بين الديمقراطية التقليدية والديمقراطية المعاصرة

دندل جبر

1- الديمقراطية التقليدية

ظهرت هذه النظرية بشكلها المعروف في عصر النهضة خلال القرن السابع عشر والثامن عشر على أيدي فلاسفة المبادئ التي تدعو للحرية من أمثال: توماس هوبز، وجان جاك روسو، ولوك.

وهذه الديمقراطية لا تزال تعرف في بلاد الديمقراطيات الغربية رغم كثير من التطور الذي لم ينل الجوهر القديم لهذه الديمقراطية.

الأساس المشترك والخصائص العامة للديمقراطية التقليدية:

الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه الديمقراطية التقليدية هو المذهب الفردي وما بني عليه من نظرية للحقوق والحريات الفردية الطبيعية... وحجر الزاوية في المذهب أن الإنسان هو الفرد هو الحقيقة الأساسية الأولى في الاجتماع الإنساني، وأن ذلك الإنسان الفرد يتمتع بحكم الطبيعة نفسها وقبل وجود الدولة وسلطتها بحقوق وحريات طبيعية توشك أن تكون مقدسة، وما وجدت الدولة ولا السلطة السياسية فيها إلا من أجل حماية تلك الحقوق ودعم تلك الحريات، ولا يجوز والأمر كذلك لسلطة الدولة أن تمس تلك الحقوق والحريات أو أن تنال منها، ذلك أنها إذا أقدمت على هذا الأمر خالفت السبب الأساسي لوجودها وخرجت عن سند شرعيتها... والحرية الفردية مصونة لا تمس طالما أنها لا تصل إلى حد إيذاء الغير، إن حدود الحرية وفقاً لهذا المذهب تكمن في عدم إيذاء الآخرين، أما إذا لم تؤد الحرية إلى إيذاء الغير فهي حرية لا يجوز تقييدها ولا النيل منها لأنها حرية طبيعية سابقة على السلطة بل موجدة لها، وعلى هذا الأساس فإن الحكومات في ظل الديمقراطية التقليدية هي حكومات مقيدة وليست حكومات مطلقة، ذلك أن سلطتها تقف عند حد الحقوق والحريات الطبيعية لا تستطيع أن تمسها، كذلك فإن الأفراد متساوون فيما لهم من حقوق –من الناحية النظرية- وينتج عن ذلك ما يقال له المساواة القانونية أو المساواة في نظر القانون. (انظر – الأنظمة السياسية المعاصرة – الدكتور يحيى الجمل – دار النهضة العربية – بيروت – ط1969 – ص156-157).

الديمقراطية التقليدية مذهب سياسي فقط:

إن النظر إلى الديمقراطية التقليدية باعتبارها حقيقة سياسية يعني شيئاً آخر أيضاً، يعني أن هذه الديمقراطية مذهب سياسي وليست مذهباً اجتماعياً.. فهي وفقاً لهذا التصوير تهتم بالجانب السياسي من حياة المجتمع وتؤكد الحقوق السياسية، ولكنها لا تتدخل ولا يعنيها أن تتدخل في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان... فهي إذن تعني أساساً بالمساواة وبالحرية في جانبيهما السياسي دون مضمونها الاقتصادي والاجتماعي...

السلطة السياسية معبرة عن الإرادة الشعبية:

تقوم هذه الديمقراطية على أساس أن السلطة السياسية يجب أن تكون معبرة عن الإرادة الشعبية، وأن تلك الإرادة هي التي أعطت السلطة السياسية تفويضاً للتعبير عن الشعب نتيجة عقد اتفاقي بين الأفراد يقصد به إقامة سلطة حاكمة وهو ما يسمى باسم "العقد الاجتماعي" (نظام الحكم في الإسلام – الدكتور محمد فاروق النبهان – ط2 – 1408هـ - 1988م – مؤسسة الرسالة – ص3).

وهذا ما عبر عنه جان جاك روسو أثناء حديثه عن نشأة الحكم حيث يرى أن الحكم يقوم على أساس التعاقد بين الحاكم والمحكومين.. بل هو يرى أن العقد الاجتماعي هو عقد سياسي ضمناً، وأن العقد السياسي هو امتداد للعقد الاجتماعي ونتيجة لازمة من نتائجه. (الخلافة والإمامة – عبد الكريم الخطيب – ط2 – 1395هـ - 1975م – دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت – ص66).

السيادة للشعب:

بموجب العقد الاجتماعي، فإن الإرادة العامة هي المظهر الوحيد للسيادة التي لا تكون إلا للشعب بمجموعه، وهي وحدها مصدر القانون والتشريع ولها السلطة المطلقة... والإرادة العامة وحدها هي التي يمكنها أن توجه قوى الدولة وفق هدف نظامها.

والسيادة في مذهب روسو هي سلطة صاحب السلطات الذي أوجزه العقد أو الميثاق الاجتماعي، وصاحب السلطان هو في الحقيقة الشعب لأن الشعب وحده هو صاحب السيادة، والشعب هو مصدر الإرادة العامة التي يعبر عنها بالقانون، فالسيادة إذن تتطابق مع الإرادة العامة، أو أن السيادة تعبر عن نفسها بالإرادة العامة. (الدولة الديمقراطية – الدكتور منذر الشاوي – ط1  - 1419هـ - 1998م – منشورات المجمع العلمي – بغداد – ص115).

