جهود الشيخ أبي الحسن الندوي

في خدمة الأدب الإسلامي*

الشيخ علي أبو الحسن الندوي

د. عبد الباسط بدر

يهب الله بعض الناس قدرات متميزة، كالحس المرهف، والبنيان العالي، والشخصية النافذة وغير ذلك من المواهب، يصبحون بها أصحاب عطاءات لا تتأتى لغيرهم، وعندما يوفق أحد هؤلاء الموهوبين إلى توظيف قدراته في الدعوة إلى الله وهداية الآخرين فسوف يكسب المجتمع داعية مبدعاً، وبليغاً متفوقاً، ورجلاً تتفتح له القلوب، وتركن إليه النفوس، والشيخ أبو الحسن الندوي واحد من هؤلاء اجتمعت فيه قدرات كثيرة متنوعة، فكرية وأدبية ودعوية، أعطى من خلالها لأكثر من نصف قرن في ميادين الدعوة والفكر والأدب الإسلامي، وسوف أعرض باختصار في الفقرات التالية لعطائه في ميدان واحد منها هو ميدان الأدب الإسلامي.

تتوزع عطاءات الشيخ أبي الحسن الندوي في ميدان الأدب الإسلامي في قسمين كبيرين هما: قسم عملي، وقسم إبداعي.

أما القسم العملي فهو الجهود التي كان يقوم بها في سبيل إظهار قضية الأدب الإسلامي، ونشرها، والارتقاء بها إلى مصاف العالمية، وتتضمن هذه الجهود مؤتمرات الأدب الإسلامي التي كان يعقدها أو يوجه لعقدها، أو يحضرها، والندوات والمحاضرات والمقابلات الصحفية التي كان يعرض فيها قضية الأدب الإسلامي، وجهوده في قيام رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ورئاسته لها مدة خمسة عشر عاماً، وقد كان للشيخ أبي الحسن الندوي دور الريادة في عقد مؤتمرات الأدب الإسلامي، وكان لهذه المؤتمرات أثر كبير في نشر وتطوير قضية الأدب الإسلامي، وفيما أعلم فإن أول مؤتمر دولي للأدب الإسلامي عقد بدعوته وتحت رعايته كان عام 1401هـ/1981م في ندوة العلماء بمدينة لكهنؤ بالهند، وهي الهيئة الإسلامية العريقة التي يديرها، ويدير من خلالها جامعة إسلامية ضخمة ومجموعة من المدارس والمعاهد الإسلامية المنتشرة في الهند وباكستان وبنغلاديش وبلاد أخرى، وقد تمكن بفضل صلاته ومكانته الكبيرة أن يجمع في هذا المؤتمر وفوداً ومندوبين من مصر والسعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر وسورية والأردن والمغرب العربي يمثلون جامعات وهيئات ثقافية فيها – وكان لي شرف حضوره - وبحثت فيه المحاور الأساسية لتنظير الأدب الإسلامي، وصدرت توصيات للجامعات العربية الإسلامية لتدريس هذا الأدب (وكانت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض قد سبقت إلى تدريس مادة منهج الأدب الإسلامي) ودعمه بشتى السبل، والإسهام في تنظيره.

وقد شجع هذا المؤتمر جهات أخرى على عقد مؤتمرات وندوات ولقاءات دولية وإقليمية، فعقد في السنة الثانية (1402هـ/1985م) الحوار حول الأدب الإسلامي وقضاياه (في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وعقدت عام 1405هـ/1985م الندوات العالمية للأدب الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وتوالت بعدها مؤتمرات وندوات في مصر والمغرب العربي والأردن وباكستان وبنغلاديش وتركيا وبريطانيا، وكان الشيخ الندوي يحرص على حضورها رغم ما تكلفه من المشقة وعناء السفر، كما كان يحرص على عقد مؤتمر أو ندوة دولية أو إقليمية مرة على الأقل في كل سنة في إحدى مدن الهند، وكان لحضوره زخم كبير يستقطب المشاركين، بل والمجتهدين في تقديم البحوث والاستماع إلى المناقشات، وقد أحصيت من خلال ما نشر في مجلة البعث الإسلامي اثنين وعشرين مؤتمراً وندوة كان فيها راعياً ومشاركاً رئيسياً.

