سنة التدافع وعواما النصر (7)

عمر حيمري

 هذه نماذج من الحروب خاضها المسلمون ورسول الله بين أظهرهم فالنتعلم منها فنون الحرب وأخلاقيات القتال ونحفظ عنها أسباب النصر وعوامله وقواعده وسننه ، لتكون لنا نبراسا نهتدي بها في الجهاد وعند مواجهة الأعداء . ولقد وجدت هذه العوامل ، بعد استقراء جزئي للحروب التي خاضها المسلمون ، وبعد الاطلاع على بعض التوجيهات الحربية الواردة في بعض الآيات القرآنية ،والسنة النبوية وفي بعض الآثار ، تكمن في عوامل ثلاثة :

عوامل غيبية :

 الوجود نوعان : وجود شهادة ، ووجود غيب ،

فوجود الشهادة هو الوجود المادي المحسوس القابل للإدراك من طرف الحواس الخمسة إدراكا جازما ، كما هو في الواقع ، دون زيادة أو نقصان وهو محدود بحدود الزمان والمكان ويمكن التعرف عليه بسهولة ، وهو موضوع اهتمت به العلوم الحقة والعلوم الطبيعية وأمره ليس من همي في هذا الموضوع .

أما وجود الغيب فهو العالم الماورائي ، أو الميتافيزيقي ، أي عالم ما وراء الحس المادي الطبيعي ، أو ما يعرف بعالم الغيب . وهو الذي اختص به الله سبحانه وتعالى وحجبه عن غيره ، إلا من ارتضى من رسول ، بدليل قوله تعالى : [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ] ( سورة الجن آية 26 ) وقوله : [ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ] ( سورة الأنعام آية 59 ) . فهو عالم مستتر محجوب ، لا تدركه الحواس ، وغير محدود بحدود الزمان و المكان ، ولا يحتاج إليهما في وجوده أو معرفته ، ولا يحيط به العقل ومقولاته القبلية ، ولا سبيل لنا لإدراكه إلا سبيل الوحي . فهو عالم متعالي عن التجربة وعن المعرفة العقلية ، لا نستطيع معرفته وإن كنا نملك حق التفكير فيه بشرط ، أن نعلم مسبقا أن معرفته معرفة علمية مستحيلة ، وإن كانت ممكنة عن طريق الإيمان ، وهو ما قال به كانط في مقولته الشهيرة " لقد ضحيت بالعلم في سبيل الإيمان ".

 والإيمان بالغيب في ديننا الإسلام ، هو أصل من أصول الدين ، وصفة من صفات المؤمن . فلا إسلام ، ولا إيمان ، بدون التصديق بالغيب لقوله تعالى : [ والذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يومنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ] ( سورة البقرة آية 3 - 4 – 5 ) وقد ميز به الله سبحانه وتعالى الإنسان عن غيره من المخلوقات ، حتى لا يبقى حبيس حدود محيط الواقع المحسوس ، والفكر الصوري المجرد ، والمجال المادي الضيق ، الذي يعيش فيه إكراما وتوجيها له ، حتى لا يضيع الجهد والوقت في البحث في مجال ، الفشل في الوصول إلى نتيجة إيجابية فيه مؤكد ومحسوم . لأنه من جهة غير قابل للإدراك الحسي ، التجريبي الواقعي ، أو العقلي الضروري ، ومن جهة أخرى ، فإن الإنسان لا يملك آليات ومستلزمات البحث في مجال الغيب إلا بتوجيه من الوحي الإلهي .

والنصر في الجهاد في سبيل الله نوع من الغيب ، الذي أحاطه الله بعلمه وحجبه عن غيره ، فالنصر والهزيمة وأمر تدبيرهما يرجع إلى الله وإلى علمه وقدرته وحده . لقوله تعالى : [ ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ] ( سورة هود آية 123 ) . ولكن الله سبحانه وتعالى أطلعنا على بعض أسبابه وحدد لنا شروطه الموضوعية ، فإن هي توفرت وإن نحن أخذنا بها تحقق لنا النصر لا محالة . أولها :

 الإيمان مع العمل ، بأن ما يمكن أن يصيبنا ، لم يكن ليخطئنا ، وما أخطأنا ، لم يكن ليصيبنا ، وأن أقصى ما يمكن أن يلحقنا من أذى وسوء وشر البشر ، هو ما أراده الله وكتبه لنا . [ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المومنون ] ( سورة التوبة آية 51 ) وأن الموت كتاب مؤجل وهو حق لا يفلت منه أحد [ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ] ( سورة النساء آية 78 ) والرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد ويفسر ما ذهب إليه الوحي فيقول : { يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجدهتجاهك إذا سألت فاسأل الله ، إذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف } ( رواه أبو العباس عبد الله بن عباس رصي الله عنهما } . وهذا لا يعني الاتكال على ما سطر في الأزل وقدر ، بل لا بد من العمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله } ( رواه مسلم عن جابر بن عبد الله ) .

الدعاء والاستغاثة من الله عامل أساسي لتحقيق النصر ولتدخل الله بجنوده التي لا يعلمها إلا هو " [ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ] ( سورة الأنفال آية 9 – 10 - ) و هو جهاد لا يقل أهمية عن جهاد السلاح ، بل هو أكبر وأهم ، ولقد شاهدنا ما تفعله صيحة الله أكبر في العدو من رعب وزلزلة للأقدام ، وقد يكون التكبير والتهليل وحده كاف لحمل جند العدو على الفرار . والرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا كان في جميع غزواته يجتهد في الدعاء والابتهال إلى الله ، إلى درجة أن الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر رضي الله عنه كانوا يشفقون عليه من كثرة التذلل لله والابتهال إليه وبكائه عليه . وهذه نماذج من أدعيته صلى الله عليه وسلم : في يوم بدر دعا بقوله :{ اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، الله إن شئت لم تعبد } ( رواه البخاري ) ويوم غزوة الأحزاب كان يدعو بقوله : { اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اهزمهم وزلزلهم } ( رواه البخاري ) ويوم عزمه على فتح مكة دعا بدعائه : { اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها } ( رواه الطبراني ) ويوم حنين دعا بقوله :{ اللهم نزل نصرك ، اللهم إني أنشدك ما وعدتني ، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا } ( بن كثير سيرة النبوة ) . والإمام الشافعي رحمه الله يحذر من الاستهانة بالدعاء فينشد قائلا

 : أتهزأ بالدعاء وتزدريه §§ وما تدري بما فعل الدعاء

 : سهام الليل لا تخظىء ولكن §§ لها أجل وللأجل القضاء

وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرشدنا إلى أهمية الدعاء فيقول : ( إني لا أحمل هم الإجابة ولكني أحمل هم الدعاء ) . فالدعاء أثناء الحرب ( بدر وحنين ) وقبل الحرب ( الأحزاب وفتح مكة ) هو سر نصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في غزواتهم للمشركين . فالنقتد بهم إن أردنا أن ننتصر .

ومن الإيمان بالغيب ، الإيمان بالملائكة كقوة خفية ضاربة .... يتبع