عندما اختارت مصر أن تنخرط في "عاصفة الحزم" من دون أن تطلب قيادة.

نحن اليوم أمام عهد قومي جديد. وأمام رؤية جديدة للمشروع القومي العربي تقودها حاجة العرب الى بعضهم، ولا يقودها (لحسن الحظ) البعثيون ولا الناصريون بأيديولوجيتهم التي دأبت على أن تستهزئ بالآخرين، دأبها على تهديدهم  أو الحط من مكانتهم.

لقد كان من الطبيعي لـ "قومية التهديد" أن تنتهي بيد البعثيين في العراق الى غزو الكويت، كما كان من الطبيعي أن تنتهي بيد البعثيين في سوريا الى التحالف مع إيران ضد العرب. وذلك مثلما كان من الطبيعي لـ "قومية التهديد" الناصرية أن تعادي أربعة اخماس الأمة العربية، قبل أن تنتهي الى "أمين" عليها يعادي الجميع، ويتصرف كطاووس مصاب بالهستيريا، مثل العقيد القذافي.

كل المشروع القومي بيد هؤلاء القوميين، كان مشروعا للتهديد الداخلي. بينما كانت مواجهة الاستعمار واسرائيل وقضايا التقدم تتطلب العكس تماما.

وكم كان ذلك المشروع مضيعة للوقت والامكانيات. وكم كان مسارا ثابتا للخروج من التاريخ حتى انتهينا الى دول فاشلة كليا تغرق بالعنف والوحشية والإرهاب.

لو أدرك القوميون القدامى أنهم يتصرفون بقوميتهم كمشروع للدمار الداخلي، لما قادونا الى كل ما عرفناه من صراعات ومواجهات داخلية.

ولو أدرك القوميون القدامى أن "قومية التهديد الداخلي" هي بوابة الاستعمار الجديد، لما انتهينا الى ما نحن فيه اليوم.

ولو أدرك القوميون القدامى سُبلا لجعل تطلعاتهم القومية مشروعا للعمل المشترك، لما سبقتنا اليابان والنمور الآسيوية ولا الهند ولا البرازيل ولا غيرها، في سباق التنمية.

ولكن حصل ما حصل. وعسى الله أن يرعوي المتأخرون!

رحم الله الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي أدرك الخطوة الأولى لاعادة بناء قومية التضامن، لاسيما بموقفه الصلب في دعم مصر. وحفظ الله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي تابع الخطوة بأوسع منها. وحفظ الله مصر الجديدة التي تبحث عن نهضتها بدعم الأشقاء، لا عن دور يقوم على تهديد الآخرين.

إذهب اليوم لتقرأ المعاني الأصيلة للمفهوم القومي البنّاء، وستجدها في إمارات خالد الذكر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، الذي ترك خلفه دولة تسندها الأخوة والإخلاص، كلٌ للآخر، والرغبة الطموحة في التقدم والإعمار.

ثم إذهب الى الكويت (التي ابتهجنا كقوميين – يا للمخازي- بغزوها)، لترى الدور الذي تؤديه في رعاية المصالحات العربية ورأب الصدوع في العلاقات هنا وهناك. ولسوف ترى أنها تجمع المال (يا لمفارقة القدر) من أجل إغاثة ملايين الضحايا الذين شردهم القوميون من وطنهم.

لقد أظهر الزعماء العرب، في أكثر من مناسبة، بعد إنقلاب الإرهاب الى خطر جامع، أنه لا خوف بينهم إذا اختلفوا، ولا جوع. وإيلافهم، للمرة الأولى، "إيلاف قريش".

وللمرة الأولى، بعد سبعة عقود من قومية التهديد والتدمير المشترك، بدأ المشروع القومي العربي السير على المسار الصحيح كمشروع للتضامن والتعاون والإعمار المشترك.

كاتب وصحافي ومدير دار "إي-كتب"