ويتصل بمحور المؤتمرات والندوات: الخطب والمحاضرات واللقاءات مع الأفراد والمجموعات والإعلاميين الذين يسعون إليه في تلك المناسبات، وكان يركز فيها دائماً على قيمة الأدب بعامة، وقدراته الكبيرة في التأثير في الأفراد والمجتمعات، والحاجة الملحة للأدب الإسلامي في عصرنا الحاضر بخاصة لمواجهة تيارات الهدم ومنابر التغريب والإلحاد الأدبية، وإشباع الحاجة الفطرية إلى الجمال البياني، وضرورة تعزيز الارتباط بين الأدب والدعوة إلى الله، ووظيفة الأدب في البناء والإصلاح، ويركز على التربية الذوقية التي يقدمها الأدب الإسلامي، وأثرها الإيجابي الكبير في بناء شخصية المسلم، وصلتها الوثيقة بالبلاغة القرآنية والبيان النبوي، وهذه القضايا محاور أساسية في الأدب الإسلامي.

ومن جهوده العملية في خدمة الأدب الإسلامي: احتضانه ورعايته المتميزة لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، ففي أواخر العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري كانت مجموعة من المهتمين بالأدب الإسلامي تبحث في إنشاء تجمع للأدباء الإسلاميين لتعزيز موقفهم في الساحة الثقافية، وفتح منافذ لنشر إنتاجهم الذي كانوا يجدون صعوبة في نشره، فقد كان أصحاب الاتجاه اليساري مسيطرين على قسم كبير من منافذ النشر في العالم العربي، وخاصة المجلات والملاحق والصفحات الأدبية في الدوريات العربية، ولاسيما التي تملكها أو تؤثر عليها الحكومات، وكان البحث يركز على ضرورة قيام تواصل وتناصر بين الأدباء الإسلاميين على البعد، وفي لقاء ضم عدداً من الأساتذة الجامعيين المتخصصين في الأدب والنقد احتفاءً بالدكتور عماد الدين خليل ولدت فكرة الهيئة التأسيسية لرابطة الأدب الإسلامي، التي بدأت بمراسلة الأدباء والنقاد وأساتذة الأدب والنقد وبعض المفكرين الإسلاميين وطرح فكرة تأسيس رابطة للأدب الإسلامي، واقتراح أهدافها وأساليب عملها، ولقيت هذه المقترحات ترحيباً شديداً، وأرسل بعض المتحمسين لها مقترحات نيرة، وكتب بعضهم عن تجارب ومحاولات بدؤوا بها قبل سنوات ثم حالت الظروف دون تنفيذها، وعلى مدى خمس سنوات نضجت فكرة تأسيس الرابطة لدى أعضاء الهيئة التأسيسية، ووضعت الملامح الرئيسية لنظامها الأساسي، وصيغت بعض فقراته، وبدأ البحث الجاد عن شخصية متميزة تتولى رئاسة الرابطة، ومقر لمكتبها الرئيسي يمنحها الصفة القانونية ويعترف بشخصيتها الاعتبارية كاملة كما يريدها المؤسسون، ويمنحها حرية العمل دون تدخل في شؤونها، وكان هاجس (التخوف من مصطلح الإسلامية) يقلق المؤسسيين، فالتطرف الذي انزلق إليه بعضهم، والآثار السلبية لبعض الأعمال المسلحة التي ظهرت في أكثر من مكان في العالم العربي، وعوامل أخرى مرتبطة بها، جعلت المؤسسين يفتشون بحرص شديد عن الشخصية التي تتجاوز تلك التخوفات، وتجتذب الثقة بالرابطة وأهدافها، وكانت شخصية أبي الحسن الندوي القطب الذي أجمع المؤسسون وكل من استشيروا عليه، فهي شخصية تمتلك صفات فريدة كأنها مفصلة تفصيلاً لهذه الرابطة، تمثل كل ما يحمله اسمها من (إسلامية) و(أدبية) و(عالمية) فأبو الحسن مفكر إسلامي عرف بتميز فكره منذ كتابه المبكر (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)، وهو ذو موهبة أدبية تشهد بتألقها كتابته عن محمد إقبال ومختاراته من الأدب العربي، ثم إن المزيج الذي يحمله في عروقه من الأصول العربية والهندية، وانتشاره الواسع في العالم الإسلامي أبين مظهر لتجاوزه حدود المحلية إلى العالمية.

ونيابة عن الهيئة التأسيسية سعى اثنان من أعضائها إلى الشيخ أبي الحسن الندوي عندما جاء إلى مكة لحضور مؤتمر رابطة العالم الإسلامي عام 1404هـ وعرضا عليه هموم التأسيس والحاجة إلى من يتولى المسؤولية واجتماع الرأي عليه، فقبل دون تردد، وتكفل بإنجاز الإجراءات القانونية لتسجيل الرابطة وإنشاء مكتبها الرئيسي في الهند، ولم تمض مدة طويلة حتى جاء البشير بتحقق الآمال التي طالما تطلع إليها الكثيرون وولادة الشخصية القانونية الدولية لرابطة الأدب الإسلامي العالمية.