ومن مبادئ هذه النظرية في مذهبها السياسي فصل الدين عن الدولة، وهو نتيجة طبيعية لسيادة الشعب بمجموعه كونه مصدر القانون والتشريع.

2- الديمقراطية المعاصرة

إن البداية التاريخية لنشأة الديمقراطية قبل انشطارها إلى تعريفين: ديمقراطية تقليدية وديمقراطية معاصرة، كان في عصر الأنوار في أوروبا، وقد اختلف الباحثون في تعريف هذه الديمقراطية الناشئة، فبعضهم يعتبرون أن الديمقراطية هي عبارة عن مذهب سياسي، وهي ما يمكن تسميته بالديمقراطية التقليدية التي مرّ ذكرها، بينما عرفها آخرون بأنها شأن إجرائي وهي ما تسمى حالياً بالديمقراطية المعاصرة.

جوهر الديمقراطية المعاصرة:

إن جوهر هذه الديمقراطية هو آليات ووسائل إجرائية لتحقيق أهدافها وهذا "الجوهر للديمقراطية المعاصرة أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم الحق بمحاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق إلى اتجاهات ومناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يرضون عنها.

وقد وجدت البشرية لهذه الديمقراطية أساليب عملية مثل: الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء... إلخ" (انظر: فتاوى معاصرة – الدكتور يوسف القرضاوي – ج2 – ط2 – 1414هـ - 1993م – دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع – المنصورة – ص637-638).

ووصول الحاكم إلى السلطة في هذه الديمقراطية هو انعكاس لإرادة المحكومين... كما أن بقاءه فيها رهن هذه الإرادة... وكل ذلك يجري بطريقة سلمية وانسيابية لا تدخل المجتمع في صراعات عنيفة، ولا تقوده إلى انقسامات حادة تؤدي إلى إحداث الخلل في فعالياته العامة.. ويعني ذلك تداول السلطة سلمياً.

تطور الديمقراطية المعاصرة:

من أهل مراحل تطور هذه الديمقراطية في الحرب العالمية الثانية وخصوصاً عام 1942م حين أصدر جوزيف شومبيتر كتابه الشهير (الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية) الذي أعلن فيه رفضه للتعريف الكلاسيكي للديمقراطية (أي تعريف الديمقراطية التقليدية الذي هو حكم الشعب) والذي كان سائداً في القرن الثامن عشر، بحيث أصبح الاتجاه الغالب في تعريف الديمقراطية هو ذلك الذي يربطها بصورة تكاد تكون كاملة بالانتخابات بحيث صار ينظر إلى الديمقراطية باعتبارها مجموعة وسائل لإقامة السلطة ووضعها تحت طائلة المسؤولية.

وهناك آليات فرعية تنتج عن التعددية – التي نتجت عن التنافس في الانتخابات – منها صيانة حق المعارضة ومشروعيتها

وآليات فرعية تنتج عن منظومة الحقوق والحريات العامة في هذه الديمقراطية ومنها:

1- حق المساواة 2- حق الحياة – حق الأمن وحق المشاركة في الحياة السياسية – حق الملكية وحق العمل  3- حرية العقيدة وحرية الرأي وحرية التنقل وحرية المسكن. (انظر: الديمقراطية بين العلمانية والإسلام – الأستاذ محمد عبد الجبار – دار الفكر – دمشق – ص136 – 143).

الديمقراطية المعاصرة منهج سلمي:

وهذه الديمقراطية منهج ضروري يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته... وتمكن المجتمع من السيطرة على مصادر العنف ومواجهة أسباب الفتن والحروب الأهلية، وتصل إلى تحقيق ذلك من خلال تقييد الممارسة الديمقراطية بدستور يراعي الشروط التي تتراضى عليها القوى الفاعلة في المجتمع وتؤسس عليها الجماعة السياسية إجماعاً كافياً.

وتمكنت هذه الديمقراطية من خلال تحرير نفسها من صفة الجمود ونفي شبهة العقيدة، أن تصبح منهاجاً عملياً وواقعياً يأخذ عقائد وقيم المجتمعات المختلفة في الاعتبار.

حيادية هذه الديمقراطية:

في هذه الديمقراطية فرق بين منهج اتخاذ القرارات ومضمون هذه القرارات فاتخاذ القرارات هو وسيلة ولا علاقة له بمضمون هذه القرارات، لأن هذا المضمون للقرارات يتوقف على اختيار متخذي القرار الديمقراطي في ضوء الثابت من عقائدهم والذي تنص عليه الدساتير في ظل الشرائح التي يلتزم بها المجتمع المعني والقيم الدينية والإنسانية التي يجلها أفراده ويسعون إلى تجسيدها في نظامه الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي. وعليه فالدستور الديمقراطي يجب أن يراعي الواقع ويأخذ في الاعتبار الضروريات التي يتطلبها تراضي الجماعة السياسية على دستور ديمقراطي فلكل مجتمع ظروفه الخاصة وأصوله الثقافية.

ومما سبق نخلص إلى أن الديمقراطية المعاصرة هي مجموعة آليات لتنظيم الحياة السياسية للمجتمع، وهي ليست عقيدة بل ممارسة دستورية حيادية لا تتدخل في مضمون قراراتها، وهي منهاج عملي واقعي يأخذ عقائد وقيم المجتمعات المختلفة في الاعتبار وخاصة الثابت منها والتي تنص عليه الدساتير في ظل الشرائع التي يلتزم بها المجتمع المعني.