قاتلوا فكر "داعش" أولاً

قاتلوا فكر "داعش" أولاً

صبحي غندور*

[email protected]

لفت انتباهي ما قاله الرئيس الأميركي أوباما في خطابه للأميركيين، ليل العاشر من سبتمبر، بأنّ ("الدولة الإسلامية" ليست هي بدولة ولا بإسلامية). فجيّد أن يصدر مثل هذا الكلام عن رئيس أميركي عشيّة الذكرى ال13 للأعمال الإرهابية التي حدثت في الولايات المتحدة عام 2001، وفي إطار الحراك الأميركي الواسع لمواجهة جماعات "داعش". فإذا كان مفهوم وتعريف "الدولة" غائبين فعلاً عن المواقع الجغرافية التي تسيطر عليها "داعش" الآن في سوريا والعراق، ولا يوجد خلاف في العالم حاليّاً حول ذلك، فإنّ مسألة نفي "إسلامية" هذه الجماعات هي التي لم تحصل بعد على إجماعٍ دولي وإقليمي.

ففي الدول الغربية، ما زال الكثير من الآراء يُحمّل الإسلام كدين مسؤولية وجود جماعات التطرّف العنفي التي تعمل بأسماء مختلفة؛ منها "القاعدة" المنتشرة عالمياً، و"بوكو حرام" في نيجيريا، وحركة "الشباب" في الصومال، وصولاً الآن إلى جماعات "داعش"، وغيرها العديد من الأسماء العاملة تحت رايات "إسلامية" في آسيا وإفريقيا، وبعضها يتحرّك في نطاق محلّي فقط، لكن البعض الآخر له امتدادات دولية تصل إلى أماكن مختلفة في "العالم الإسلامي"، وفي القارّتين الأوروبية والأميركية. 

إذن، خطر جماعات التطرّف العنفي بأسماء "إسلامية" موجودٌ فعلاً ولا مجال لنكرانه، ولا يصحّ القول فقط إنّ هذه الجماعات هي "صناعة خارجية" يتمّ الآن توظيفها. فالمشكلة الأساس هي بوجود بيئة مناسبة لنموّ مثل هذه الجماعات في الدول العربية والإسلامية، بغضّ النّظر عمّن يبدأ بالزرع وعمّن يحصد "الثمرات" لاحقاً. فلو كانت "الأرض الفكرية" لهذه الجماعات قاحلة ويابسة وغير مرويّة محلّياً، لما أمكن لأيّ زرعٍ خارجي أن ينجح أو أن يحصد ثمار شرّ ما يزرع!.

إنّ "داعش" الآن، ومعها وقبلها "القاعدة"، استطاعتا استقطاب قطاعاتٍ واسعة من أجيال شابّة في دول عربية وإسلامية بسبب غياب فعالية الفكر الديني السليم، الذي يُحرّم أصلاً ما تقوم به هذه الجماعات من أساليب قتل بشعة وجرائم إنسانية بحقّ كل من يختلف معها، حتى من داخل الوطن أو الدين نفسه. فلو لم يكن هناك فراغ فكري للمفهوم الصحيح للدين وللمواطنة لما أمكن استقطاب هذا الحجم من أتباع هذه الجماعات.

  إنّ تنظيم "داعش" ينتعش ويستفيد ويقوى الآن كلّ يوم، حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّه شكلاً ويدعمون ضمناً – ولو عن غير قصد - مبرّرات وجوده حينما يتّجهون بحديثهم إلى "عدوّهم" الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى. فكثيرٌ ممّن يظهرون الآن على الفضائيات العربية يبدأون حديثهم ضدّ "داعش"، لكنّهم فوراً ينتقلون إلى الحديث عن "الحالة الطائفية والمذهبية"، وعن وجود "الخطر الآخر" في داخل الوطن أو من دولة مجاورة، ممّا يساهم في إعطاء الأعذار لوجود "داعش" ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو كدين براء من فكر هذه الجماعات وأساليبها.

وطبعاً، فإنّ هذا النوع من الأحاديث يزيد الشروخ الدينية والوطنية الآن ولا يبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرّف، بل على العكس، يرفدها بمزيدٍ من المؤيّدين. فالمواجهة مع جماعات "التطرّف العنفي" تحتاج الآن إلى وقف كل الصراعات والخلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني حتّى يمكن محاصرة هذه الجماعات وتجفيف كل منابع الدعم المادي والبشري لها.

إنّ المخاطر القائمة حالياً هي ليست على أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب فقط، بل هي أخطار محدقة بحقّ الأوطان كلّها بما فيها الشعوب والحكومات والمكوّنات الاجتماعية فيها. فضحايا التطرّف العنفي الآن هم من أوطان ومناطق وأديان ومذاهب مختلفة.

وتشهد الأرض العربية حالياً جملة تحوّلات سياسية شبيهة بما حدث منذ مائة عام تقريباً بعد ما أفرزته الحرب العالمية الأولى من نتائج، في ظلّ ما كان يُعرف تاريخياً بمصطلحات بدأت مع تعبير "المسألة الشرقية" وانتهت بخطّة "وراثة الرجل التركي المريض".