وبعد شهور قليلة، وبالتحديد في شهر (تشرين ثاني) عام 1405هـ الموافق لشهر إبريل نيسان عام 1985م وفي جو عاطفي نادر كان المؤتمر الأول للرابطة يعقد في إحدى قاعات ندوة العلماء بمدينة لكهنؤ بالهند برئاسة الشيخ أبي الحسن الندوي، ويحضره أعضاء مؤسسون من معظم الدول العربية والهند، ليضع الصيغة المعتمدة لنظام الرابطة ومكاتبها الإقليمية ويختار أعضاء مجلس أمنائها، وكان للشيخ أبي الحسن الفضل الكبير في تحول الحلم إلى حقيقة قائمة.

وعلى امتداد خمسة عشر عاماً بذل الشيخ أبو الحسن من وقته وجهوده الشيء الكثير في إدارة الرابطة، وحضر جميع مؤتمراتها ومجالس أمنائها في أماكن شتى، في السعودية والأردن وتركيا ومصر والمغرب العربي وبريطانيا، رغم آلام المرض ومتاعب الشيخوخة، وكان لتوجيهاته الحكيمة الفضل الكبير في نمو الرابطة وتطورها وتجاوزها لكثير من المعوقات الداخلية والخارجية، والتي كاد بعضها يعصف بها غير مرة، ولولا فضل الله سبحانه ثم حكمة الشيخ وصبره وتدخله لاستيعاب المشكلات الطارئة وحلها، لكانت الرابطة واحدة من التجارب الإسلامية القصيرة والمريرة في عصرنا الحاضر.

ثانياً: القسم الإبداعي:

يبدو عطاء الشيخ أبي الحسن الندوي في جوانب عدة من الأدب الإسلامي، تتجاوز التوقعات التي يحدسها المرء في داعية فقيه، فقد قدّم أعمالاً أدبية إسلامية في الدراسات الأدبية والنقدية، وفي أدب الرحلات، وفي أدب التراجم والسير، وفي قصص الأطفال، وهذه ميادين إبداعية تكشف عن موهبة أدبية غنية متعددة الجوانب.

فمن الدراسات الأدبية والنقدية التي نشرها: كتاب (روائع إقبال) درس فيها آفاق الإبداع عند الشاهر الإسلامي الكبير محمد إقبال، وحلل نصوصاً رائعة ترجمها بنفسه من دواوينه الفارسية والأردية، وطوف في الآفاق الفكرية والشعورية التي تضمنتها القصائد، وأظهر من خلالها التصور المتميز للشخصية المسلمة التي كانت تملأ نفس إقبال ومشاعره، وعوامل القوة والاستمرار فيها، وأسباب تفوقها على النماذج البشرية الأخرى، كما وقف على الأبعاد الفلسفية العميقة في تصور إقبال لوظيفة الإنسان المسلم في الحياة، والزيادة التي وضعته فيها عقيدته، ووظيفة الدعوة والهداية التي تشع عطاءً حنوناً للبشرية.

ومن الدراسات الأدبية التي قدمها الشيخ أبو الحسن (الحضارة الغربية في شعر أكبر حسين الإله إبادي) اهتم فيها بدراسة مضمون قصائد هذا الشاعر الهندي الكبير الذي يقل في شهرته، داخل الهند، وفي إسلاميته عن إقبال، وركز في دراسته على رؤية الشاعر للحضارة الغربية في وقت كانت هي الغالبة، وكان معظم الشرق المسلم ضعيفاً مقهوراً، لكن الشاعر لم تبهره مظاهر القوة والسطوة، واستطاع أن ينفذ إلى أعماقها، ويرى الجوانب السلبية البشعة فيها، فقوتها ظلم، وسطوتها تسلط، والإنسان داخلها في تيه كبير، لأنه قطع أوتار قلبه الروحية، وأصم أذنيه عن صوت السماء.

ومن كتابات الندوي المهمة في الأدب الإسلامي: كتابه (نظرات في الأدب) فهذا الكتاب عرض نقدي، ودراسة تنظيرية لمفهومات أدبية كبرى، يقرر مقاييس أساسية لمفهوم العمل الأدبي، ويؤصل قواعد للأدب الإسلامي، ويبين طبيعته، وعناصره المميزة له عن الآداب الأخرى، ويحدد وظائفه وأهدافه، والقيم المضمونية والشكلية فيه، وهذه هي الموضوعات الرئيسية التي يتجادل فيها دعاة الأدب الإسلامي وخصومه وهي التي تفصل في وجوده وغيبته.

لم يعرض الشيخ الندوي موضوعاته تلك في عناوين مباشرة كالتي ذكرها، لكنه قدمها ضمن نصوص واضحة صريحة، يستخرج منها القارئ تلك العناوين فمثلاً يتحدث عن الأدب فيبين له مفهوماً متميزاً نستشف منه آفاق تصوره له، يقول: ص35: "الأدب في أوسع معانيه تعبير عن الحياة وعن الشعور والوجدان في أسلوب مفهوم ومؤثر) ويرفض أن يكون النص الأدبي مقصوراً على ما يقدمه المحترفون ومن اشتهر بصنعة الأدب، ويلفت الأنظار إلى ما يسميه (الأدب الطبيعي) حيث النص الذي أبدعه صاحبه في سياق موضوعات تاريخية أو إخبارية أو في الترجمة الذاتية والغيرية..إلخ. وسكب فيه تجربته الوجدانية ومشاعره الصادقة، ويستشهد على ذلك بنصوص من الحديث الشريف والتاريخ والتراجم، كحديث السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها عن حادثة الإفك، وحديث كعب بن مالك عن تخلفه مع صاحبيه عن غزوة تبوك، ومعاناته إلى أن نزلت آيات التوبة عنهم، وبين أن في هذه النصوص من القيم الأدبية الفنية والشعورية ما يفوق بكثير ما تتضمنه كثير من القصائد والكتابات الأدبية الأخرى، ولاشك أن هذه الرؤية الواسعة للعمل الأدبي تربطه بعنصريه الأساسيين: التجربة الصادقة والفنية العالية.

ويعرض في سياق تصويري وظيفة الأدب فيقول ص105: (إني أتصور الأدب حياً له قلب حنون وله ضمير واع، وله نفس مرهفة الحس، له عقيدة جازمة، وله هدف معين، يتألم بما يسبب الألم، ويفرح بما يثير السرور، فإذا لم يكن الأدب كذلك فإنه أدب خشيب جامد، أدب ميت جامد، أشبه بالحركات البهلوانية والرياضات الجمبازية.. إن الأدب من أكبر الوسائل للوصول إلى الأهداف النبيلة..) ويستشهد بأبيات للشاعر محمد إقبال ترجمها من الفارسية يقول فيها: (لا بارك الله في نسيم السحر إذا لم تستفد منه الحديقة إلا الخمول والذبول، إن غاية الإحسان في فن من الفنون لوعة الحياة الدائمة، ولا خير في نثر وشعر إذا تجرد من تأثير عصا موسى..).

ومن الميادين التي كتب الشيخ الندوي وتعمق فيها: السيرة الذاتية، وهذا اللون من الأدب إبداع يقدم فيه صاحبه تجربته المتميزة للآخرين ليقفوا على تعامل صاحبها مع الأحداث، ويروا العثرات التي مر بها، والنتائج التي حققها، فهي إبداع هادف وممتع في آن واحد، ينقل مع تجربة صاحبها تصوراته وفكره، وقد كتب الشيخ الندوي تجربته الطويلة والغنية في كتاب (مسيرة حياة) في خمس مجلدات، كان فيها شاهداً على أحداث عصره، وما عانت منه الأمة الإسلامية في بقاع شتى، لذلك نجد في هذه السير نماذج لعائلات وأفراد عانوا آلام عصر الهبوط، ونجد مواجهات قوية لأزمات الفقر والجهل والمرض والخوف والاستعمار، ونجد النجاح والإخفاق، ونجد النماذج البشرية العالية والهابطة، ونجد بعد الرؤية وقوة الأحداث، وتستمتع بسلاسة العبارة وعذوبة الأسلوب.

ويشكل أدب الرحلات جانباً مهماً من إبداع الشيخ أبي الحسن الندوي، ولعله صدى للأسفار الكثيرة التي قام بها في أنحاء الشرق والغرب، فقد طوف الشيخ الندوي في العالمين العربي والإسلامي وفي أوروبا، وكانت عينه وبصيرته تتقاسمان المشاهد التي يمر بها، كما كانت مقاييسه الإيمانية تحاكم وتحكم على كل ما يقف عليه، وكان قلمه يسجل ما تجتمع عليه ملكاته الثلاثة تلك، فجاءت كتبه: (مذكرات سائح في الشرق) و(من نهر كابل إلى نهر اليرموك) و(الطريق إلى المدينة) و(في المغرب الأقصى) تعرض مشاهداته وتأملاته العميقة وترسم صوراً صادقة للمجتمعات العربية والإسلامية التي مر بها في ذلك الوقت، وترصد القيم الإيجابية والعناصر السلبية فيها، وتستشرف آفاق المستقبل لتلك الإيجابيات والسلبيات بفراسة المؤمن، وتحذر بغيرة المشفق من سوء العواقب، وقد صدقت فراسته وذاقت بعض البلاد العربية والإسلامية مرارة ما تخوف منه.