فقد حصلت في تلك الفترة مراهناتٌ عربية على دعم الأوروبيين لحقّ العرب المشروع في الاستقلال وفي التوحّد بدولة عربية واحدة. وسُمّيت تلك المرحلة ب"الثورة العربية الكبرى"، وهي ثورة قام بها الشريف حسين حاكم مكّة عام 1916 ضدّ الدولة العثمانية بدعمٍ من بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى. لكن هذه المراهنة العربية على "الوعود البريطانية" لم تنفّذ طبعاً. بل ما حصل هو تنفيذ بريطاني لوعدٍ أعطاه آرثر بلفور باسم الحكومة البريطانية للحركة الصهيونية بمساعدتها على إنشاء "وطن قومي يهودي" في فلسطين. فما بدأ كثورةٍ عربية مشروعة في أهدافها انتهى إلى ممارساتٍ وظّفتها القوى الأوروبية لصالحها، كما استفادت الحركة الصهيونية منها فنشأت "دولة إسرائيل" ولم تنشأ الدولة العربية الواحدة!.

الآن تعيش المنطقة العربية مرحلة سقوط "النظام العربي الرسمي المريض" في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير ل"دولة إسرائيل" على أحداثها وعلى القوة الدولية الأعظم في هذه الحقبة الزمنية. هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال "النظام العربي الرسمي المريض" أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً فكر وبرامج وقيادات وأساليب سليمة وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات.

الآن نجد أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي. ويترافق مع محاولات التدويل الجارية حالياً، وجود واقع عربي مؤلم داخل المجتمعات العربية، من حيث انتشار وباء الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية والذي يتزامن أيضاً مع السعيٌ الإسرائيلي المتواصل منذ عقودٍ من الزمن لدعم وجود "دويلات" طائفية وإثنية في المنطقة العربية.

فالمنطقة العربية مهددة الآن بمشروعين يخدمان بعضهما البعض: مشروع التدويل الغربي لأزمات عربية داخلية، ثمّ مشروع التقسيم الصهيوني لأوطان وشعوب المنطقة. وما تقوم به جماعات التطرف الديني العنفي يساهم بتحقيق المشروعين معاً في ظل غياب المشاريع الوطنية العربية التوحيدية.

إنّ اعلان وجود "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا هو مقدّمة عملية لإنشاء دويلات دينية جديدة في المنطقة، كما حصل من تقسيم للبلاد العربية بعد اتفاقية سايكس- بيكو في مطلع القرن الماضي، ممّا سيدفع هذه الدويلات، في حال قيامها، إلى الصراع مع بعضها البعض، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل نفسها، كما حصل أيضاً خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية.

وفي حقبة "الصراعات الدموية" التي سترافق قيام الدويلات الدينية، ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات في القدس والضفة، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينيّي 1948 لتهجير ما أمكن منهم إلى دويلات تحتاجهم عدّةً وعدداً، بل ربّما يكون ذاك الوقت المناسب لجعل الأردن "الوطن الفلسطيني البديل" مع أجزاء من الضفة الغربية، إضافة إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم يقيمون الآن!!.

فهل يشكّ أحدٌ بمصلحة إسرائيل ودورها في نموّ جماعات التطرّف الديني وفي وجود دولة "داعش"؟! وأين المصلحة الإسلامية والعربية في مواصلة الصراعات والخلافات الفرعية أمام هذا الخطر المحدق بالجميع الآن؟!.

إنّ القتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف لكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو يتكرّر رغم ذلك باسم الإسلام في أكثر من زمان ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية.

وتزداد المأساة استفحالاً حينما يعطي بعض المحلّلين السياسيين الأعذار لهذه الجماعات ولأعمالها أو تبريراً لها من خلال استعراض الأزمات القائمة في المجتمعات، وكأنّ الحرام يصبح حلالاً لمجرّد وجود مشاكل اجتماعية أو سياسية في هذا المكان أو ذاك.

فمن المهمّ أن يدرك أتباع أي طائفة أو مذهب أين تقف حدود الانتماءات الطائفية، فلا نردّ على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما من الوجود على أرضه. فالحل هو في بناء الدولة المدنية (لا الدينية) القائمة على مفهوم سليم للوطن والمواطنة. وعلى الجميع أيضاً، تقع مسؤولية فهم ما يحصل بأسبابه وأبعاده السياسية، وليس عن طريق المعالجة الطائفية والمذهبية لتفسير كل حدثٍ أو قضية أو صراع. فلا تغيير المجتمعات يصحّ بالعنف الدموي، ولا الحرص على الخصوصيات الوطنية والدينية يبرّر هذه الانقسامات الدموية، وعلى من يريدون فعلاً إنهاء ظاهرة "داعش" ومثيلاتها، واستئصالها من العالمين الإسلامي والعربي، أن يحاربوا فكرها أولاً!.

               

* (مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)