وقد أضاف الشيخ أبو الحسن الندوي إلى كتاباته في أدب الرحلات تنظيراً وتأصيلاً لقواعد مهمة فيه، فكتب فصلاً ضافياً عنه في كتابه (نظرات في الأدب) قرر فيه القواعد التي ينبغي أن تتوافر في هذا الأدب وكاتبه ليكونا مفيدين للبشرية، منها ضرورة أن يتمتع الكاتب بالنظرة الشمولية للمجتمع الذي يكتب عنه، ولا يحتبس في جزئيات تحيط به في وقت أو مكان ما ويصدر الأحكام التعميمية الخاطئة، ومنها ضرورة التسجيل المباشر للحدث الذي يصادفه كي لا يدخل عليه أثر الزمن بعد ذلك نسياناً أو تغيراً، ومنها ألا ينحي الكاتب ذاته وأحكامه عما يكتب، وهذا خلاف ما يذهب إليه معظم المنظرين في الغرب، وحجة الشيخ الندوي في ذلك أن كاتب أدب الرحلات إذا اقتصر على تسجيل ما يراه ونحى مشاعره وعقيدته وفكره تحول إلى مجرد آلة تصوير باردة وصار ما يكتبه وصفاً إخبارياً لا حياة فيه.

ولعل آخر ما يخطر على بال من يدرس نتاج مفكر فقيه داعية أن يجد له إسهاماً في أدب الأطفال، لكن الشيخ الذي كان يحمل همّ الدعوة وهموم المسلمين حيثما كانوا، وجد في هذا الميدان ما غفل عنه الكثيرون قبل نصف قرن، فالطفل هو البنية الواعدة ورجل المستقبل، والعناية به تأسيس للرجل الصالح، والقصة بما تملكه من مشوقات ومؤثرات وسيلة تحفر في نفوس الأطفال أخاديد لا تردم، وقد لحظ الشيخ أبو الحسن ذلك وأدرك خطورة هذا المنبر في إهماله وفي استخدامه، وبحث عن النصوص القصصية المناسبة فلم يجد الكثير، وأراد أن يدعو الأدباء الإسلاميين إلى ملء الفراغ قبل أن يملأه غيرهم، فجعل دعوته نظرية وتطبيقية، واختار من حياة الأنبياء والرسل مواقف وأحداثاً مهمة، وأخرجها في مجموعة قصصية سماها (قصص الأنبياء) وصاغها بأسلوب عذب مبسط يناسب الطفل في مرحلة تفتح الوعي التي تلامس مرحلة الفتوة، وهي أخطر مرحلة في حياة الطفل، تتأسس فيها مفهوماته، وتتجذر قيمه.

وقد نبه الشيخ الندوي في مقدمة المجموعة إلى أهمية هذا اللون من الأدب، وأثره في تنشئة الأجيال والشروط التي ينبغي أن تتوافر فيه ليكون ناجحاً يتغلغل إلى أعماق الناشئة، ويزرع فيهم القيم الفاضلة.

وبعد:

فهذا تطواف سريع بجهود الشيخ أبي الحسن الندوي في خدمة الأدب الإسلامي في جانبيه العملي والإبداعي، أردت أن ألفت نظر الباحثين فيه إلى هذا الموضوع المهم والقيم، والذي يمكن أن يكون رسالة جامعية معمقة، أو كتاباً منهجياً كبيراً، فما ذكرته هنا أشبه ما يكون بعناوين تندرج تحتها تفصيلات وتحليلات واستنتاجات كثيرة، وأحسب أنه من حق الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله رحمة واسعة - علينا وعلى دعاة الأدب الإسلامي ودارسيه أن نعكف على هذا الفصل المهم من تاريخ الأدب الإسلامي ومراحل تطوره، فالشيخ الندوي بعطاءاته الواسعة والمتميزة قسم من هذا التاريخ ومرحلة عظيمة التطور، كثيرة التغييرات، غنية الأحداث لا يصح أن تغيب عن سجل العطاء والتضحية والإبداع، ليس في تاريخ الأدب الإسلامي وحده، بل في تاريخ الأدب الإنساني كله.

- من كتاب: (الشيخ أبو الحسن الندوي: بحوث ودراسات)